التلفزيون فى معركة الثقافة بين الوحدة والتنوع : اهمية التلفزيون فى التأثير :
لم يستخدم التلفزيون فى العالم الغربى بطريقة مؤثرة الا فى الاربعينات من هذا القرن العشرين ، ومع ذلك فقد اثار ضجة كبيرة بين المشتغلين بالاعلام والتربية والتعليم والعلوم الاجتماعية والمعنيين بالثقافة بعامة ، على نحو ما فعل استخدام المطبعة من قبل .
ذلك ان التلفزيون خلق وسيلة كهربائية جديدة فى الاتصال بالجماهير ، تنقل اليهم الكلمة والصورة المتحركة من مصدرها البعيد ، لحظة حدوثها ، على موجات لاسلكية ، وتصل اليهم افرادا او فى جماعات صغيرة ، حيث يقيمون فى بيوتـهم أو منتدياتـهم .
وبدأ التلفزيون يصل الى اجزاء من الوطن العربى فى أواخر الخمسينات من هذا القرن ويعم انتشاره بعد ذلك حتى وصل الآن الى الغالبية العظمى من البلاد العربية وان لم يصل بعد الى تغطية مناطقها الآهلة بالسكان .
وكان طبيعيا ان تثير هذه الوسيلة الجديدة فى الاتصال بالجماهير ، فى المنطقة العربية ، مثل ما أثارت وما زالت تثير فى الغرب والشرق البعيد من مناقشات وقضايا أساسية وتفصيلية بالعلوم الانسانية المختلفة وبالانسان المعاصر - وهو ما يجعلها تحتل مكانـها فى القضايا التى يثيرها موضوع الوحدة والتنوع فى الثقافة العربية المعاصرة .
وترجع اهمية التلفزيون الى عمق الاثر الذى يخلفه فى نفس مشاهده بسبب المميزات المتصلة بعناصر تكوين هذه الوسيلة الجديدة ذاتـها .
فالرسالة أو التجربة الانسانية تنتقل عن طريق التلفزيون بالصورة المتحركة المقترنة بالصوت فتحقق لها جاذبية خاصة وقدرة عالية على الاقناع يرجع بعضها الى سهولة ادراك الرسالة والانفعال بـها .
ويزيد من هذه الجاذبية والقدرة احساس المشاهد بانعدام عنصر الزمن بين بث الرسالة وتلقيه لها ويحيل عملية التلقى الى عملية من المشاركة الوجدانية العميقة .
يضاف الى هذا وذاك الظروف النفسية والاجتماعية التى تحيط بعملية التلقى اذ انها تتم عادة فى جو من المودة والالفة التى تسيطر على التجمع العائلى او الخاص وتكون فيه النفس البشرية مهيئة للتقبل العقلى والعاطفى .
التلفزيون جهاز انتاج وجهاز نشر :
وقد استتبع ظهور التلفزيون كوسيلة اتصال بالجماهير لها مميزاتـها الخاصة ، ظهور اشكال فنية تتلاءم مع طبيعتها . صحيح ان معظم هذه الاشكال قام على اساس اشكال اخرى مماثلة فى وسائل اتصال اخرى كالسينما او المسرح او الاذاعة الصوتية ( الراديو ) الا ان التلفزيون استطاع ان يفرض عليها مقتضياته فأصبحت اشكالا فنية جديدة لها مواصفاتها الخاصة وهى التى تعرف بالفنون التلفزيونية . فالدراما التلفزيونية مثلا اصبحت شيئا مستقلا تماما عن الدراما فى السينما او المسرح او الراديو سواء من حيث اختيار الموضوع أو طريقة العلاج او طريقة التنفيذ ، وان كانت قد استعانت بـما وصلت اليه فى هذه الوسائل كلها . وما يقال عن الدراما يقال عن التحقيق التلفزيونى ( الريبورتاج ) او برامج المجلات وغيرها وغيرها . .
التلفزيون اذن جهاز منتج للاشكال الفنية المختلفة .
ولكنه ايضا جهاز نشر لبعض ما تنتجه وسائل الاتصال الاخرى التى يتلاءم نشاطها مع نشاطه . . كالسينما والمسرح وقاعات البحث والمحاضرات وما الى ذلك . .
ذلك ان الانتاج التلفزيونى يكلف الجهات المنتجة له الكثير من الجهد والمال . . والخدمات التلفزيونية مضطرة إلى ان تقدم ساعات طويلة من الارسال فى كل يوم على مدار السنة حتى تضمن لها جمهورا يشترى أجهزة
الاستقبال المرتفعة الثمن ولذلك نراها مضطرة إلى الاستعانة ببعض ما تنتجه وسائل الاتصال الاخرى على النحو الذى قدمنا . . هذا بالاضافة الى ان بعض هذا الانتاج غير التلفزيونى الذى يذاع عن طريق التلفزيون قد تكون له قيمة كبيرة من النواحى الثقافية او الترفيهية او الاعلامية .
ولذلك فان تأثير التلفزيون مرتبط ليس فقط بما ينتجه . . بل وبـما يتاح له اذاعته من انتاج وسائل الاتصال الجماهيرى الاخرى .
تكامل دور التلفزيون مع وسائل الاتصال الاخرى :
وما دمنا نتحدث عن تأثير التلفزيون على الفرد والجماعة فلا ينبغى ان يفوتنا ان التلفزيون لا يعمل فى فراغ . . بمعنى ان هناك عددا من الوسائل الاخرى والانظمة والمؤثرات المختلفة تشاركه فى عملية التأثير . . فهناك الدينى والتراث القومى والتراث الشعبى والمدرسة والاسرة والمحيط الاجتماعى الخاص والعام بالاضافة الى الكتب والصحف والراديو والسينما والمسرح وغير هذا وذاك من المؤثرات التى تكون وجدان الفرد .
