الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

ابوحفص الميانشي

Share

انجبت تونس فى عصورها التاريخية أعلاما ، منهم من احتضنتهم البلاد وأقاموا فى ربوعها ، ونشروا المعارف بين ابناء وطنهم  او اشتغلوا بالتأليف ، ومنهم من ارتحلو إلى أقطار اسلامية عدة ، وحين قصددوها كانوابها أعلاما فافتخر بهم وطنهم القديم ووطنهم الجديد .

ومن القسم الثانى من الاعلام المرتحلين عالم تونسى استوطن مكة فكون له بها ذكر جميل ، وآثار باقية ، وهو مع ذلك مغمور الذكر مطوى الصفحة لا يعرف فى منشئه ولا فى منتقله ، وهو : أبو حفص الميانشي .

عصره

قبل أن نعرف بالميانشى نعرف بالفترة التى انتقل فيما ، وهى الحقبة التى رأى فيها الاسلام فى المشرق والمغرب نكبات ، ومرت به تقلبات زعزعت أركانه ، ولكنها قيضت له قادة مخلصين جاهدوا فى الاسلام حق الجهاد ، وكان على أيديهم انقاذ الوطن الاسلامى من نكباته .

وبعثت بسبب ذلك الانقاذ نهضة اسلامية ، وهى وان كانت فى مناطق محدودة ، لم تخل من يقظة اسلامية استطاعت بها دوله أن تعيد نشاطها وتبعث فيها روح جديدة ، وتقوم نهضات أظلت العالم الاسلامى طيلة قرون ، ومكنته من مواجهة عالم فى فترة شبابه وهو العالم الغربى ، فى مستقبل الايام ، واستطاعت البقاء أمام عاصفته الهوجاء والتخلص من مخالبه .

كان العالم الاسلامى خلال قرنين من حياته يتلقى ضربات ، تلقى ضربة الحروب الصليبية فى

المشرق ، وضربة النورمانيين في شمال افريقية ، وتقلص الدولة في الاندلس .

توالت على بلاد الاسلام الحروب الصليبية وسقطت بيت المقدس سنة ٤٩٢ ه .

بينما كان الشرق يرزح فى تأخره وتناحر دوله ، وانقضاض الصليبيين على سواحل الاسلام ، كانت افريقية الشمالية نهبا لحكومات طائفية من ولاة المقاطعات ، وعرضة لغارات النورمانيين حتى سقطت المهدية

سنة ( ٥٤٣ ) سقطت المهدية وهى من احصن البلاد فى شمال افريقية . . ويذكر ان عبد المؤمن لماحاصرها ركب قطعة من اسطوله ومعه الحسن الصنهاجى آخر امرائها ، فهاله ما رأى من حصانتها ، فسأله : كيف تتهاون بهذه البلدة العظيمة ؟ فقال له : " سلامة المسلمين من القتل " والاسر ، خير لى من الملك والقصر ، وانقضاء الامر ، وعدم الثقة بأحد " عاش الميانشى هذه الحقبة ، ولعله عاش ما قبلها ورأى آثار الزحف الهلالى ، ولا ندرى ان كان بالمهدية أيام سقوطها ففر مع من فر من اهلها ، ام انه كان ابتدأ رحلته ؟ ! ان هذه الفترة فى حياة الميانشى لم أقف الى الآن ما يفيدني فيها شيئا .

والاقرب انه ما فارق الوطن الا لما حل به ، خصوصا وان سقوط العواصم الاسلامية فى الاندلس قد ملأ سمعه ، وانفطر قلبه ، كما ان سقوط صقلية فى ايدى غزاة وطنه سنة ( ٤٦٣ ) وكونها نقطة انطلاق الى غزو بلده جعله كل ذلك ييأس من المغرب ، وحتى من المشرق فيقصد لذلك معقل الاسلام : مكة المكرمة ، لبث الدين الاسلامى ، الى ان اصبح من شيوخ الحرم المستند اليهم .

