-2- (*) ولكن قد يتعذر على الباحث استكناه الطابع الاختبارى عبر النظرية اللسانية عند ابن خلدون إن هو لم ينزلها منزلتها من المستندات الاصولية التى احتكم اليها خطه الفكرى ، فلنعرض لها فى تلميح واقتضاب يغنيان أهل الذكر عن تفصيلها ، وقد يستحثان الفكر الى استكمال النمط الاستدلالى من مواقع الاختصاص الاخرى .
وأول ما يتراءى لنا من هذه الركائز الاصولية والكليات المنهجية هو اعتماد المفهوم البيولوجى ، ونعني به احتكام ابن خلدون الى بعد المادة فى ظواهر الوجود عامة وظواهر الحياة الانسانية على وجه مخصوص ، وليس لهذا الاستناد - فى تقديرنا - ما خيل لبعضهم من نزعة مادية بالمعنى الذي يبوئ للمادة منزلة الحكم المفسر لعوارض الوجود ، والذى تنتفي معه سلطة ما وراء المادة سواء فى تحريك السلوك ، أو تفسير العقل للسلوك ، ولم يكن ذلك من بعض هؤلاء الباحثين الا اسقاطا مرآويا سببه جموح القراءة المسلطة على الحدث بما تأخر نشوؤه فى الزمن عن الحدث نفسه ، ولسنا نتهم منهجا ما فى البحث ولا ندين رؤية مخصوصة فى تأويل الميراث الفكرى ، وانما مقصدنا أن يتوضح خط الفصل بين الاستنطاق الرأسى الهادف الى اعادة كشف النص الفكرى ، والتأويل الصادر عن توظيف القراءة توظيفا فكريا أو عقائديا .
فالمقوم البيولوجى قد كان مستندا اختباريا تعامل معه ابن خلدون تعامل المخبرى مع لوحات التشريح لان حيرته القصوى تركزت على تحويل التخمين الى مشاهدة عينية بغية ارساء قواعد التصور التجريبى ، لذلك كان مفهوم التجربة أو المعاينة ذا مرتبة غالبة فى تفكير واضع علم العمران ، ولا نكاد
نتردد فى أن ثمرة هذا المقوم البيولوجى قد تجسمت فى ايقافه ابن خلدون على قانون جوهري له من العمق والشمول ما للكليات أحيانا ، ألا وهو قانون الحاجة ولو أخذت الفكر الخلدوني في مظهره الاستقرائى لوجدته نسيجا متظافرا : لحمته اقتضاء الحاحة في الوجود ، وسداه ارضاء الحاجة بغية الوجود ، وبين تحتم الحاجة وتعين سيدها يتراءى نموذج الحياة الفردية والجماعية وهو ما يجيز لنا القول بأن قانون الحاجة هو المحصلة الفيزيائية لقوتين ضاغطتين : قوة الاقتضاء الخارجى ، وقوة النزوع الداخلى ، فالاولى تستجمع الحاجة المتسلطة على الانسان بوصفها تحديا لوجوده ، والثانية تشكل مسعى الانسان الى الاستجابة الطبيعية .
فالذى نعنيه بقانون الحاجة هو هذا التركح الذى عليه الانسان مدة وجوده بين ضغط الحاجة ودافع ارضائها ، وهذا القانون فى تقديرنا هو الرسم البيانى المفسر للوجود الانساني من خلال بعده البيولوجى وذلك حسب تصوير ابن خلدون طبعا .
ومن رام استغراق هذا القانون فى صلب المقدمة واماطة اللثام عن المقوم البيولوجى فى التفكير العمرانى توصل بيسر الى فهم هذا الناموس المبدئى اذا فى حوضه يتنزل تفسير ابن خلدون لغريزة حب البقاء ، ولضرورة دوام النوع ، فأما الاولى فهى ظاهرة فردية وأما الثانية فهى ظاهرة جماعية صدرت عن الاولى لان فى سعى الفرد الى البقاء تعزيزا لمسعى الجماعة الى الوجود .