وبالتالى فلا يمكن التلفزيون ان يحقق أى أثر ايجابى او سلبى على نحو فعال الا اذا وجد من وسائل التأثير الاخرى ما يعاونه على تحقيق ما يريد من تأثير .
ماهية الثقافة عند علماء الانثروبولوجيا :
وما دمنا فى صدد البحث عن التلفزيون واثره الثقافى ، فلا بد لنا - بعد ان تعرضنا بشكل موجز للتلفزيون وبما يمكن ان ينتجه من اثر - ان نعرض بايجاز شديد ايضا لماهية الثقافة فى اطار بحثنا هذا .
فعند علماء الانثروبولوجيا تعنى الثقافة طريقة الحياة الخاصة بأى تجمع انسانى ، فهى تشتمل على انماط السلوك المكتسبة والمعتقدات المتعارف عليها والتى يستخدمها الكل ويتوقع الآخرون منه استخدامها . . وهى التى تميز المجتمع الانسانى عن التجمعات الحيوانية . فعادات الجماعة وافكارها واتجاهاتها تستمد من التاريخ وتنتقل تراثا اجتماعيا الى الاجيال المتعاقبة . واللغة هى العامل الرئيسى لنقل الثقافة وان كانت بعض أنماط السلوك والاتجاهات تكتسب بوسائل اخرى غير اللغة .
وعلى هذا الاساس فالثقافة تشمل أنماط الحديث والحرف اليدوية ، والمباريات ، والطقوس ، والمعارف الاساسية المفروضة فى المجتمع ، والمعتقدات الدينية . ولا بد ان يتوافر لهذا كله قدرا من الثبات والاستمرار .
الثقافة بمعناها العام :
أما الثقافة بمعناها العام فهى نظرة عامة الى الوجود والحياة والانسان ، وهى كذلك موقف من هؤلاء جميعا ، وقد يتجسد هذا الموقف فى عقيدة أو تعبير فنى أو مذهب فكرى أو مبادئ تشريعية أو فى مسلك اخلاقى عملى .
والثقافة بـهذا المعنى العام الشامل هى البناء العلوى للمجتمع ، الذى يتألف من الدين والفلسفة والفن والادب والتشريع والقيم العامة السائدة فى المجتمع .
وعندما اجتمع مجموعة من الخبراء بمقر المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم بمقر اليونسكو فى الفترة من 29 مايو الى 3 يونيه سنة 1969 لوضع التوصيات اللازمة لاجراء دراسة عن أصالة الفكر والآداب والفنون العربية اتفقوا على تعريف الثقافة العربية بأنـها " مجموع الحقائق والنشاطات الفكرية والفنية والعلمية للمجموعة المعاصرة من الشعوب المنتمية الى الحضارة العربية ، كما تتمثل هذه الثقافة فى استخدام الوسائل التى تعبر بـها هذه المجموعة عن نشاطاتـها وتبليغ رسالتها الى أبنائها والى سائر العالم وتلقى رسالة العالم وادائها فى بلادها " .
وقد اوضح الاستاذ الدكتور طه حسين معنى الثقافة بان عرف الرجل المثقف فى مقال له نشره بالعدد السابع مع مجلة المجلة - يوليو سنة 1957 ، بأنه " هو الذى ذاق المعرفة واحبها وتأثر بـها وتـهيأ لـها فاصبح انسانا بأوسع معانى هذه الكلمة ، انسانا لا يحس الغربة فى اى وطن من أوطان الناس أو بيئة من بيئاتـهم ، ولا يجد القلق حين يسمع الناس يتحدثون فى اى ضرب من ضروب الحديث " .
الدور الوظيفى للثقافة :
وعندما وضع علماء الانثروبولوجيا تعريفهم الواسع الشامل لكلمة ثقافة اتـجهوا الى ان الثقافة بـهذا المفهوم كانت وما زالت تؤدى وظيفة فى حياة
المجتمعات الانسانية . . ولذلك فان دراستهم لأنـماط السلوك فى التجمعات الانسانية والعادات والاتجاهات الفكرية وتطورها جميعا هى من بين المؤثرات التى يعتمدون عليها فى تحديد مسار التطور الاجتماعى والاقتصادى للمجتمع الانسانى بعد ان ثبت لهم ان انماط السلوك والاتجاهات الفكرية والعاطفية المختلفة وما قام حولها من انظمة انما كانت تلعب دورا محددا فى مسار المجتمع وتثبيت أنشطته الاجتماعية والاقتصادية . . وقد سميت هذه النظرية بالانثروبولوجيا الوظيفية .
وهذا هو الشأن أيضا فى النظر إلى الثقافة بمعناها المعاصر . . فقد كاد يستقر الرأى على ان الثقافة بالرغم من انـها تعبير عن الاوضاع الاجتماعية و الاقتصادية السائدة الا انـها ليست تعبيرا أو انعكاسا آليا مباشرا كانعكاس صورة الشئ فى المرآة ، اذ يدخل فى تشكيل الثقافة عامل الارادة الشخصية والخلق ، فالثقافة هى تعبير عن الواقع الا انـها ايضا وسيلة فعالة لتغييره .
