* من اعلام الاسلام *
يعرف معظم الناس الشافعى الفقيه ولكنهم قليلون أولئك الذين يعرفون الشافعى الأديب ، فالشافعى رحمه الله لم يكن عالما في الفقه فحسب ، بل كان عالما في نواحى أخرى من العلوم . يقول الامام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله : ( ما أجد من بيده محبرة أو ورق الا وللشافعى في رقبته منة ) . ولقد كان الادب على رأس هذه العلوم ، فان الشافعى ( رحمه الله ) كثيرا ما قال الادب نثره وشعره . فقد جادت قريحته بجيد الشعر وبليغ النثر أجادة تامة جعلته على رأس قائمة أدباء عصره الى جانب كونه من أعلم علماء زمانه فقها . ولكنه كان مع ذلك لا يعتز بالشعر بقدر ما كان يعتز بالفقه فقد قال : ان الشعر يزري بالعلم ، وتعفف هو عن قوله له ونسب اليه ان قال : ( ولولا الشعر بالعلماء يزرى لكنت اليوم أشعر من لبيد ) ولكنه - وان كان هو قائل هذا البيت - فانه في الحقيقة كان أشعر من لبيد .
ولم يختص شعر الامام الشافعى بالتصوف والوعظ والحكم بل قال شعرا في
الغزل والحب البريء الى جانب التعازى .
موجز عن حياته :
الخوض في غمار التحدث عن أدب الشافعى يطيب لى هنا التحدث بايجاز مختصر عن حياة هذا الامام العامل والأديب الفاضل .
هو أبو عبد الله محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن سائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف القرشى المطلب الشافعى .
ولا يوجد خلاف في أن تاريخ ولادة الامام الشافعى يرجع الى عام ١٥٠ هـ الموافق ٧٦٧ م . ولكن الخلاف يدور في تحديد مكان ولادته . فمن قائل انه ولد باليمن ، ومن قائل انه ولد بعسقلان ، ومن قائل انه ولد بغزة ، والقول الاخير هو الارجح .
وقد توفى والد الامام الشافعى وهو لا يزال في المهد فأرسلته أمه الى مكة فنشأ فيها نشأة صالحة حيث حفظ القرأن الكريم ودرس مبادئ الفقه ، وفي عام ١٩٥ ه سافر الى مدينة بغداد فدرس هناك على يد نخبة من صفوة العلماء الذين كانت بغداد تزخر بهم فى ذلك العهد وقد مكث هناك مدة سنتين بعدها عاد الى مكة ليقيم بها حتى عام ١٩٨ ه حيث سافر الى مصر فوصل اليها عام ١٩٩ ه ليقيم هناك حتى يوم وفاته ( الجمعة ٣٠ رجب ٢٠٤ ه ) .
ودفن في القرافة الصغرى بالقاهرة .
وقد درس في رحلاته هذه على يد الكثير من العلماء الأفاضل منهم :
الامام مالك بن أنس ، والشيخ سفيان ابن عيينة، والشيخ مسلم بن خالد الزنجى، وداود بن عبدالرحمن العطار ، وابراهيم بن
سعد الانصارى ، وعمر بن أبى سلمة - صاحب الاوزاعى - ويحيى بن حسان - وقد صحب الليث بن سعد - ( رحمهم الله ) . . وغيرهم .
نبوغه في اللغة والأدب :
تثقف الامام الشافعى أول ما تثقف في ديار بنى أسد ، وقد كانوا من أبلغ العرب وأفصحهم مما أكسبه لسانا فصيحا وبيانا بليغا . ولما بلغ الشافعى رضي الله عنه الخامسة عشرة من عمره كان قد تبحر في اللغة والادب والشعر ، حتى ان شيخ الشعراء ( الأصمعى ) كان قد درس شعر الشعراء الهذليين على يد الشافعى - رحمه الله - وهو في ذلك العمر .
امتاز الشافعى - رحمه الله - بقوة في البيان ، ووضوح في التعبير ، وفصاحة فى اللسان .
