الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

ابن خلدون وسبيل النظر الحر

Share

من بين الشخصيات الافريقية لعل اهم شخصية الهمت البحث والباحثين ، واسالت حبر المحبرين . هي شخصية عبد الرحمان بن خلدون . فلقد افردت له ، في اهم لغات العالم المتمدن ، مئات الكتب والمقالات حاول احصاءها اخيرا الشيخ هانرى بريس Henri)  (peresمن جامعة الجزائر ، كما حاول ان يعرف بأغزرها فائدة حافظ دار الكتب الوطنية ، السيد عثمان الكعاك ، فى نشرية صدرت بتونس بمناسبة

معرض بروكسال الاخير ، قدم لها مدير دار المعلمين العليا ، الاستاذ احمد عبد السلام . كل هذا دليل على اهتمام فائق ومتزايد ، وسبب هذا الاهتمام هوان عبد الرحمان ابن خلدون علم من اعلام العقل والنظر الحر

لم يكن الرجل مثاليا فى اخلاقه ، بل قل اننا عندما ننظر اليه من وراء عدسة الاخلاق المثالية كما نتصورها ، نميل الى عدم التسامح معه ، لاننا لا نتمالك عن مطالبة كل عظيم بالكمال فى كل الميادين ، حسب سلم قيم صارم ضبطنا درجاته بكل دقة . ابن خلدون جاب البلاد " غربا وشرقا " حسب تعبيره فى طليعة كتاب طبع حديثا بعناية محمد بن تاويت الطنجى ، وافرده المؤلف الى التعريف بحياته ورحلته . سفر بين ملك غرناطة وملك قشتالة والتقى بتيمر لنك ، خدم الحفصيين وبنى مرين ، خبر صداقة لسان الدين بن الخطيب وعداوة الامام ابن عرفة ، حظى بضيافة رؤساء القبائل العربية وعاش فى الاوساط البربرية ، قام بكتابة العلامة ودرس الفقه ، حاك السعايات السياسية ، والقى الخطب الجمعية ، وولى القضاء

فان لم يدن ابن خلدون بوطنية ، فلعل السبب فى ذلك هو ان متصور الوطنية لم يولد بعد ، وان لم يخلص لاسرة ، فلعلة لانه كان يبحث عن اسرة لها من " العصبية " - حسب المبادى التى ضبطها فى مقدمته - ما يمكنها من لم

شعث الامة وبسط نفوذ حقيقى قوى ينفى شبح التمرد والحروب الاهلية التى طالما ارخ لها وشهدها . ومهما يكن الامرفا بن خلدون قد خبر اعماق الحياة وسبر اغوارها فرجع من غوصه فى صلبها بنظريات طريفة ، وملاحظات عديدة ، وعلم جديد لم يسبق اليه ، علم وليد المشاهدة ، والنظر الحر ، وعدم التقيد والتقليد

ان عبقرية ابن خلدون تتجسم فى عدم الخضوع ، وعدم الرضى بحمل الاسفار وترويج بضاعة الغير ، وذلك فى عصر كان فيه النقل عماد العلم والحافظة وعاءه . اين خلدون ابي الا ان يفهم . اراد ان يفهم سر التاريخ وأبى ان يرى فيه مجرد حوادث متسلسلة متعاقبة لامبرر لها سوى ما سبق به القضا والقدر ، ولافائدة ترتجى من التأمل فيها سوى استخلاص العبرة . فمزيته الكبرى في البحث عن علية الحوادث ومسبباتها ، وهكذا انتقل التاريخ على يديه من مجرد سرد قصص واساطير الى بحث تنير سبيله قوانين الفحص والتثبت والنقد . ان المؤلف لم يستطع دائما - خاصة عندما يتعرض الى تاريخ الشرق ان يطبق قوانين النقد التى وضعها وبسطها فى المقدمة ، غير ان هذا لا ينقص شيئا من فضل وضعه لها . انه يستحيل على شخص واحد ، مهما كان عبقريا ، ان يكتب بمفرده تاريخا علميا لكامل البلاد الاسلامية وغيرها . ان ابن خلدون مهد سبيلا لو ولج من بعده لكان ادى الى نتائج خصبة جدا ، لكن العصر لم يكن واعيا مواتيا ، فضاع السبيل فى مفاوز الجدب الفكرى العربى حتى اكتشفة الغرب من جديد بوسائله الخاصة بعد قرون ، واكتشف ابن خلدون ايضا والفت اليه نظر بنى جلدته