وهكذا يتسنى للباحث لو رام استنزاف عناصر الموضوع بالبحث الكاشف والدرس الناقد أن يستنبط ملامح التنضيد على سلم الاقتضاء البيولوجي اذ هو واجد درجة أولى من درجات ناموس الحاجة هي درجة الاقتضاء الغذائى ، ودرجة ثانية هي ضرورة الاحتماء الطبيعى فى الملبس والمسكن واتقاء الموجودات المتسلطة عليه بالافتراس ، ودرجة ثالثة هى حاجة التآزر البشرى لان فى نعاون الفرد مع الافراد ما يعينهم على سد كل حاجاتهم وأكثر ، وفي عزلة الفرد عن الافراد قصوره عن سد أدنى ضروراته كما سنبينه فى موطن آخر ولغاية أخرى .
فاذا استقام تفسير هذه الظواهر طبقا لقانون الحاجة من حيث هو تركح بين طاقتين متجاذبتين تسنى بالمجادلة والاستنباط تنزيل فكرة الوازع فى نفس المساق الفكرى وتبين اندراج صورته ضمن تولد سد الحاجة نفسها . وليس
يعزب عندئذ أن نكشف عن هوية قانون العصبية فليس هو - فى تقديرنا - إلا نموذجا أقصى لهذا المقوم الاول من مقومات الاصول المبدئية ، بل ليس اكتشاف ابن خلدون لقانون العصبية الا ثمرة لتصوره الاختبارى ، أما من حيث المنطلق الفكرى فان التآزر العصبي هو تماما جنيس عمليات متآخية ، هو جنيس تناول الانسان للثريد خوفا من الفناء ، وارتدائه لما يقيه قر البر أو حر القيظ ولجوئه الى ما يحميه من حيوان لادغ أو مفترس وتكاتفه مع أفراد مجتمعه لتحصيل تلك العناصر نفسها لقمة ورداء وملجأ ، وهكذا يتنزل التفكير السياسي في صلب البعد البيولوجى فيأتى من هذا التنزل مظهر جديد من مظاهر علم التاريخ على يد ابن خلدون .
أما المستند الأصولى الثاني ضمن الكليات المنهجية فى منظومة ابن خلدون فهو البعد العقلانى - بالمعنى المنهجى قبل المعنى المتحمض الى التفسير الفلسفي - ولا ريب أن الثمرة الكلية ضمن نظرية ابن خلدون فى هذا المقام قد جاءت حصيلة ثمار فرعية من أهمها الاحتكام الى الناموس المعقلن للوجود بعد ناموس الحاجة المحركة للوجود ، ويتبلور هذا البعد حسب زوايا تقديرية متنوعة ، منها مبدأ اقتران كل معرفة بعملية التجريد لانه الملكة المجسمة لعقلنة الظواهر في نشوئها ووجودها وانسلاخاتها ، فالتجريد قبض على عنان التحريرية وبالتالى تمحيص للمتصورات انطلاقا من وقائعها المحسوسة أو مظاهرها المعاينة فطبيعي أن تكون التجربة أساسا لكل معرفة مثلما أن أساس كل معرفة إنما هو استنباط المجرد من المحسوس .
إن استكناه ناموس التجريد من حيث هو الطاقة المعقلنة للظواهر قد مثل حيرة منهجية قصوى لدى ابن خلدون الى الحد الذى استحال معه أسا أصوليا ذلك أن الاصل فى الادراك - حسب عبارة ابن خلدون نفسه انما هو - المحسوسات بالحواس الخمس ، وجميع الحيوانات مشتركة فى هذا الادراك من الناطق وغيره ، وانما يتميز الانسان عنها بادراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات " (11) وهذا ما يسميه ابن خلدون " سعى الفكر " الذي غايته
فى الحقيقة راجعة الى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هى معرفة حقائق الاشياء التى هى مقتضى العلم " (12) .