ان هذا الانهيار فى اقطار الاسلام لا يشك فى تأثيره على ارباب الايمان ، ومن بينهم الميانشى - فهذا ، كما يبدو ، هو السبب الاصيل في هجرته من وطنه واستيطان مكة .

فالحجاز اذا جاءه المسلم المتأثر من الاحداث والنكبات يجد فيه متنفسا وحيدا ، ونورا قدسيا ، وينبثق فى سويداء قلبه ما يتجاوب مع اصدائه النفسية ، فيحس بالانتعاش والطمأنينة .

فالميانش قد وحد يرد الاستقرار ، والقى عصا التسيار في أرض الحجاز ، وأصبح من المحلقين فى الحرم المكى ، وابتعد عن مواطن الخطر .

استطاب المقام فى وطنه الجديد ، وان

كانت افريقية الشمالية قد وجدت فى الدولة الموحدية ما يركز فيها الاسلام واقصى عنها الغارات ، واقام فى وجهها حصنا هو البحر الابيض المتوسط .

وليس بالبعيد انه لم يرجع الى وطنه رغم ان الموحدين استعادوه للاسلام ، لانه ليس على ثقة من نكسة ، لان بيت المقدس لم يتخلص من يد المغتصبين فانه لم يقع خلاصه الا سنة ( ٥٨٣ ) بعد وفاته بسنتين .

وليس من شك فى ان له باعثا آخر ، وهو جوار بيت الله الحرام كما هو عادة كثير من الفارين الى الله .

ابو حفص الميانشى ( ...-٥٨١ )

عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشى الميانشى أصله من ميانش ( ١ ) من قرى المهدية ، وهى قرية لها ماء عذب ، ذكر البكرى فى كتابه (المسالك والممالك ) ان بالمهدية من المواجل العظام ( ٣٦٠ ) غير ما يجرى اليها من القناة التى فيها الماء الجارى بالمهدية ، جلبه عبيد الله المهدى من قرية ميانش على مقربة من المهدية . . ويصب فى صهريج داخل المهدية عند جامعها ، ويرفع من الصهريج الى القصر بالدواليب . .

وذكر ياقوت في ( معجم البلدان ) ان ممن ينسب الى ميانش ، احمد بن محمد بن سعد الميانشى الاديب من أهل القرن الرابع .

وكذلك عمر بن عبد المجيد المهدوى الميانشى نزيل مكة .

لا نعرف شيئا عن ولادته ويقرب ان تكون اوائل القرن السادس لانه تلقى عن الامام المازرى .

تعلمه

تلقى علومه فى المهدية عن عالمها الفذ محمد بن على المازرى ( ٢ ) المالكى المعروف بالامام المازرى ( ٤٥٣-٥٣٦ ) صاحب " المعلم بفوائد مسلم " ( ٣ ) وقد تلقى عنه مناولة ( ٤)( ، ولعل المازرى ناوله كتابه المعلم .

وبالطبع ان يكون روى عن جماعة غير المازرى منهم :

محمد بن على بن باسر الانصارى (٤٩٣ - ٥٦٣ ) ..

من اهل جيان ونزل حلب ، وبها توفى وله رحلة صحبة ابى القاسم بن عساكر صاحب التاريخ الى بغداد سنة عشرين وخمسمائة .

سلمت اليه خزانة الكتب النورية ، وأجريت عليه جراية ، وكان فيه عسر فى الرواية والاعارة ، ووقف كتبه على أصحاب الحديث . وله عوال مخرجة من حديثه ساوى فيها

بعض شيوخه اصحاب الصحاح الخمسة . روى عنه ابو حفص الميانشى .

