نظمت وزارة الشؤون الثقافية من 16 الى 20 ماى 1984 بالمركز الثقافى الدولى بالحمامات ندوة عالمية بعنوان " الثقافة والعنف " وشارك فيها عدد كبير من الباحثيين والجامعيين والاخصائيين وممثلين عن الوزارات والمؤسسات القومية والجمعيات الثقافية والعلمية ومؤسسات التكوين ومراكز البحث العلمى ، وكانت الندوة فرصة لمعرفة تجارب بلدان متعددة من المغرب العربى وأوربا والولايات المتحدة الامريكية وكندا .
ولقد أعدت هذه الندوة منذ أكثر من عام وسبقها اجتماع تحضيرى تم فيه أعداد الوثائق وأسماء المشاركين والطريقة الواجب توخيها حتى لا تفضى الندوة الى مجرد آراء وأفكار وتحليلات لا يمكن فيما بعد استغلالها عمليا .
ولهذا ارتكزت الندوة على نوعين من الاعمال : المداخلات المستفيضة والورشات التى كانت العنصر الطريف والعمل المفضى الى نتائج ملموسة لا تخرج عن عنوان الندوة . وفى الورشات الخمس درست علاقة العنف بالتربية وبالتظاهرات الجماعية ووسائل الاعلام والفضاء العمرانى والمؤسسات .
وإن أهم ما فى هذه الندوة هو أنها خرجت بتوصيات واضحة وعملية يجدر التعريف بها ومتابعة تطبيقها فى مؤسساتنا المختلفة حتى تكون شائعة بين كل المواطنين وحتى نتوصل الى جعل كل فئات المجتمع سواء فى تونس أو غيرها
من بلدان العالم واعية بأن العنف كان ولا يزال هو الآفة التى تهدد المجتمعات وتحول العالم الى جحيم لا يطاق .
ذلك أن ما جبل عليه الانسان من شعور طبيعى لفرض سيطرته على ما حوله وإبراز قدرته على تغيير محيطه يتطلب منه سواء فى أول الخليقة أو فى حاضر الناس الآن نزوع الى العدوان يتجسم فى العنف بأنواعه وضروبه . وإن تاريخ الانسانية محفوف بمخاطر العنف رغم ما جاءت به الاديان من ضرورة تحويل هذه الطاقة - الموجودة فى الانسان والنازعة الى التأثير على ما حوله والسيطرة عليه - الى قوة قوامها الخير وحافزها الرفق وقد جاء فى القرآن الكريم : " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر " وقيل : إن الله تعالى يعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف . ولهذا اقترن الرفق بالخير وارتبط العنف بالشر .
ولكن تعقد حياة البشر وتشعب ظروف العيش جعلت المجتمعات والافراد تنساق الى ضروب من المواقف العنيفة وتنزع الى أنواع من السلوك العنيف مما جرها الى عدم إدراك الحد الفاصل بين الخير والشر والرفق والعنف .
ولعل التوصيات التى صدرت عن هذه الندوة من شأنها أن تفتح الأعين على مظاهر تبدو بريئة أو لا غبار عليها بينما هى تكون إما سببا فى ظهور العنف أو عاملا على تفشيه . ولذلك فان ما سأجمله فى هذه الصفحات القليلة من التوصيات الصادرة عن الورشات هو فى حد ذاته يعد وصفا وتحليلا لظاهرة العنف وكذلك بتلافيه وتحويله الى طاقة خيرة .
ففى مجال التربية اتجهت التوصيات الى تحليل موضوع الشباب والى تحميل وزارة الشؤون الثقافية مسؤولية تبليغ المجتمع وخاصة الشباب رسالة ملؤها الامل فى المستقبل والشعور بالكرامة والعزة . وأن أهم فكرة يجب التركيز عليها هو جعل المواطنين يعون حدود أمكاناتهم وامكانات المجتمع الذى يعيشون فيه اذ ان الفرد الذى لا يشعر بحدود قدراته ينساق الى الرضى بقصر نظرته والاخلاد الى حدود ذهنه المكدود كما أن الذى يجهل
امكاناته يغرق بسهولة فى بحر الاستسلام بينما المطلوب هو أن ينمي ما فى البشر من قدرة على الفعل وطاقة على الصواب والتصويب للوصول الى هذا الذى يمكن الفرد من التطور والتقدم .
ولهذا يتعين تحليل انماط عيشنا والتعمق فى مواقف مجتمعنا من التعليم وتكوين الاولياء تكوينا عمليا واحداث المراكز الطبية المدرسية والجمعيات المعتنية بالاسرة وبعث لجنة تبحث فى نظرة بيداغوجية مجددة واعادة تنظيم الهياكل المدرسية وتعديد الاماكن التى بفضلها يجد الكبار والصغار الفرصة للتثقف والترفيه .
أما فيما يخص توصيات ورشة الفضاء العمرانى فان الشأن يدعو الى ضبط سياسة عمرانية تحد من تضخم المدن حتى تعطى للاحياء امكانية التواصل والترابط وتضمن للاماكن القديمة الحياة وتعطى للعمل الثقافى القدرة على احياء التراث والوعي بالمحيط والحد من الاستلاب الثقافى .
وفيما يتعلق بورشة وسائل الاعلام فان التوصيات كانت غزيرة تحوم كلها حول الوصول الى طريقة تمكن كل الفئات من فهم مظاهر العنف والتخفيف منها وتكوين حصانة فى الفرد تجعله لا ينساق بسهولة الى التقليد أو الرضى بما يشاهده ويستمع اليه .
وهكذا يمكن القول بأن هذه الندوة كانت مناسبة جمعت فيها حصيلة هامة من المعلومات ومن التحاليل والتوصيات جديرة بأن يتعرف اليها كل المواطنين وهى عندما تنشر وتكون ميسورة لدى كل الهياكل والمؤسسات ستكون مادة ثرية للتطبيق والخروج من حيز النظر الى حيز الفعل .
واذا كان من العسير الآن أن تكون ميدانا للتطبيق من طرف المؤسسات فان الخلاقين والمنتجين الثقافيين مدعوون الى مقاومة هذه الآفة سواء بالقلم أو بالريشة أو النغم أو الصورة وهى مجالات فيها تأثير على المواطن وصقل لذهنه وترقية لمشاعره وترقيق لأحساسيه وسمو بعواطفه وبها يمكن مقاومة العنف وصرف طاقات المواطن الى كل ما فيه خير الفرد والمجتمع .
ولعله يحسن - انطلاقا من هذه الندوة وتطبيقا لتوصياتها - التفكير فى محتوى العمل الثقافى : ما هى الاغراض التى يجب التأكيد عليها دون غيرها وما هى الارضية الواجب الاتفاق عليها لمجابهة سلبيات المجتمع والى أين يتجه مسرحنا وبرامجنا التلفزية والاذاعية وهل من الواجب أن نخطط لمراحل أساليب تثقيفنا حتى نعالج آفات مجتمعنا شيئا شيئا وبدون رجات وزلازل ؟
وفى الواقع فان النظر فى محتوى العمل الثقافى يقتضى الاتفاق على ميثاق شرف تلتقى على صعيده كل الطاقات الخلاقة وتلتزم به لتكون فى مستوى الرسالة الحضارية التى يجب أن يؤمن بها كل مثقف جدير بهذه التسمية عزوف عن المهاترات رافض لكل ضروب العسف والعنف .
وهكذا يكون من الواجب عقد ندوة هامة تنظر فى محتوى العمل الثقافى وفى الميثاق الذى يمكن للمثقفين ابرامه بينهم حتى نصل الى الاهداف المتفق عليها .