على أن روح الاختبارية فى أصولية ابن خلدون ، مما صادرنا عليه ابتداء ، هى التى وقت صاحبها من جموح العقلانية المجردة ، فلم يذهب هذا المنهج بصاحبه الى حد اسقاط التصورات التجريدية على الوقائع الحادثة ، ولا الى حد اعتماد القوالب الماقبلية فى صياغة النواميس المحركة للظواهر ، بل إن الخط الاختبارى قد حتم الاستناد الى مبدئين منهجيين : أولها القول بأن مسيرة الاحداث ليست عشوائية ولا هي تعسفية مطلقا ، وانما تحكمها ضوابط داخلية تمثل منطق انتظامها فى الوجود ، وثانيهما التسليم بأن العقل قادر على اشتقاق قوانين الظواهر من ذات الظواهر ، وذلك بانتزاعها عبر التجريد بعد المعاينة .
فكل حادث اذن معقول ، أى ليس من الظواهر ما ينقض مبدأ العلية فى التواجد ، فكل حدث حامل لدلالته فى ذاته بمعنى انه يحوى فى صلبه نظامه التركيبي ، ثم ان كل معقول لا بد أنه يتعقلن اذ ليس من ظاهرة حادثة الا والعقل متوصل الى كشف بنائها التكوينى القابع وراء تجلياتها (13) .
فمن موقع هذا البعد الاختبارى ، وعلى أساس الايمان بقدرة العقل على عقل المعقولات ، أو قل بتعبيراتنا المتولدة عن التصور الفلسفى الحديث ، على أساس الايمان بقدرة الانسان على عقلنة الموجودات ، انبرى ابن خلدون ينقد منهج المؤرخين قبل أن يؤسس ضوابط العلم تأسيسا متفردا ، فعرف العلم بشرائطه ، فذكر المعارف المتنوعة وحسن النظر والتثبت ، ثم استطرد الى بيان مصادر الزلل ومسبات الطعن فى فن التاريخ فاذا هو يجيء بقواعد المنهج العقلاني لتخذه حكما على النقل وفيصلا في أمر الاخبار (14) .
ويعود ابن خلدون الى هذا المعيار العقلانى بعد أن نضجت مقوماته خلال بسطه لموضوع علمه ، فيستدل بالخلف على هذا البعد الاختبارى ويوضح الشئ بضده اذ يستشير الى مصادر الكذب فى أخبار المؤرخين قائلا : " ومن الاسباب المقتضية له أيضا ، وهي سابقة على جميع ما تقدم ، الجهل بطبائع الاحوال فى العمران فان لكل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه فى ذاته وفيما يعرض له من أحواله ، فاذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والاحوال فى الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك فى تمحيص الخبر على تميز الصدق من الكذب ، وهذا أبلغ فى التمحيص من كل وجه " (15) .
وهكذا يفضى هذا المنهج بابن خلدون الى سن قانونه المبدئى الذى يتبوأ منزلة المقوم الاصولى لانه يأخذ مسلك الكليات المطلقة ونعني بذلك قانون المطابقة باعتباره الثمرة الاختبارية القصوى فى منهج الاحتكام الى العقل والإيمان بطاقة تجريد المعقول من مظان الوقائع والاحداث ، ولم يكن شئ مما تستنبطه اليوم يخفى عن وعي ابن خلدون ، اذ نراه بصريح الادراك منظرا
لقانون يلتمس به الوجه البرهانى على حد اصطلاحاته بنفسه : " وأما الاحبار عن الواقعات فلا بد فى صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه ، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه اذ فائدة الانشاء مقتبسة منه فقط ، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة ، واذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل فى الاخبار بالامكان والاستحالة ان ننظر في الاجتماع البشرى الذى هو العمران وتمييز ما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضا لا يعتديه وما لا يمكن ان يعرض له ، واذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا فى تمييز الحق من الباطل فى الاخبار والصدق من الكذب بوجه برهانى لا مدخل للشك فيه " (16) .