" انتقيت هذه الرحمة من تكملة الصلة " ، ونستفيد منها ان الميانشى لما روى عن ابن ياسر الانصارى وهو ساوى بشيوخه اصحاب الصحاح يكون فى درجة من العلو قليلة النظير وهو ما دعا الكثرة من الراحلين الى مكة من اهل الاندلس - واكثريتهم من رجال القرن السابع - ان يتلقوا عنه ، ويعدوه من اعلام الرواية .

ويضاف الى هذا العامل عامل آخر دعا الى كثرة الرواية عنه ، وهو ما اشتهر به من الدين والفقه ، فقد اجتمع له علو الاسناد مع كونه ثقة ، وهما المبتغى عند الرواة .

تأليفه

١ - ( ما لا يسع المحدث جهله) . فى كشف الظنون : لخصه أبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشى الميانشى ، وكتبه فى مكة فى شعبان سنة ( ٥٧٩ ) اوله ( الحمد لله الذى وفقنا للتوحيد )

٢ - ( اختصار فى درس الاخبار بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب )

فى خزانتى الخاصة نسخة منه أولها : ( لما وقفت على الكتاب المسمى بالفردوس تخريج الامام الشيخ الحافظ ابى شجاع الديلمى رحمه الله تعالى آمين ، رأيت ان أحذف أسانيده ليكون أسهل لطالب الفائدة ويعود على الطالب منه أفضل عائدة فاستخرت الله العظيم ، وسألته المعونة لما الهمنى اليه وجعلته على حروف المعجم ) وترتيبة على الابجدية المغربية

وعلى ما يبدو ان له كتابين هما : ( ما لا يسع المحدث جهله ) و ( اختصار الفردوس ) لان اول الكتابين مختلف فيما ذكره فى الكشف ، وفى نسختى . ويحتمل انهما كتاب واحد ، ولم يثبت فى النسخة التى وقفت عليها ما جاء في الكشف .

ان الطريقة الاختصارية فى الحديث هى طريقة الشهاب القضاعى - محمد بن سلامة * ٤٥٤) - فى كتابه ( شهاب الاخبار فى الحكم والامثال والآداب الشرعية ) .

وهى طريقة سلكها ابو شجاع شيرويه ( ٥٠٩ ) فى فردوس الاخبار الذى اختصره الميانشى .

وكذلك سلكها عالمان من المغرب احدهما اندلسى وهو ابن الاقليشى - ابو العباس احمد بن معد التجيبى ( ٥٥٠ ) - فى كتابه ( النجم ، من كلام سيد العرب والعجم ) وهو متأخر عن الميانشى .

وثانيهما افريقى وهو الميانشى .

مكانته ومآثره

لما دخل ابن جبير ( ٥٤٠-٦١٤ ) مكة ، وجده من المحلقين بالحرم .

وفى شذرات الذهب انه شيخ الحرم ، وبالطبع ان لا يتولى المشيخة بالحرم من هو غريب ، وليس من بيوتات البلد - الا من اشتهر بالدين والعلم ، وهما قد اجتمعا للميانشى ، فانقطاعه عن ارضه ومجاورته لبيت الله ، وانصرافه لنشر العلم - كما تذكره - الادلة على غزارة العلم والدين المتين . . حب البلد الامين .

والتحليق فى الحرم ليس بالامر السهل فلا يسمح به الا للشيوخ المتأهلين والجديرين بالاقراء ، فالانتقاء للمتصدرين في مثل ذلك المقام انتقاء ناقد ، خصوصا ان العلماء متوافرون ، والناس لا يزالون على ذكر من علم الزمخشرى الذى يرن في أسماعهم .

ويكفى للتدليل على انه علم من أعلام الرواية ما ذكره ابن الابار ( ٥٩٥-٦٥٨ ) - وهو النقادة الصريح اثناء ترجمة محمد بن قاس من اهل فاس - ( انه رحل الى المشرق رحلة حافلة اقام فيها خمسة عشر عاما ولقى نحوا من مائة شيخ اكثر من الرواية عنهم ، والتوسع في السماع منهم ، وأجاز له بعضهم . . ومن أعلامهم أبو حفص الميانشى ، وأبو طاهر السلفى . وله فهرست كبيرة سماها " النجوم الشارقة ، في ذكر من أخذ عنه من كل ثبت وثقة " .