وقد وضح هذا المعنى فى التقرير النهائى الخاص بندوة " السياسة الثقافية " الذى عقدته المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم فى موناكو فى الفترة من 18 - 22 ديسمبر سنة 1967 وحدد السياسة الثقافية بانـها " مجموع النشاط الواعى الذى يهدف الى مواجهة الاحتياجات الثقافية واستغلال المصادر البشرية والطبيعية المتاحة فى المجتمع الى اقصى حد ممكن" . كما اكد التقرير فى اكثر من موضع ضرورة ربط السياسة الثقافية بالتطور الاقتصادى والاجتماعى .
ونحن اذا نظرنا الى النشاطات البرنامجية التى يقدمها التلفزيون لوجدنا أنـها تعكس طريقة الحياة بعامة فى مجتمعاتنا العربية بـما تتضمن من أنماط السلوك والحرف والمباريات ، الى جانب ما تقدمه من ألوان التعبير العقلى والفنى . . الامر الذى يجعل الثقافة بمفهومها الانثروبولوجى الشامل غير بعيدة عن اطار هذا البحث . ولعل هذا المفهوم ايضا ان يكون هو الدافع الى بعض المقترحات التى سنوردها عند التعرض لدور التلفزيون فى خلق ثقافة عربية وظيفية متوازنة بين الوحدة والتنوع .
تكامل العناصر القومية والمحلية فى الثقافة :
ولقد كان موضوع الوحدة والتنوع فى مجال الثقافة ، موضع اهتمام كثير من المفكرين على المستوى العالمى . ولعل من أهم ما ظهر فيها من افكار ، ما
كتبه ت. س. اليوت تحت عنوان " الوحدة والتنوع بالنسبة للاقليم " فى كتابه ملاحظات نـحو تعريف الثقافة .
وقد أثبت فى هذا الفصل مجموعة من النقاط الهامة . . .
" فلكى تزدهر ثقافة شعب ما ينبغى الا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام . فكلا النقيضين يعوق آطراد النمو فى الثقافة .
والوحدة المقصودة فى هذا المجال يجب ان تكون وحدة لا شعورية الى حد كبير . فمن المهم الا يشعر الانسان بانه مواطن فى امة معينة فحسب ، بل مواطن فى جزء معين من بلاده وله ولاء محلى . وهذا الولاء ينشأ من الولاء للاسرة .
وان القيمة المطلقة - فى مجال الثقافة - هى ان كل منطقة ينبغى ان تكون لها ثقافتها المميزة التى ينبغى ايضا ان تنسجم مع ثقافات المناطق المجاورة وتثريها .
وان الثقافة القومية محصلة عدد غير محدود من الثقافات المحلية التى لو حللت هى نفسها لوجد انـها مكونة من ثقافات محلية أصغر " .
ولعل تاريخ الحضارة الاسلامية والحضارة العربية ان يعطينا مثالا نموذجيا على استفادة التيار الثقافى العام من روافد الثقافات المحلية المتنوعة والمتعددة التى تغذيه وتلتئم معه فى انسجام يثريهما معا .
ولكن القضية موضوع هذا البحث ، هى الدور الذى يمكن ان يقوم به التلفزيون فى اثراء الثقافة العربية المتوازنة .
مدى التأثير الثقافى للبرامج :
ولقد تعرضنا من قبل لعناصر التأثير المتصلة بالخدمة التلفزيونية بعامة . وعلينا الآن ان نتعرض للتأثير الثقافى لهذه الخدمة .
وهذا الموضوع بذاته يثير عددا من التساؤلات الهامة علينا مواجهتها قبل الدخول فى اعماق الموضوع .
فهل الاثر الثقافى للتلفزيون قاصر على مواده الثقافية ؟ وما هو مدلول هذه
المواد الثقافية ؟ وهل لهذه المواد الثقافية نصوص بالضرورة ؟ وما هى طبيعة هذا الاثر الثقافى للتلفزيون ؟
وللاجابة على هذه التساؤلات نقول ان بعض محطات التلفزيون - وليست كلها ولا غالبيتها العظمى - تطلق على بعض قطاعات برامجها عبارة " البرامج الثقافية " وتعنى بـها مجموعة البرامج التى تتعرض بشكل مباشر للانشطــــة المتصلة بالادب والنقد الادبى والدراسات الدينية والفنون التشكيلية والمسرح والعلوم والدراسات الانسانية وما الى ذلك . وتقسيم البرامج الى برامج اخبارية وبرامج ثقافية وبرامج ترفيهية أو فنية وبرامج تعليمية وبرامج للاطفال واخرى للمرأة وثالثة للفلاحين الى آخر هذه السلسلة من الوحدات البرنامجية انما هو تقسيم اصطلاحى بحت ومقصود به فى الدرجة الاولى تيسير عمليات الادارة والارتفاع بالمستوى الحرفى للانتاج ليس المقصود به تعريف طبيعة البرامج وتحديد نوعية جمهورها وما تخلفه فيه من آثر .
ولنأخذ دليلا على ذلك اصطلاح " البرامج الثقافية " فى الخدمات التلفزيونية التى تأخذ به . فهى منفصلة تماما عن الدراما والموسيقى الجادة وبرامج الاحداث الجارية والبرامج التعليمية وبرامج تعليم الكبار بأشكالـها ونوعياتـها المختلفة .
ولا يمكن بداهة ان تكون هذه الخدمات غير معترفة بارتباط الدراما والموسيقى الجادة والتعليم بالتكوين الثقافى للفرد وهى من مكوناته الاساسية .