فقانون المطابقة اذا أدرجناه ضمن المنحى الاختبارى فى الاصولية الخلدونية وجدناه بالنسبة الى البعد العقلانى جنيس قانون الحاجة فى البعد البيولوجى. على ان كلا البعدين قد تفاعلا عضويا فى جدلية التفكير الخلدوني ، وبتفاعلهما تصاهر كلا القانونين المنبثين عنهما : قانون الحاجة وقانون المطابقة ، فاذا بالثمرة الاصولية تأتى تلقائيا ، ألا وهي تولد علم العمران انطلاقا من نقد علم التاريخ . ومن الطبيعى ان يتفرد ابن خلدون بانجاز هذا العبور الاصولى اذ فى نقد العلم توليد للعلم ، وبالتالى فانه بقانون المطابقة قد اخصب المعرفة المتصلة بقانون الحاجة .
ولم يرد كل ذلك عفوا ولا ارتجالا ، كما لم يرد اشتقاقنا لانتظامه التصاعدى تعسفا ولا جموحا ، وانما صاحب العلم - من حيث هو واضعه وضابط قواعده - قد وعى انجازه المعرفي واستوعبه أصوليا ، وهذا ما جوز لنا الحكم بأن الروح الاختبارى لدى صاحب المقدمة هو روح توليدى على صعيد المعارف كليا .
ورشيق هو النص الذي يصور فيه ابن خلدون وعيه بمكابدة وضع العلم الاجتماعى وانشاء المعرفة العمرانية (17) ، وأكثر منه رشاقة ما حبره وهو
يتحرى التوسط بين وضع العلم ونقده ، اذ كان حريصا على تخليص مادة العلم من مضمون علم العلم ، وفي هذا السعى اجراء لخط الفصل بين محتوى المعادلة المعرفية الاولى ومحتوى المعادلة من الدرجة الثانية كما وضحنا آنفا ، ولابن خلدون تحرز يتوجس فيه الخلط ، اذ ليس من منظورات صاحب العلم اثبات موضوع علمه ، فان هو سعى ذلك السعى فان فى ذلك خروجا من " العالم " الى " الأصولي " ولهذه الاسباب المبدئية تحرى ابن خلدون ابراز حواجز الفصل ، وهو يتتركح على قطبين معرفيين لانه كان فى منزلة نوعية : كان عالما ، وناقدا لأصول علمه ، ثم واضعا لعلم جديد ، فكان حريا به أن يقول : " .. فاذن هذا الاجتماع ضرورى للنوع الانسانى ، والالم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه اياهم ، وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم ، وفي هذا الكلام نوع اثبات للموضوع فى فنه الذى هو موضوع له ، وان لم يكن واجبا على صاحب الفن ، لما تقرر فى الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم ، فليس أيضا من الممنوعات عندهم ، فيكون اثباته من التبرعات ، والله الموفق بفضله " (18) .
واذ قد تجلى تناسح المقوم البيولوجى والمقوم العقلانى بما أثمر لوحة التشريح الاختبارى فان بعدا ثالثا قد جاء يعززهما ليستكمل واياهما حقيقة السند الأصولى فى تفكير عبد الرحمان ابن خلدون ، ويتجسم هذا البعد الثالث فى التشكيل الصورى المرتبط باستتباع حقائق الظواهر في رسمها البياني الذي ينصاع للصياغة التشكيلية ولذا فقد لا نجازف إن أسميناه بالبعد الرياضى باعتباره أسا منطقيا جدليا يتخذ صورة القوانين المجردة فى شكل المعادلة البرهانية ، ومن البديهى ان التشكيل الرياضى ، على صعيد المعارف ،
هو الصورة القصوى لكل تجريد ذهنى وبالتالى فهو معيار ضبط الكليات التصورية قطعا .