يقول الشيخ عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى : ( كان الشافعى - رحمه الله - من أفصح الناس وكان مالك يعجبه قراءته لأنه كان فصيحا ) .
وقال أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادى : (( ما رأيت أحدا أفوه ولا أنطق من الشافعى )) .
وقال عبد الملك بن هشام - صاحب المغازى - وكان بصيرا باللغة : (( الشافعى ممن تؤخذ عنه اللغة )) .
فهذه الاقوال كانت أكبر دليل على نبوغ الامام الشافعى اللغوي والادبي .
والقارئ لتأليف الامام الشافعى التى بلغت نحو عشرين مؤلفا يرى ما كان عليه هذا الامام من مرتبة عالية في اللغة والادب
فجل هذه المؤلفات كتبها بأسلوب أدبى جزل وتعبير رصين ذى معان عميقة .
ولقد كانت حادثة الامام الشافعى مع الرشيد بعد أن اعتقله مع جماعة من العلويين خير دليل على قوة تمكنه في الادب حيث استطاع أن يحاج الرشيد بقوة بيانه وفصاحة لسانه ، فقد أخذ في وعظ الرشيد ومن حوله من الرعية موعظة تتصدع لها القلوب وتلين . أبكت جميع الحاضرين
وحين تجاوز الامام الشافعى مرحلة الشباب الى الشيخوخة صار فريد عصره ووحيد زمانه في الادب واللغة والشعر
منهج الشافعي في شعره :
نهج الشافعى - رضي الله عنه - في شعره منهجا ساميا وطريقا قيما حيث كان جل شعره يعنى بالنصح والارشاد والهداية والوعظ والحكم والحث على الاجتهاد والعمل الصالح والتحلى بالصفات الخيرة .
فنراه في الابيات التالية يحث على القناعة ويرى ان القناعة فيها الحرية - كل الحرية- وفيها الغنى ، وان الذل في الطلب والمسألة
فيقول :
العبد حر ان قنع
والحر عبد ان طمع
ويقول أيضا :
رأيت القناعة رأس الغنى
فصرت بأذيالها متمسك
فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به منهمك
فصرت غنيا بلا درهم
أمر على الناس شبه الملك
ثم ها هو ذا يحث على الورع والعمل به ويظهر فائدته فيقول - رحمه الله - :
المرء ان كان عاقلا ورعا
أشغله عن غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله
عن وجع الناس كلهم وجعه
وتكلم الشافعى في شعره عن أدب الكلام وحسن الصمت . . قال :
لا خير فى حشو الكلا
م اذا اهتديت الى عيونه
والصمت أجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
وعلى الفتى لطباعه
سمة تلوح على جبينه
والشافعى رضى الله عنه - كما أسلفنا- لم يتعرض في شعره للتصوف والنصح والحث على التحلي بالنعوت الحميدة فحسب بل انه قد تعرض - قليلا - للحب والغزل البريء ، فينسب اليه انه قال : (( تزوجت امرأة من قريش بمكة وكنت أمازحها فأقول )) :
ومن البلية أن تحب
فلا يحبك من تحبه
فتقول هى :
ويصد عنك بوجهه
وتلح أنت فلا تغبه
وكان يقول لزوحته ناصحا اياها بعدم التعرض له في حالة غضبه :
خذي العفو منى واستديمى مودتى
ولا تنطقي في سورتى حين أغضب
فانى وجدت الحب في القلب والأذى
اذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
وقال في الحب أيضا :
مرض الحبيب فعدته
فمرضت من حذرى عليه
وأتى الحبيب يعودنى
فبرئت من نظرى اليه
وقد امتاز شعر الامام الشافعي بسهولة الالفاظ وحسن السبك واشراقة الديباجة وبلاغة التعبير وجمال الأخيلة .