ولقد الح ابن خلدون فى الفات النظر الى تأثير البيئة ، والجغرافية الطبيعية والبشرية ، والتيارات الاقتصادية الكبرى ، والحركات السياسية والاجتماعية في مجرى التاريخ . وهكذا خرج التاريخ عن التاريخ للحوادث ، فاصبح عرضا نقديا لكامل الحضارة الاسلامية ، بتمامها وحذافرها ، من دون اغفال النواحى العلمية والادبية . فهذا التامل فى الحضارة ككل متماسك الاطراف انتهى به الى الارتقاء من سطح التاريخ الى سطح آخر ، سطح علم جديد ، سطح فلسفة التاريخ . وكانت الحضارة الاسلامية ، كما شاهدها خاصة بالمغرب وعجم عودها اخذ نجمها فى افول فاتت فلسفة ابن خلدون مرة قاسية متشائمة ، نتيجة اعتمادها على الواقع كما كان . فوضع ابن خلدون قانون الاطوار الثلاثة التى تمر بها الدول بصفة دورية حتمية ، اطوار الشباب ، والكهولة ، والهرم . فكل نظام سياسى ، فى نظره ، مئاله الحتمى الفشل النهائى والاضمحلال ، ثم يخلفه نظام آخر جديد شاب ، يجرى فى شرايينه دم حار لايلبث طويلا حتى يتطرق اليه الفتور ثم الجمود ، وهكذا دواليك تدور عجلة التاريخ . فابن خلدون لم يعش فى ظروف تساعد على ادراك حركة التاريخ واتجاهه نحو الرقى المتواصل

مهما التوت الطريق وعاقت سبيلها المنعرجات . ففلسفته فى التاريخ كانت فلسفة دورية ، والحركة التى كانت تدفع الكون حسب نظريته حركة عود على بدء . انما الفلسفة تأويل للطبيعة ، وانه من العسير جدا ان يطالع مطالع حروف التقدم وآياته في البيئة التى عاش فيها ابن خلدون ، اذ تلك الحروف والآيات كانت خفية جدا ، مطموسة حقا . فابن خلدون ادرك كل ما يمكن ان يدركه عبقرى عاش فى تلك الظروف واعتمد ذاك الواقع الخاص المحدود ، ادرك ان التاريخ حركة وان تلك الحركة تخضع الى قانون العلية ، وان ذلك القانون ، يمكن للعقل ، يفضل التجربة والملاحظة والتأويل والاستقراء ، ان يميط عنه اللثام

وهكذا اهتدى ابن خلدون الى حقيقة خطيرة جدا ، اهتدي الي ان المجتمع الانساني لايشذ على ناموس الطبيعة العام ، وان الفوضى التى تبدو كأنها تسوده وتعبث به حسب مشيئة الرياح المتعاكسة انما هى نظام من النظم غربت على العقول قوانينه لتشعبها ودقتها . وحاول ابن خلدون ان يلتمس بعض تلك القوانين في طبيعة الاعراب والحضر ، وفي الخصب والجدب ، واستقامة الاقتصاد وفساده وفي غير ذلك من الاسباب الاجتماعية ، ففتح باب علم الاجتماع ، ولم يسعفة الحظ ، فلم يلج اهل قرنه الباب الذى فتحة لهم ، ولم يشعروا بفتح وبقي الامر كذلك حتى فتح الغرب الباب من جديد بعد ان مر زمن . فابن خلدون ، وقد سبر اكثر من غيره اعماق الماضى وسلك شعب الحاضر ، استطاع ان يستنبط القواعد القارة وان يكشف عن بعض لوالب المجتمع ومحركاته فلقد جمع الى غزارة اطلاع مكنه من الاحاطة باهم علوم عصره دقة الملاحظة والقدرة على الهضم والتأليف خاصة ، فمكنه ذلك من ان يشرف على الواقع ، فيني النظريات العامة ويحكم بناءها . وهكذا تلمس فى كتبه " عقلية " جريئة معتدلة تبث فيها الحياة ، وتعلل الحوادث ، وتشرح اسباب الوقائع ، فاذا بك تدرك ان الكون لا تسوده الفوضى ، وانه سلسلة من مسببات يمكن ان نفقة أسبابها . وحاد اين خلدون هكذا عن طريق الفلاسفة الذين كانوا يسلطون قوى العقل على المجردات ، ويسبحون فى عالم الماورائيات الفسيح ، بل قل انه ولج بالفلسفة سبيل الواقع ونزل بها الى الارض ، وعكس نور العقل على دقائق الحياة الدنيوية محاولا ان يحل الغازها . وهكذا زاد رقعة الفلسفة اتساعا ونشلها من الافراط في التجرد ، وزج بها فى نطاق الحسيات والفاعلية

وهكذا لم يقتصر ابن خلدون على احصاء الحوادث وحشو وطابه بها حتى يقال فيه عالم احاط بعلم الاوائل . ابن خلدون اراد ان يفهم ، وفى سبيل هذا الفهم ، كان منهجه منهج النظر الحر ، وكان بحثه بحثا علميا .

اشترك في نشرتنا البريدية