ولسنا نزعم في هذا المضمار أننا نستوفى البحث فى هذا المقوم ، فطبيعه الموضوع - إذا ما اتخذ غرضا مصرفيا لذاته - تستوجب استقصاء حديث ابن خلدون عن قطاع المعرفة الصحيحة من جهة وتتبع كل مراحل الصياغة البيانية الطابع التشكيل من جهة اخرى وهذا ما قد يفرغ له بالدرس والاستنباط ذوو المشرب المختص بالبحث في أصولية الفكر الرياضى . ولكننا لا نروم شيئا من ذلك ، وانما نقصد فحسب التلميح الى وجود ترابط برهانى ذى احتكام رياضي في صميم المنهج الاستدلالى لدى ابن خلدون بالذات ، فحيرتنا إذن منهجية أصولية أكثر مما هى استقصائية مختصة ، لاننا نراهن بوجود هذا المقوم الرباضى فى حد ذاته كما نراهن بتفاعله العضوى مع البعدين الآخرين : البعد البيولوجى والبعد العقلاني .
ان ابرز ما يتسنى اشتقاقه من الفكر الخلدوني فى هذا المقام بغية صوغه على المعيار الرباضي هو ارتكازه على مبدأ التناسب باعتباره ناموسا إجرائيا يفعل فعله في الحوادث والواقعات ، وباعتباره قانونا تجريديا يوفر للعقل لحظات من السيطرة على الظواهر في الوجود . ولمبدإ التناسب سلطان غريب في تفسير مقومات الحدث الانسانى ، كما ان له نزوعا واضحا الى تخلل كل تجليات التواجد العمراني ، وقد أحكم ابن خلدون استغلاله الى مرتبه غدا معها أسا معرفيا نزعم أن له بموجب ذلك طاقة المقوم الأصولى العام ، فليس قانون التناسب مجرد تشكيل صورى ، ولا هو مجرد إسقاط ذهنى ، وانما هو وقوف من ابن خلدون على حقيقة مزدوجه : قدمها الاولى فى حقل الواقع المعيش ، وقدمها الثانية في حبز التصور المعرفي . ولكل تلك الاسباب اكتسى هدا القانون طابع الاختبارية مما ترتكز عليه نظرية ابن خلدون فى المعرفة والادراك .
ولمبدإ التناسب صور يتجلى بها ، منها صورة المعادلة الجبرية التى تتحدد علاقة الطرفين فيها ، لا بالطرد ولا بالعكس ، وانما بالتكاثر والرجحان ، بمعنى ان التناسب الجبرى وان انضوى فى سلم التزايد المطرد فان أحد طرفيه يتفرد بتصاعد يختلف قدره عن نسبة التزايد فى الطرف الآخر ، فتصبح النسبة المعقودة بين طرفى المعادلة هي نفسها متحركة اذ تتصاعد وفق رسم جبرى مخصوص ، فيكون التناسب بين الطرفين هو ذاته مرفوعا الى قوة ما بحيث اذا كانت (س) تتضمن قيمة معينة هي (ق) ، فان دخول (س) فى تعامل عددى تتضاعف فيه تبعا للعدد (أ) ينتج عنه أن (ق) تتضاعف عندئذ تضاعفا يجاوز حجم (أ) فيصبح مرفوعا الى القوة (ن) كما لو أن :
س ق أ ( س ) به ق × أ ن هذا النموذج من التناسب نجده مفتاحا فى كشف ابن خلدون لحقيقة موضوع العمران ، لأنه العامل المفسر لضرورة الاجتماع الانسانى فى حد ذاته ، وصورة ذلك أن الاقتضاء البيولوجى يرضخ الانسان الى قانون الحاجة كما سبق أن بيناه ، وهذا القانون هو بمثابة التعادلية المستمرة يسعى اليها الانسان متركحا بين الحاجة وسد الحاجة ، أى بين تحدى طبيعته له واستجابته لذلك التحدى ، غير أن ارساء التعادلية متعذر اطلاقا على الانسان فى وجوده الفردى ، فهو اذن كائن متبدد طالما تصورناه منعزلا ، ولكن اجتماع الفرد الى الفرد هو الذي يخلق التناسب الجبرى لان فى اجتماع الافراد حصولا لما يوفر حاجة هؤلاء الافراد وأكثر ، وهكذا كلما تظافر الافراد فى وجودهم العددى توصل محصولهم الى فوائض فى القيمة تتزايد تزايدا متصاعدا فى الحجم والنسبة .