وهذا الخلط هو الذى ادى بالكثير من الخدمات التلفزيونية الى عدم استخدام عبارة " البرامج الثقافية " اطلاقا واستخدام اصطلاحات اخرى للاشارة الى مجموعة البرامج التى كانت تدخل فى اطارها الاصطلاحى .
والواقع ان كل برامج التفزيون يمكن ان يكون لها اثر فى التكوين الثقافى للفرد والمجموع سواء كانت برامج للاطفال او العائلة او كانت برامج سينمائية مسلسلة اجنبية أو عربية أو كانت اخبارا أو برامج متصلة بالاحداث الجارية أو سواء كانت تمثيليات أو برامج توجيهية تنشر مجرد التسلية ، بل ان مثل هذه البرامج خليقة بأن تترك أثرها الثقافى فى الفرد والمجموع - بطريق غير مباشر - بأكثر ما تفعله البرامج والدراسات والندوات الجادة المتصلة اتصالا مباشرا بالادب أو الفن أو العلم .
والاثر الثقافى الذى تتركه هذه البرامج قد يكون أثرا مباشرا أو غير مباشر أو بـمعنى آخر قد يكون عاجلا ، أو يظهر على المدى الطويل ودون وعى من المستقبل .
وقد يتصل الاثر بمجرد اضافة معلومات ، أو خلق اتجاه جديد ، أو اضعاف اتجاه قديم . . أو المعاونة على خلق وجهة نظر محددة جديدة . . أو متحولة من وجهة نظر أخرى ، وقد يكون فى خلق قيمة جديدة أو تدعيمها أو الاضعاف من قيمة قديمة أو التحول عنها . . وقد يتمثل الاثر فى تعديل سلوك قائم أو العدول عنه الى سلوك جديد . . وهذا كله هو ما يعرف باتجاهات التأثير .
وينبغى الا ننسى فى هذا المجال نظرية التأثير الوظيفى . . أى الذى يأخذ " الظروف الاخرى فى الاعتبار " أو كما يسميها البعض نظرية " التأثير الذى يهتم بالظواهر الاخرى " .
كما ينبغى الا ننسى نظرية " سريان المعلومات على مرحلتين " وهى التى تثبت ان تأثير التلفزيون - أو غيره من وسائل الاتصال الجماهيرى - لا يشمل فقط الذين يتلقون عنه مباشرة . . اذ ان هؤلاء أو بعضهم ممن لـهم تأثير على الآخرين . . يتولون نقل ما تلقوه أو تأثروا به من برامج التلفزيون الى الآخرين الذين لم يشاهدوه . . ومن خلال رحلة التأثير الثنائية هذه يتم تداخل مؤثرات اخرى قد تقوى أو تضعف أو حتى تعكس الأثر الاول الذى احدثته الرسالة التلفزيونية .
وأخيرا ينبغى ان نشير فى الاجابة على التساؤل الخاص بنصوص البرامج - سواء كانت ثقافية أو غير ثقافية - ان كثيرا من برامج التلفزيون ليس لها نصوص بالمعنى المعروف . . فالبرامج التلفزيونية تنقسم من حيث النص المعد اعدادا كاملا من قبل ، الى قسمين . . برامج ذات نصوص كاملة كالتمثيليات والاخبار . والبرامج المصورة تصويرا سينمائيا ، وبرامج اخرى ذات نصوص غير كاملة أو شبه كاملة ( اى مجرد توجيهات عامة مكتوبة أو نقاط ارتكاز ) كبرامج الندوات والحوار والمجلات والمنوعات وغيرها .
يضاف الى هذا ان النصوص التلفزيونية هى " نصوص تصوير " بمعنى انـها تدخل دائما عنصر الصورة المتخلية مضافا الى عنصر الكلمات المكتوبة فى النص . . الامر الذى يجعل هذه النصوص عند قراءتـها عديـمة الجدوى
كنصوص أدبية الا بالنسبة للمخرج التلفزيونى الذى يقرأها وهو يضع تخيله للصورة الى جانب كلمات النص .
ولعلنا ان ننتهى من هذا كله الى اننا فى بحثنا عن الاثر الثقافى للتلفزيون يجب الا نقف عند ما يسمى بالبرامج الثقافية ويجب الا نعير كثيرا من الاهتمام لنصوص هذه البرامج . . واننا نبحث عن الاثر فى كل ما يقدمه التلفزيون من برامج فى شكلها النهائى الذى تظهر به للناس دون نظر الى الجانب الادبى فى النصوص . . وهو الجانب الخفى من البرامج .
كلمة عن الأثر الذاتى للتليفزيون :
على ان المتتبع للبحوث والنظريات المتصلة بوسائل الاتصال الجماهيرى . . و بوسيلة التلفزيون بالذات يكتشف ان هناك اتجاها جديدا أو نظرية احدثت دويا هائلا فى علوم الاتصال هى " نظرية ماكلوهام فى فهم وسائل الاتصال " و تؤدى نظرية هذا الفيلسوف الكندى المعاصر ان اكتشاف اى تكنولوجيا جديدة وتطبيقها فى مجال الاتصال من شأنه ان يؤدى بذاته الى احداث تغيرات ثقافية وحضارية فى المجتمع الذى تدخل اليه هذه التكنولوجيا الجديدة . . بصرف النظر عما تحمله هذه الوسيلة من أفكار . . فهو يقول ان " الوسيلة فى ذاتـها هى الرسالة " . . اما الرسالة التى تنقلها الوسيلة أو المضمون فهو رسالة اخرى تضاف الى الرسالة الاولى التى لها تأثير بذاتـها .
