الدكتور روبرت هجنس رئيس جامعة شيكاغو الاسبق ومدير معهد الدراسات الدمقراطية فى كاليفورنيا . كان يعد من أساطين الفكر التربوى " اللزومى " Essentialist فى الولايات المتحدة الامريكية فى النصف الاول من هذا القرن . إنه حرر مقالا تربويا لدائرة المعاضر وتفضل بارسال نسخة منه لكاتب هذه السطور طالبا تعليقه عليه .
وفيما يلى ترجمة رسالتى الى الرئيس هجنس معلقا على ذلك المقال . وقد اعلمني بعد استلامه تعليقي بأنه أعاد كتابة مقالة آخذا بعين الاعتبار ما جاء فى تعليقى هذا :
عزيزى الرئيس هجنس : تلقيت بسرور عظيم رسالتكم المؤرخة 14 جانفى 1963 شاكرا صديقنا المشترك القاضى " جسب " الذي عرفكم بشخصى . وفى الحقيقة انى قد سبق ان سررت بمصافحتكم فى حفل استقبال يوم كنت طالبا فى جامعة شيكاغو . فقد قضيت الربع الصيفي لسنة 1930 في مدرسة التربية فى جامعة شيكاغو ، ذلك يقصد ايجاد اتزان في النظرة التربوية التى كنت أتلقاها فى كنية المعلمين بجامعة كولمبيا حيث كنت أتخصص فى علوم التربية . إن هذه النقطة فى حد ذاتها قد تشير الى موقفى التربوى . فبعد ان درست باخلاص على أساتذتي في جامعة كولمبيا من أمثال الاساتذة : كلباترك وباغلى وكاونتس وثورندايك الخ ... شعرت بأن سفرى الى جامعة شكاغو قد يزودنى بنظرة تتسم بالشمول والاتزان على التربية الامريكية . ذهبت الى جامعة شيكاغو ودرست على الاساتذة جد وفريمان وبوبيت فى التربية وعلم النفس ، وعلى الاستاذ ردفيلد فى علم الانثروبولوجى .
ومنذ الصيف الذى قضيته فى جامعة شيكاغو وأنا أتتبع باهتمام ما قدمتموه من عطاء جزيل للفكر التربوى فى الولايات المتحدة . ولقد قرأت بشوق عميق مقالكم فى التربية وانى اتفق مع الكثير مما جاء فيه . ويطيب لى أن أعرض عليكم بعض تفكيرى التربوى ملخصا فى رؤس الاقل الاقلام التالية :
(1) لا تستطيع أية مدرسة من مدارس الفلسفة التربوية لوحدها أن تكون وافية لتوجيه الانسان ، كل الانسان ، فى حياته المعقدة الواعية منها واللاواعية . فكل مدرسة فلسفية لديها ما تقدمه من عطاء . فعلى المختص فى شؤون التربية أن يكون مفتح الذهن وان يستفيد من كل مدرسة فلسفية بدون تعصب أو ضيق نظر . وهذا يصدق على الفلسفة المثالية كما يصدق على الفلسفات الطبيعية والواقعية والعقلانية والعملية والوجودية الخ ...
(2) أنا لا اؤمن بانشط حياة الانسان . ولا بتعريف ماهية الانسان تعريفا ضيقا . ففي نظري ان مزايا الانسان لا تقتصر على نواحيه الجسدية والاقتصادية والاجتماعية . بل ان نواحي حياته الفكرية والاخلاقية والجمالية والروحية هي التى تميز انسانيته . وفي معتقدى إن مهمة التربية الاساسية هى العناية بتنمية كل المواهب الطبيعية للانسان سواء أكانت قدرته على استعمال الآلة او استخدامه ذكاءه أو تمتعه بالفنون الجميلة أو ضميره الاخلاقي أو ملكته العقلية أو اعتقاده بالله . فكل هذه الامور مهمة فى حياة الانسان وكلها تتطلب تنمية موحدة ومنسجمة .
أنا لا اتفق مع الفلسفة التربوية التى تكتفى بصنع رجل الفكر الذي يسكن البرج العاجي . كما أني أرفض الفلسفة التى تجرد الانسان من مزاياه الروحية أو التى تجعل منه ناسكا متقشفا . إن صورة الانسان الكامل فى ذهنى هى صورة الانسان الذي نمت كل مواهبه نموا منسجما والى أرفع مستوى ممكن .
(3) إنى أعتقد بأن الانسان ، كل إنسان ، ينبغى أن يعطى الفرصة لينمو إلى أعلى درجة ممكنة . وإنى لآسف لبعض نظم التربية التى تهمل العناية بالناحية الروحية للانسان . كما إنى لآسف لنظم التربية التى تربى الاطفال وكأنهم طيور فى قفص يزقون بمحتويات الكتب والحفظ اللفظي منعزلين عن الحياة والطبيعة .
(4) إنى اتفق معكم في ضرورة توفير تربية أساسية لكل بنى البشر . على أن تكون الانسانية هي الاساس لهذه التربية . والانسانية ينبغى ان يفهم بأنها الاخاء والمحبة والرحمة بين شعوب كل الامم وكل العناصر وكل
المعتقدات . والانسان ينبغي أن يربى ليعرف نفسه وبمعرفته لنفسه ينبغى ان يرتفع الى المثل الأعلى الالهى ولا سيما فى حقل الامانة وحب الحقيقه والمحبة والرحمة والغيرية .