هكذا يصبح الفرد مثال الطرف الاول فى المعادلة ، الذي هو (س) . ومحصوله القيم هو الطرف الثاني (ق) ، ويكون التضاعف العددى (أ) مقتضيا لتضاعف القيمة على نسق جبرى بحيث إن الفوائض تجسمها القوة (ن) التى ترفع اليها ( أ ) فى الطرف الثاني من المعادلة .
وهذا القانون منسحب على كل الظواهر فى الوجود الانسانى من المأكل الى الملبس ، ومن المسكن الواقى من عوارض الطبيعة الى المكمن الحامي من موجوداتها الضارية ، ومن رام تتبع هذا المبدأ التناسبى من حيث هو ناموس أصولى كفاه الرجوع الى مقدمات الباب الاول فى " العمران البشرى على الجملة " ولم يكن إطلاق ابن خلدون على ذلك لفظ " المقدمات " إلا صورة للوعى المعرفي ذى العمق الأصولى ، ولكن لو فتشنا عن نموذج هذا التشكيل الرياضى فى صلب هذا السياق لألفيناه جليا فى هذه الصياغة المقتطفة : " إن الله سبحانه خلق الانسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها الا بالغذاء وهداه الى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله ، الا ان قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه (..) ويستحيل أن توفى بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد ، فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف " (19) .
ومن الصور التى يجيء عليها مبدأ التناسب فى تفكير ابن خلدون صورة المعادلة الهندسية ، حيث يقترن طرفاها بنسبة معقودة ترتكز على خاصية التوالد المطرد ، لأن هذا الضرب من الارتباط بين السبب والنتيجة تتظافر عليه مكونات التراكم الكمي الذي يتحول الى إفراز نوعى ، فيكون بين محصول الكم ومحصول الكيف اطراد في القيمة يسدد التفاوت فى الحجم ، وهكذا يتخذ هذا التناسب الهندسي شكل البناء الهرمي حيث تتحكم قاعدة البناء فى ضرورة قمته بحيث لا تأتي البنية الفوقية الا تولدا عن سلم البناء والانتظام في الهرم بكلياته .
أما نموذج هذا التناسب فنجده متخللا نسيج التفكير الخلدوني في نشأة العلوم والمعارف انطلاقا من استكمال ضرورات المعاش فى الوجود الانسانى . ويقف ابن خلدون في هذا المسار بوعى معرفي حاد ، وتجريد علماني مركز على ظاهرة تولد الحاجة الفكرية حالما تسد الحاجات العضوية ، وهو ما يفضي بالاجتماع الانساني الى التفرغ للنشاط العقلي بمجرد إحكامه سبل الكسب والمعاش فيما هو ضرورى لبقائه ، فتتولد عندئذ العلوم والمعارف بالتدرج والملاحقة ويكون بناؤه هرمي التكوين : قاعدة الهرم هي البنية المعاشية وسنمه هو البنية المعرفية ، أما صور الهرم الاجتماعى وسياجه فانما هو الدولة ذاتها ، وهنا سر آخر - على حد تصريح ابن خلدون - وهو أن الصنائع واجادتها انما تطلبها الدولة فهى التى تنفق سوقها وتوجه الطالبات اليها ، وما لم تطلبه الدولة وانما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها ، لان الدولة هى السوق الاعظم وفيها نفاق كل شئ " (20) .
وهكذا يكون تولد العلوم متناسبا على قدر مخصوص من ازدهار قاعدة الهرم ونمائها لأنها صورة المعاش وحقل الاقتصاد (21) .