فالتلفزيون مثلا عندما يدخل الى مجتمع من المجتمعات الانسانية ، فانه بذاته وبصرف النظر عن البرامج التى يقدمها - دون التقليل من اهمية هذه البرامج - يحدث تأثيرات عميقة فى ثقافة هذا المجتمع .
ومن بين هذه التأثيرات مثلا - فيما يقرر ماكلوهام - تحول المجتمع من ثقافة المشافهة الى ثقافة الرؤية اى اعتماده فيما يتلقاه من خبرات انسانية على حاستى النظر والسمع بدلا من اعتماده فى الدرجة الاولى على حاسة السمع وما يترتب على هذا من آثار ثقافية عميقة .
ومن هذه التأثيرات ايضا بداية سيادة الثقافة القومية والثقافة العالمية
- بالنسبة للفرد - على حساب الثقافة المحلية والقبلية . ولا نريد ان نقف طويلا عند هذه النظرية ، رغم انـها جديرة بالبحث
والدراسة فموضوع بحثنا هو " البرامج " التى يقدمها التلفزيون . . وليس " التلفزيون " فى ذاته .
الملامح الثقافية للخدمة التلفزيونية العربية : أ - اللهجات والثقافات المحلية :
إننا نجد ان الخدمات التليفزيونية فى المنطقة العربية تتميز بمجموعة من الملامح الاساسية بعضها راجع الى طبيعة الارسال التليفزيونى ذاته وبعضها راجع الى الامكانيات المحدودة لكثير من الخدمات التليفزيونية العربية ، ويرجع البعض الآخر الى المدى المحدود لانتشار اجهزة الاستقبال التليفزيونى بين الجماهير العربية .
فالاشارة التى تنبعث من جهاز الارسال التليفزيونى - على خلاف الاشارات المنبعثة من اجهزة الراديو - لا تتعدى فى الظروف العادية دائرة نصف قطرها تسعون كيلومترا ، فى حين ان اشارة الراديو على الموجتين المتوسطة والقصيرة يمكن ان تصل الى عشرات الآلاف من الكيلومترات . . ومعنى هذا انه لكى تغطى الخدمة التليفزيونية قطرا عربيا متوسط المساحة فلا بد من اقامة شبكة من محطات الارسال التليفزيونى مختلفة المواصفات فى عدة نقاط وفقا للتوزيع الجغرافى للسكان ووفقا للظروف الطبيعية للمكان - الامر الذى يقتضى نفقات باهظة لم تستطعها حتى الآن غالبية الدول العربية فاكتفت باقامة محطات تخدم المدن الكبرى وحدها او شبكات محدودة المدى لتغطية اهم المناطق الآهلة بالسكان من وجهة نظر المخططين للخدمات التليفزيونية .
وهذه المحطات أو الشبكات التليفزيونية المحلية تعمل اساسا لخدمة الجمهور المحلى حيث لا توجد وسائل فنية لربطها بعضها بالبعض الآخر على المستوى القومى . والوسائل المعروفة حتى الآن هى ربط الشبكات المحلية معا عن طريق سلسلة مترابطة من محطات التقوية او عن طريق قمر صناعى تشترك فيه الشبكات المحلية عن طريق محطات ارضية خاصة بكل منها . . ولا ترتبط من الشبكات العربية المحلية معا فى خدمة مشتركة فى فترات معينة الا شبكات المغرب والجزائر وتونس .
كل هذا فرض على الخدمات التليفزيونية العربية بشكل عام ان تركز معظم
اهمتامها على جمهورها المحلى . . بل وفى بعض الاحيان على جمهور المدينة الكبيرة التى تخدمها - والاستثناء الوحيد هو بعض البــــرامج القليلة التى ترجو بعض المحطات العربية المنتجة لها ان تبيع حق استغلالها الى المحطات الاخرى فى المنطقة العربية فهذه وحدها يراعى فيها الجانب القومى .
واول مظاهر هذا الاهتمام المحلى للبرامج التليفزيونية العربية سيطرة اللهجات المحلية عليها وتركيزها على ألوان الثقافة المحلية بفروعها المختلفة وتناول مشكلات وعادات لا تعنى فى الاغلب الاعم الا هذا الجمهور المحلى الذى تتجه اليه .
ب - التبادل البرنامجى المحدود على المستوى القومى :
ولا شك انه مما يخفف من غلواء هذه الصفة المحلية الغالبة على الخدمات التليفزيونية العربية اضطرارها الى الاعتماد على بعض البرامج التليفزيونية العربية المنتجة فى محطات عربية اخرى لكى تسد حاجة الخدمة التليفزيونية المستمرة الى انتاج جديد ، الامر الذى لا يتيسر دائما بالامكانيات المحلية المحدودة فى اغلب الاحيان .
ولكن من المؤسف ان هذا التبادل البرنامجى بين محطات التليفزيون العربية يتم فى نطاق محدود لاكثر من سبب .
- فالمستويات الفنية والتقنية غير متكافئة بين هذه المحطات . .
- وتكلفة انتاج البرامج التليفزيونية فى المحطات القادرة على انتاجها تكلفة كبيرة ونطاق توزيعها محدود الامر الذى يجعل مقابل حق استغلالها فى المحطات التليزيونية الاخرى كبيرا تعجز عنه كثير من هذه المحطات .