(5) إن تربية الانسان فى تراثه القومى الحضارى يبغى أن توجه لاثراء التراث الانساني ولا يصح أن يكون التراث القومى فى معزل عن الحضارات الاخرى . واني أتفق معكم بأن من المرغوب فيه أن يعرف الانسان لغه اجنبية واحدة على الاقل ولكنى لا استطيع أن أجعل ذلك اجباريا لكل مواطنى العالم إذ الامر يتوقف على الميول والمواهب والامكانيات .
(6) من المهم جدا أن يربى الانسان على الروح الرياضية وأن يتعلم بأن العنف ليس أسلوبا انسانيا . وان الدمقراطية التى هى المثل الاعلى للانسان الحديث لا يمكن أن تنجح ما لم نتعلم احترام وجهة نظر الآخرين وتقديرها حق قدرها . فالدمقراطية ينبغى أن تصبح الاسلوب الذى بموجبه نسير علاقاتنا الانسانية من أصغر عائلة الى أعلى منظمة دولية . ولكن الدمقراطية تعنى الاستعداد للاصغاء الى الطرف المقابل كما تعنى تربية كاملة فى الصبر .
(7) إن أعتقد أن الفكر الانسانى (الذكاء ) ينبغى أن يستخدم فى كل المستويات التربوية . فالانسان لا يصح أن يصبح مجرد آلة ميكانية وهذا يجعلني لا أشاطركم الرأى فى عدم تمييزكم بين التدريب والتهذيب . فانى أفضل أن استعمل كلمة التدريب للحيوانات على الكثر وكلمة التهذيب للانسان .
(8) أنا لا أشاطركم آراءكم حول تربية المعلمين . انا أعتقد بأن المعلم الحديث يحتاج إلى أن يستنير فى مهنته بما تزوده به فلسفة التربية وتاريخ التربية . كما انه ينبغى ان يربى ليستستطيع التمييز بين أساليب التعليم المختلفة ومعرفة الصالح منها والضار . وهذا يتطلب معرفة كافية لعلم نفس الطفل وعلم نفس التعلم . إن عملية التدريس عملية معقدة بدرجة تجعل التدريب على آليات التعليم غير كاف لنجاح المعلم . فالمعلم الجيد يحتاج الى الحكمة والمعرفة التى يوفره له الاعداد المهنى .
(9) إنى اتفق معكم بأن انتشار وسائل الاعلام والاتصال من جهة وتوفر الفرص الجديدة لأوقات الفراغ من جهة أخرى ينبغى ان يسمحا للفرد بأن يسير على مهل فى نموه التربوى . وان التربية ينبغي أن تؤكد الافرادية فى نواحى الحياة الفكرية - والجمالية والروحية الى
جانب التأكيد على الجماعية فى قضايا الترفيه والعمل الاجتماعى . وإنى بكل تأكيد لا ادعو الى حشر الطلاب بنين وبنات فى المدارس مع فرض أوقات محددة على تربيتهم وجعل سيف الامتحانات والحصول المستعجل على الشهادات مسلطا على رؤوسهم . ففي رأيه أن الطال ينبغي أن يشعر بحريه تامه وبراحة في تلقيه تربيته . ربما ان التربية تلازم الانسان طوال حياته فلا يجوز أن تصبح عامل ضجر وحشو للمعلومات .
(10) إني أؤمن بالفروق الفردية وبعلاقتها بالتخصص في شتى مناحى الحياة . ولذلك أرى أن يكون برنامج التربية ثريا بالنواحى الفكرية والعملية والفنية ليلبى رغبات وقابليات الافراد المنوعة . المهم هو أن يشترك الجميع فى لحصول على الاسس الضرورية فى درس العلوم الانسانية وهى العلوم التى تنمي ازدهار الانسان فى الحرية والكرامة الانسانية .
(11) إن حرية الاختيار وتنويع الاختصاص لا يجوز ان يعنيا تربية سطحية او انضباطا رخوا . فاذا وجهت قابليات الافراد توجيها صحيحا فانها قد تنتج أفضل انضباط يحتاجه الانسان للتمتع بحياة راقية ذات نظام . وإنى بكل تأكيد لا أشاطر رأي الذين يدعون الى تربية رخوة وانضباط منحل . إني أؤمن ايمانا عميقا بالانضباط على أن يكون انضباطا حرا وليس انضباطا مفروضا من الخارج يحمل معه الخوف والكراهية .
(12) أنا أعتقد بأن قضية التربية ليست قضية قومية فحسب . انها قضبة دولية . فان الطريقة التى توجه بموجبها التربية فى بلد ما قد تؤثر على العالم بأجمعه . وان تخلف أمة ما هى مشكلة ليس للامة المتخلفة وحدها ولكنها مشكلة للانسانية كلها . فان تقارب الشعوب من بعضها وذوبان المسافات جعل من كل البشرية جسما عضويا موحدا . ولكن هذه الوحدة العضوية ينبغى أن تشفع بوحدة ذهنية واخلاقية وروحية بحيث يتيسر للانسان أن يحقق الغرض الذي وجد من أجله على هذه الارض ..
هذه هي بعض الافكار التى عنت لى وأنا أطالع مقالكم . ويسعدنى جدا ان يستمر الاتصال فيما بيننا وان أسمع منكم ثانية .