على أن مبدأ التناسب يتخذ شكلا ثالثا فى مظان الفكر الخلدوني فيأتى على صورة المعادلة الفيزيائية التى تنطلق من حضور الزمن فى كل تعامل حركى مع الوجود ، ذلك أن محصول القوى المختلفة انما يتحدد بنسبته من الزمن ، وليس للظواهر - سواء البشرية منها أو الطبيعية - من فعل أو تحويل أو صيرورة الا بمقتضى نسبة قواها من الزمن الصائرة فيه .
فالزمن اذن هو معدل التكافؤ أو الرجحان بين الفعل ومحصول الفعل ، لذلك فان بين الزمن والفعل تناسبا عكسيا فى تحديد المحصول الواحد ، لمعنى أن ثمرة تفاعل القوة فى الزمن تتجسم قطعا فى محصول محدد ، فاذا تضاءلت القوة ازداد الزمن حتما لبقاء نفس المحصول . واذا تضاعفت القوة تناقص الزمن بالضرورة .
فاذا اعتبرنا أن محصول القوة فى الزمن هو فعل ورمزنا اليه ب ( س ) كان لدينا : س = قوة × زمن وعن ذلك يترتب بالضرورة أن القوة هى نسبة المحصول على الزمن بحيث : قوة = س ---- زمن وان الزمن هو مطابق لنسبة المحصول على القوة : زمن = س ---- قوة
وهذا ما يحدد قانون التناسب الفيزيائى باعتباره ناموسا يحقق اطراد الظواهر ويمكن العقل من تشريح تواترها وعقلنة حركتها .
ولا شك أن أهل النظر في أصولية العلوم الصحيحة لو تفرغوا الى استنطاق مقدمة ابن خلدون طبق رؤاهم لتوصلوا الى الاستدلال على عمق هذا القانون ولأعانونا على سير أغواره الأصولية فى المنظومة الفكرية العامة ، ولكننا - من موقعنا المعرفي المخصوص - نكتفى برسم نموذج ندلل به على ثبوت هذا القانون الفيزيائى دون أن نزعم استيعابه كليا فى ثنايا المقدمة .
لقد جاء هذا النموذج في معرض حديث ابن خلدون عن " إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها" . ومنطلقه فى الموضوع استبانة الشرائط الاولى التى تتم بها عملية النشوء فى الظواهر ، ويحدد منذ البدء قانونا تكوينيا يستوجب اجتماع " المولدات العنصرية " على نسبة متفاوقة " اذ لو كانت متكافئة فى النسبة لما تم امتزاجها " . فلا بد من جزء يتغلب فى الامتزاج على العناصر الاخرى ، وهو مبدأ طبيعي في تفاعل عناصر الكون جملة ، ثم يتعين حصول طاقة حرارية مؤثرة اذ " لا بد فى كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هى الفاعلة لكونه ، الحافظة لصورته " وعندئذ يأتى ناموس الزمن لأن عملية الفعل والتأثير تقتضى فى أطوارها رسما من التواقت يسميه ابن خلدون " زمن التكوين " (22) .
من هذا المنطلق يتضح كيف ان كل عمل بشرى انما هو بوجه من الوجوه " مساوقة لفعل الطبيعة " ، ولا مساوقة الا بالاذعان الى سلطان الزمن والرضوخ الى معادلته ، وهكذا يضع ابن خلدون يده على قانون النسبية بين الزمن والفعل ويهتدى الى أن التناسب طردى بين عنصر الزمن وقيمة المحصول مثلما أن هذا التناسب يغدو عكسيا بين الزمن وطاقة التأثير عند البقاء فى حدود المحصول الواحد ، لأن " مضاعفة قوة الفاعل - على حد تعبير ابن خلدون - تنقص من زمن فعله " و " إذا تضاعفت القوى والكيفات فى العلاج كان زمن كونه اقصر من ذلك ضرورة " . كما أن مقدار الزمن إذا تناقص " ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه " (23) . - يتبع -