- عدم وجود نظام فعال لتبادل البرامج التليفزيونية على المستوى القومى تشرف عليه هيئة قومية رغم الجهود التى يبذلها لتحقيق هذا الهدف اتحاد اذاعات الدول العربية .
ج - الاعتماد على البرامج التليفزيونية الاجنبية :
وامام هذا الوضع غير الملائم على المستوى العربى نجد الموقف يختلف تماما فى تعامل المحطات العربية مع المنظمات والهيئات والشركات الاجنبيــــة . .
فنجد الكثير منها على استعداد لتزويد هذه المحطات بما تحتاج اليه من البرامج التليفزيونية الاجنبية باسعار معقولة أو باسعار زهيدة او بدون مقابل على الاطلاق . . مما يغرى كثيرا من الخدمات التليفزيونية العربية بالاعتماد على هذه الهيئات الاجنبية فى سد حاجتها من البرامج التليفزيونية الاجنبية . . بل وفى التغالى فى الاعتماد على هذه البرامج .
ونعرف ان هذه البرامج الاجنبية تخضع فى كل المحطات العربية لنوع ما من أنواع الرقابة . . ولكنها فى الاغلب الاعم لا تعدو ان تكون رقابة سياسية او رقابة اخلاقية مع أن الاهم هو الرقابة على القيم والاتجاهات الثقافية المباشرة أو غير المباشرة التى تحملها هذه البرامج .
ولا يقول أحد بوجوب انغلاق الثقافة العربية فى وجه الثقافــــات الاجنبية المختلفة بل ان الثقافة العربية كانت وما زالت وستظل فى اخذ وعطاء مع هذه الثقافات . . بـهدف الاثراء المتبادل لكل منها . . ولكن مع ضرورة الحفاظ على مقومات الثقافة العربية وحمايتها من القيم التى تـخربـها من داخلها . .
تخطيط الخدمات التليفزيونية العربية من اجل ثقافة متوازنة :
اذا كان هذا هو الوضع القائم بالنسبة لعلاقة التليفزيون العربية فما هى الوسائل التى يمكن عن طريقها وضع التليفزيون فى مكانه الصحيح من اجل خدمة ثقافة عربية متوازنة بين المحلية والقومية ٠٠ ؟
ينبغى اولا وقبل كل شئ اعتبار التليفزيون عنصرا اساسيا فى السياسة الثقافية على المستوى الوطنى ثم على المستوى القومى .
وهذا يقتضى بداهة ان تكون لكل دولة من الدول العربية خطة ثقافية طويلة المدى وخطط اخرى قصيرة المدى . .
ويقتضى بالبداهة ايضا ان توجد خطة ثقافية عامة على المستوى القومى العربى كله . . ووضع السياسات التخطيطية عملية علمية معقدة غاية التعقيد وليست مجرد شعارات او مجموعة من الآمال التى تطرح امام الناس مع كل النيات الطيبة فى أحسن الاحوال . . ثم لا تعرف طريقها الى الحياة . وعملية التخطيط وان كانت قد نشأت من قبل فى اطار الانشطة الاقتصادية
والعلمية ، الا ان الاخذ بـها فى مجال الثقافة وغيرها من الانشطة الانسانية اصبح من ضرورات الحياة المعاصرة بل واعتبر اكتشافا رائعا لما حققه من نتائج . ويكفى ان الثقافة بارتباطها بوجدان الفرد وفكره وقيمه وموقفه من الحياة لا يمكن ان يتحقق فيها اى تطوير فعال الا اذا رسمت اهدافه وجندت من اجل تحقيقها الوسائل على المدى الطويل . . ومن الاقوال الشائعة ان عملية بناء مصنع اسهل عشرات المرات من عملية بناء وجدان فرد او جماعة .
وليس هنا مجال التفصيل فى نظرية التخطيط بعامة أو التخطيط الثقافى بخاصة ولكنا نرى من الضرورى ان نعرض بسرعة لتعريف كلمة التخطيط بـما يوضح عناصرها حتى تكون مقياسا نعرف به اذا كان ما نقوم به ، ونطلق عليه هذا الوصف هو تخطيط فعلا بالمعنى العلمى أم لا .
- فالتخطيط عملية ( اى انه يتميز بصفة الاستمرار وتفاعل عناصره مع بعضها البعض ) .
- مؤداها تجنيد الامكانيات المادية والبشرية المتاحة ( وهذا يقتضى حصرها اولا وتحديد مدى كفاءتـها ) .
- والتى يمكن ان تتاح ( وهذا يعنى ضرورة العمل مقدما قبل وضع الخطة على ايجاد موارد مادية وبشرية جديدة يتوقع على اسس مقبولة توافرها ) .
- خلال فترة زمنية معينة ( هذه الفترة قد تكون طويلة تمتد الى عشرين سنة مثلا او قصيرة تمتد إلى خمس سنوات أو نحوها ) .
- من اجل تحقيق أهداف محددة ( وهذه الاهداف تحدد فى اطار الاهداف الأشمل على المستوى الاقليمى او القومى ) .
- عن طريق سياسات عامة وتفصيلية ( فالخطط التنفيذية أو السياسات تتم على مستويات الاعم فى المستوى الاعلى والاكثر تفصيلا فى المستويات الادنى ) .
- تختبر مدى فعاليتها على مدار التنفيذ ( بمعنى ان تتلاءم مع عملية التنفيذ متابعة لمدى النجاح او الفشل فى تحقيق النتائج واسباب ذلك مع تعديل السياسات التنفيذية وفقا لهذه الاختبارات ) .