يروى ابن قاسم الفاسى عن مائة شيخ يجعل ابن الابار - ذلك النقادة المحتذى والصريح فى حياته - ابا حفص الميانشى فى طليعتهم ويقدمه في الذكر على أبى طاهر السلفى وهو الراوية الذائع الصيت المجمع على تقديمه فما ذاك الا لشهرة الميانشى التى جعلت الراوية عنه شرفا ونبلا

واضاف مترجمنا الى مابث من علم فى صدور الرجال انشاء مآثر فى البلد الامين منها انشاؤه لحمام بها ، ففى رحلة ابن جبير ص ( ١٠٤ ) : ولهذه البلدة المباركة - مكة - حمامان احدهما ينسب للفقيه الميانشى أحد الاشياخ المحلقين بالحرم المكى .

وانشاؤه لرباط بها . ففى " شفاء الغرام في تاريخ البلد الحرام " ج ١ ص ٣٣١ : ومنها رباط الشيخ أبى حفص عمر بن عبد المجيد الميانشى قرب هذا الرباط - اى رباط ابن منده - وما عرفت نسبته للميانشى هل هو لاجل وقفه ، أو لسكناه فيه ؟ ومقتضى ما ذكر من نسبته للميانشى أن يكون له أزيد من مائتى سنة وثلاثين سنة . "

تلاميذه :

قد أخذ عنه جمع ، منهم : . أحمد بن على بن بكر القطبى ، سمع عنه بمكة . أحمد بن يحيى الضبى المرسى لقي الميانش بمكة . ابن عياش الكنانى ، سمع من ابى  حفص ، جامع الترمذى ( ٥ ) . العلوى الاشبيلى ، روى عنه بمكة سنة ( ٥٧٠ ) . الفهدى السبتي . روى عنه أثناء رحلته لأداء الفريضة .

وروى عنه غير هؤلاء . فهذه الكثرة تدل على انه رجل الرواية فى عصره .

ولعل التتبع لترجمته يظهر فوق ما حصلنا عليه فتظهر هذه الشخصية من النسيان الى التعريف التى هى اهل له

امامته

كان بمكة - على ما يبدو - امام المالكية خلفا لرزين بن معاوية بن عمار السرقسطي

( ٥٣٥ ) الذى جاور بمكة وحدث بها ، وهو صاحب التصنيف المشهور : " التجريد فى الجمع بين الصحاح الستة " وهو أصل كتاب جامع الاصول لابن الاثير . وقد اختصره ابن البديع . وله أخبار مكة .

هناك تشابه بين الرجلين فكلاهما قد اتخذ البلد الحرام مقرا وكلاهما من فقهاء المالكية ، ومن المشتغلين بالحديث ، والمقربين له من الاذهان .

سبطه

وفى مرآة الجنان لليافعى : ( وفيها - اى سنة ٦٦١ ه - توفي الفقيه الامام الجليل سليمان بن خليل العسقلانى الشافعى خطيب الحرم ، سبط عمر بن عبد المجيد الميانشى . وهو الذى جمع المناسك الكبير المفيد المعروف بين فقهاء مكة " بمناسك الفقيه سليمان " .

وفاته

من شذرات الذهب : " وفيها - اى سنة احدى وثمانين وخمسمائة - الميانشى ( ٦ ) ابو حفص عمر بن عبد المجيد القرشى شيخ الحرم تناول من ابى عبد الله المازرى وسمع من جماعة ، وله كراس فى علم الحديث . توفى بمكة . محمد الشاذلى النيفر ( بتونس )

اشترك في نشرتنا البريدية