رحلات الامام الشافعي
وأثرها في لغته وأدبه :
كان الامام الشافعى رحمه الله يقول :
ما في المقام لذى عقل وذى أرب
من راحة فدع الاوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فان لذيذ العيش في النصب
ولهذا نرى الامام الشافعى كثير الترحال من بلد الى آخر طالبا المزيد من العلم والمعرفة ، فزار بلدانا عدة كالعراق وفارس والمدينة واليمن ومصر .. الامر الذى أفاده وأثر تأثيرا كبيرا في لغته وأدبه وعلمه حيث كان يجتمع بعلماء كل بلد يزوره ولكل واحد منهم اختصاصه،ولقد كانت كل البلاد التى رحل اليها تحفل بجموعة كبيرة من علماء اللغة والادب فيأخذ عنهم ما شاء له الله أن يأخذ .
وأتاحت له هذه الرحلات الى جانب
أفادته العلمية - الفقهية منها والادبية - أن يتعرف على عادات الناس وأدبهم وأخلاقهم في كل قطر يرحل اليه .
شعر الامام الشافعي :
يقول المبرد : (( كان الشافعى أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقرآن )) .
لقد قال الامام الشافعى رضى الله عنه الكثير من الشعر وقد جمعه محمد مصطفى ، في كتاب أسماه (( الجوهر النفيس في شعر محمد بن ادريس )) .
فمن عيون شعره ما قاله رضى الله عنه في الصبر والتأسى والسخاء والقناعة :
دع الايام تفعل ما تشاء
وطب نفسا إذا حل القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالى
فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا
وشيمتك السماحة والسخاء
يغطى بالسماحة كل عيب
وكم عيب يغطيه السخاء
ولا حزن يدوم ولا سرور
ولا بؤس يدوم ولا رخاء
ورزقك ليس ينقصه الثاني
وليس يزيد في الرزق العناء
اذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
دع الايام تغدر كل حين
ولا يغني عن الموت الدواء
وفي معاشرة الاصدقاء وكيف يكون الصديق يقول :
أحب من الاخوان كل موات
وكل غضيض الطرف من عثراتي
يصاحبنى في كل أمر أحبه
ويحفظني حيا وبعد وفاتي
فمن لى بهذا ليت انى أصبته
فقاسمته مالى مع الحسنات
ويقول ناصحا ومرشدا :
اذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك ان أبدت اليك معايبا
فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتى هى أحسن
نثر الامام الشافعي :
لم يكن الامام الشافعى أديبا وشاعرا فحسب ، بل انه كان ناثرا أيضا ، فمن بليغ كلامه المحتوي على الوعظ والارشاد المفعم بالحكم والنصائح ، ما قاله في تعلم العلوم الدينية :
(( من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن نظر في الفقه نبل قدره ، ومن كتب في الحديث قويت حجته ، ومن نظر في اللغة رق طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه )) .
وقال في النعوت التى يجب توافرها في الرجل الكامل في الدنيا :
(( لا يكمل الرجل في الدنيا الا بأربع : الديانة ، والأمانة ، والصيانة ، والرزانة ))
وقال رضي الله عنه :
(( أشهر الاعمال ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة ، وكلمة الحق عند من يرضى ويخاف )) .
وفي الخصال الخيرة في الدنيا والآخرة قال :
(( خير الدنيا والآخرة في خمس خصال : غنى النفس ، وكف الأذى، وكسب الحلال، ولباس التقوى ، والثقة بالله فى كل حال .
وغير ذلك من الكلام المنثور الذى يكون كتابا قائما بذاته فيما لو جمع .
وبعد : فان الشافعى كان بحق أديبا وشاعرا مجيدا قال الشعر فأحسنه وتكلم بالنثر فأتقنه .
أما الشافعى الفقيه فان حديثنا عنه من هذه الناحية من فضول القول لأن شهرته فى هذا قد طبقت الآفاق وحسبنا في هذا أن نورد ما قاله فيه الامام أحمد ابن حنبل :
( يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ان الله عز وجل يبعث بهذه الامة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها ، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الاولى وأرجو أن يكون الشافعى على رأس المائة الاخرى ) .
( مكة- العتيبية)
١ - أحسن القصص جـ ٤ - للاستاذ على فكرى ٢ - الشافعى - للشيخ محمد أبو زهرة .
٣ - فيض الخاطر جـ ٩ - لأحمد أمين .