- مع الاستخدام الامثل للموارد والطاقات ( اى مراعاة الجانب الاقتصادى فى التنفيذ وزيادة كفاية العمل ) .
ومفهوم طبعا ان وضع الخطط الثقافية على المستوى المحلى او القومى يجب ان يكون فى اطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومتمشيا مع الخطط التعليمية فى مستوياتها المختلفة . . ويأتى تخطيط النشاط التليفزيونى فى اطار الخطة الثقافية الشاملة . .
وينبغى ان ننبه هنا الى ملاحظتين :
الاولى : ان للتليفزيون دورا اعلاميا ملحوظا فى الدول العربية المختلفة .. وعليه واجبات فى اطار الفكر السياسى القائم فى كل بلد عربى ، وهذه مسألة منفصلة عن الدور المؤثر الذى يؤديه فى مجال الحياة الثقافية وهو ما يركز عليه الحديث هنا ، وهناك سلطات فى كل دولة عربية مسؤولة عن الدور الاعلامى للتليفزيون فى اطار فكرها السياسى الامر الذى يخرج عن اطار هذا البحث .
الملاحظة الثانية : ان الدول العربية تختلف فيما بينها فى الشكل التنظيمى الذى يوضع فيه التليفزيون داخل الاطار التنظيمى العام للدولة - على انه مهما كان هذا الوضع فهو لا يتعارض مع ضرورة ايجاد صيغة تنفيذية مناسبة فى كل دولة لربط التليفزيون بالخطة الثقافية العامة للدولة فى اطار خطة أعم ، تشمل المنطقة العربية كلها وهو امل ينبغى ان تجند القوى المخلصة فى سبيل الوصول اليه .
فاذا اتفقنا على ضرورة وضع خطة التليفزيون ضمن اطار الخطة الثقافية العامة - فان لخطة التليفزيون مجموعة من المقتضيات لا بد من مراعاتها :
- الوصول بالخدمة التليفزيونية الى اكبر عدد من المشاهدين .
- والاخذ بنظام المشاهدة الجماعية .
- ووضع نظام مستمر لبحوث المشاهدين .
- وكذلك الخطط البرنامجية المحلية على اساس تحقيق التوازن الثقافى .
- ووضع معايير لاستخدام اللغة العربية الصحيحة فى التليفزيون وهذا ما يجب التوسع فيه :
فمع التقدير الكامل لما اجمع عليه الخبراء فى اجتماعهم بمقر اليونسكو (من 29 مايو الى 3 يونيه منذ سنة 1960 ) لدراسة اصالة الفكر والآداب والفنون العربية خلال المائة سنة الماضية ، من ان " الثقافة العربية سوا القديمة او الحديثة او المعاصرة تتجاوز فى نطاق شمولها البلاد العربية نفسها ولذلك فان اللغة العربية لا يمكن اعتبارها المعيار الوحيد لهذه الثقافة . . " الا اننا نرى ، فى اطار هذا البحث ، ان اللغة العربية تشكل عنصرا اساسيا فى تدعيم التيار القومى للثقافة العربية . . .
فبحثنا يدور حول النشاط التليفزيونى - وهو نشاط يقوم على الصورة كما يقوم على الكلمة المنطوقة . . اى اللغة .
كما انه يقتصر على الانشطة التليفزيونية فى المنطقة العربية ، وهى منطقة لغتها الاولى هى اللغة العربية ( رغم وجود لغات اخرى غير مكتوبة فى الغالب لاقليات محدودة جدا تقيم فى العالم العربى ولكنها تنتمى الى الحضارة العربية ) .
ولقد كانت اللغة العربية من العناصر الاساسية - ولا نقول الوحيدة - فى تكوين واستمرار الثقافة العربية . . وهى لغة حية متطورة لديها القدرة على مزيد من التطور والتكيف وفق مقتضيات العصر . . وليست لغة مندثرة كاللغة العبرية مثلا تبذل الجهود والوسائل المصطنعة لاحيائها لخلق وجود قومى مصطنع . .
وبالنظر الى الصفة المحلية التى تتميز بها الخدمة التليفزيونية على النحو الذى اوضحناه من قبل ، والخوف من تردى هذه الخدمة بكاملها فى مهاوى اللهجات المحلية المتباينة ، لذلك ينبغى العمل بوعى كامل على ضرورة سيطرة اللغة العربية الصحيحة على الخدمات التليفزيونية العربية لضمان احتفاظها بعنصر اساسى من مقوماتها القومية ، دون اهدار لحق اللهجات المحلية فى الظهور بطريقة مهذبة لا تبالغ فى البعد عن صحيح اللغة .
ولسنا نقصد هنا سيطرة الاسلوب الادبى للغة العربية فلقد فرضت الاذاعة الصوتية ثم التليفزيونية ( وهو اذاعة مرئية وصوتية ) اسلوبا خاصا
فى استخدام اللغة يختلف عن الاسلوب الادبى ، واصبح يعرف بالاسلوب الاذاعى ، اهم ما يميزه البساطة واختيار الكلمات العربية المألوفة ، واستخدام الجمل القصيرة ، وتكوينها بحيث تسهل على النطق والسمع معا .
وضع الخدمات التليفزيونية العربية فى خدمة التعليم :
والتعليم الذى نقصه هنا هو التعليم بشقيه ، المنهجى المدرسى ، وتعليم الكبار على النحو الذى اوضحناه فى فترة سابقة من هذا البحث ، اخذا فى الاعتبار ان التعليم ركيزة اساسية من ركائز الثقافة ، وان التليفزيون قادر بخصائصه الذاتية على معاونة المعلمين والدارسين على رفع مستوى الخدمة التعليمية على مستوى الوطن العربى كله فى سبيل توحيد السمات الاساسية لمناهج التعليم فى مراحله المختلفة وطرق التدريس وصولا الى قومية التعليم فى المنطقة العربية .
ومسؤولية تنفيذ هذه السياسية تقع على عاتق المسؤولين عن التعليم المدرسى وتعليم الكبار فى البلاد العربية ، على نفس مستوى مسؤولية المخططين للخدمات التليفزيونية العربية ، وعليهما معا تقع مسؤولية ايجاد الصيغة التنظيمية والاقتصادية والفنية المناسبة للوصول الى هذا الهدف .. فليست هناك صيغة عامة يمكن تطبيقها فى كل الاحوال . وتجارب العالم فى هذا المجال متعددة متباينة .
زيادة حجم التبادل التليفزيونى بين التليفزيونات العربية :
ولا شك ان التبادل البرنامجى الذى نعنى به اذاعة برامج تليفزيونية لدولة عربية فى تليفزيونات دولة او دول عربية اخرى ، هو من اكثر وسائل تدعيم المعالم القومية للثقافة العربية ، ويزيد الدعم بمقدار زيادة عدد البرامج ومساحة الارض التى يشملها التبادل .
ويتم التبادل الآن بين تليفزيونات الدول العربية فى نطاق محدود جدا خصوصا اذا قيس بنسبة البرامج الاجنبية التى تذيعها كثيرا من التليفزيونات العربية . وتتم هذه العملية اما بتبادل التسجيلات ( اى شراء حق استغلالها ) بين
محطتين او اكثر . أو عن طريق ربط شبكة تليفزيونية وطنية بأخرى مجاورة لها فتستطيع كل منهما ان تأخذ من الاخرى وتعطى .
وهذا الشكل الثانى لم يتيسر فى المنطقة العربية كلها الا فى فترة متأخرة جدا وبين محطات تونس والجزائر والمغرب والتى ارتبطت بشبكة ارضية عرفت باسم " مغرب فيزيون " .
ولا شك ان الجهود ينبغى ان تبذل من اجل مزيد من مثل هذا الربط بين الدول العربية المتجاورة خصوصا وهناك مشروعات مدروسة بالفعل فى هذا المجال .
وضع خطة طويلة المدى لربط الشبكات الوطنية عن طريق الفضاء :
على ان الطريقة المثلى لربط شبكات التليفزيون العربية الوطنية فى شبكة واسعة على المستوى القومى كله ، هى ربط تليفزيونات المنطقة العربية كلها عن طريق الفضاء عبر قمر صناعى يطلق خصيصا لخدمة المنطقة العربية او باستخدام احد الاقمار الصناعية العالمية التى يمكن ان تقوم ايضا بهذا العمل.
وتتلخص الفكرة - دون الدخول فى تفاصيل فنية معقدة - فى اقامة محطة استقبال وارسال للاشارات التليفزيونية على قمر صناعى يدور بسرعة موازية لسرعة الارض يستقبل الاشارات التليفزيونية من محطات ارضية خاصة تقام فى البلاد العربية التى ترغب فى ارسال برامجها وتعكس الاشارات لترسل الى المحطات الارضية للدول العربية الراغبة فى استقبال الاشارة .. وبذلك تستطيع اى محطة عربية ان ترسل او تستقبل ما تشاء من برامج الدول العربية الاخرى المشتركة فى هذا النظام وتذيعه بين برامجها .
وبذلك تستطيع كل الدول العربية او بعضها ان تشاهد برنامجا تذيعه احداها فى نفس الوقت وبنفس مستوى الجودة . . فتخلق وحدة ثقافية عقلية ووجدانية لا تستطيعها اية وسيلة اخرى من وسائل الاتصال .
ولم يعد هذا حلما بعد التقدم الضخم الذى حققته وما زالت تحققه تكنولوجيا القرن العشرين . . وهو الوسيلة التى تربط الآن بين اوروبا الغربية وامريكا والتى تربط جمهوريات الاتحاد السوفياتى .
وهو الوسيلة التى ستأخذ طريقها قريبا لدعم الوحدة الثقافية القومية فى كل من كندا وعدد من دول امريكا اللاتينية . . وارجاء القارة الهندية الفسيحة .
ويتبنى اتحاد اذاعات الدول العربية هذه الفكرة منذ عدة سنوات . . وقد اوفدت اليونسكو ، بناء على طلب الاتحاد وعدد من الدول العربية ، بعثة اجرت دراسة مبدئية فى ست دول عربية تمثل اجتماعيا وسكانيا وثقافيا بقية اجزاء المنطقة العربية كلها وانتهت الى ان المنطقة العربية منطقة نموذجية فى صلاحيتها لدراسة مشروع ربط تليفزيونى عن طريق قمر صناعى بسبب مقوماتها الحضارية والثقافية واللغوية والجغرافية . . يهدف الى خدمة اغراض الثقافة والتربية والتعليم على المستوى القومى .
ولعل المستقبل القريب ان يحقق للثقافة العربية مزيدا من التطور والوحدة اذا ما احسنا الاخذ بالمنجزات العلمية الضخمة للقرن العشرين ، واخضعناها لتخطيط واع مخلص من اجل تحقيق امنية من اعز امانى العرب جميعا .
