قبل الحديث عن الشعر بين المحلية والقومية ، أوثر أن أشير الى أننا هنا لسنا بصدد دراسة الشعر على اطلاقه بين المحلية والقومية ، والا عادت محاولتنا تخبطا فى خواء التجريد ثم اننا هنا لسنا بصدد دراسة الشعر العربى على اطلاقه بين المحلية والقومية ، والا فاننا سندخل متاهة من المتاهات توشك أن تكون بلا نهاية . .
اننا هنا بصدد تقويم الشعر العربى المعاصر بين هاتين القيمتين أو هذين الاتجاهين : اتجاه المحلية واتجاه القومية .
على أن هذه المحاولة التقويمية تتطلب قبل كل شئ تحديد المصطلحين " المحلية " و " القومية " وذلك من أجل تسهيل محاولتنا وتأكيدها .
لقد استقرت جملة من البديهيات فى دراسة الادب على اجماله ، وفى مقدمة هذه البديهيات أن الادب انعكاس ذاتى وانعكاس اجتماعى فى الوقت ذاته ، بمعنى أن الادب تعبير عن الذات الفردية الخالقة ، ثم هو بالتالى نتاج طائفة من العوامل والمؤثرات الاجتماعية ، فهو بالتعبير العلمى الحديث محصلة لطائفة من العوامل الذاتية والاجتماعية .
فاذا ما اتفق على هذه المقولة ، وهى مقولة غدت فى مستوى البديهيات لا خلاف على جوهرها وان اختلف على شئ من التفصيلات فيها . . أقول اذا ما أتفق على هذا أمكننا أن نرى فى العوامل المؤثرة فى الادب ضرورة من الضرورات التى تتحكم فى صوغ الفكر عموما وتحديد مكان الشعر بين قيمتى المحلية والقومية .
ولا شك فى أن الادب فى اجماله والشعر على وجه التخصيص يتأثر بظروف البيئة التى يصدر عنها . وان تعبير " ظروف البيئة " هذا هو تعبير واسع فضفاض ينطوى فيه عالم كامل من العوامل والمؤثرات من طبيعية وجيولوجية وسلالية وانثروبولوجية وسياسية واقتصادية وروحية ، وأن دراسة أية
حركة فكرية أو روحية أو حضارية بأوسع معانيها تظل مبتورة النتائج والاستنتاجات ان لم تتوفر على " ظروف البيئة " لدراستها واستقصاء تأثيراتها ان سلبا أو ايجابا وعلى تلك الحركة ومسارها .
ومثال ذلك ان شعر البادية العربية فى العصر الجاهلى كان صورة أصلية لحياة البادية فى ظل هاتيك الظروف التى عاشها هناك مكانا وزماننا من حيث الاخيلة والاسلوب والالفاظ والقيم وفهم الانسان والحياة والكون .
كما أن الشعر العربى فى القرن الرابع الهجرى مثلا فى بغداد العباسية كان تعبيرا عن هاتيك الظروف البيئية التى عاشها فى ظل الحضارة العباسية بكل ما فيها من قيم ومثل واشواق روحية واخلاقية وتطلع مادى حسى أبرز أقصى النقائض فى شعر تلك الحقبة من التاريخ اذ نشهد المجون والفحش وفجور القول الى جانب التصوف والزهد والتطلع الى قوى الغيب .
كذلك كانت اشعار الرجل الاشقر واساطيره البدائية فى اقصى الشمال الاوروبى قبل انبلاج العصر المسيحى هناك ، معتمة مدلهمة كحياته التى كانت حياة مغامرة متصلة طويلة فى اختراق حجب الضباب فى بحور الشمال المظلمة الجمة الاسرار .
واذن ، فلا خلاف على أن الادب ايا كانت صيغه أو اجناسه انما هو محصلة جميع تلك الظروف من ذاتية وموضوعية ، لذا فان التأثيرات المحلية على أية حركة أدبية أو على الشعر بوجه التحديد انما هو أمر لا مندوحة عنه ، فالشعر الصالح الاصيل التابع من وجدان مترع بتأثيرات الحياة ودواعيها لا بد أن يستجيب لنداء البيئة وظروفها ، أى للتأثيرات " المحلية " على أصدق نحو وأصفاه .
ومن هنا ، تصدق قيم الاتجاه الذى نما فى الغرب منذ القرن التاسع عشر والذى يؤكد على دراسة الظروف التى تشيع فى بيئة ما كمقدمة لدراسة مشاعر أو حركة شعرية معينة . فالشاعر يعبر عن قيم البيئة التى يحياها ، ولكن تعبيره عن تلك القيم قد يكون على شكل تأكيد وترسيخ لها ، أو قد يكون على شكل رفض ونقض لها وللقوى التى تمثلها . .
وعلى اية حال ، فالتعبير هو التعبير ان كان سلبا أو كان ايجابا ، وليس ثمة أدب أو شعر الا كان نتاج كل تلك الظروف والوشائج والعلاقات .
ولكننا ينبغى هنا أن نتنبه الى حقيقة اخرى ، نرى أن من الضرورى الاشارة اليها بهذا الصدد ، تلك هى أن التأثير أو التأثر ليس من الضرورى دوما أن يكون على نحو مباشر ، فليس على الشاعر أو الاديب أن يقع تحت طائلة تلك العوامل مباشرة حتى يأخذ التأثير مجراه ، بل التأثر - أو فلنقل التأثيرات - تأخذ ألف مسرب ومسرب الى وجدان الحركات الادبية والفنية والا فلا معنى اطلاقا لحركة الحياة وتفاعلاتها وقوانين الاخذ والعطاء فيها .
فالمحلية بهذا المعنى يجب أن تفهم على أساس انها روح أو بالاحرى حقيقة روحية بأكثر من كونها خصائص تمثل الواقع المباشر .
فاين يمكن أن نلمس " المحلية " أو " اللون المحلى " كما تسميه الآداب الغربية ، عند شاعر كالرصافى نشأ فى بغداد ونضج وجدانه فى أواخر القرن الماضى ، وعاش تجربة تلك الحقبة بكل ابعادها ؟ . .
أظن أن المحلية أو اللون المحلى عند شاعر كالرصافى يجب أن نتلمسها فى الروح العام الذى يشيع فى نتاجه الشعرى وفى طريقة فهمه للحياة وللانسان ، وليست فى الجزئيات والتفصيلات التى يمكن أن يأتلف أو يختلف فيها مع آخرين ليسوا لا من نتاج بيئته أو الظروف التى احاطت به بل من نتاج بيئات وظروف اخرى . . فهذا الروح العام أو الخصيصة الروحية العامة - كما يمكن أن ندعوها - هى مظهر من مظاهر " المحلية " أو " اللون المحلى " ومن هنا شاع القول المألوف على اقلام الادباء والنقاد أن فلانا " ابن عصره " . فالقول بأن شاعرا ما هو أبن عصره انما يعنى أن هذا الشاعر قد تأثر واستجاب لظروف بيئته وبأن هذا الشاعر ايضا قد أحس واستشعر بأنه قد اخذ من عصره ومن بيئته وأعطى اليهما وبذلك حقق الصيغة المتوازنة بين الأخذ والعطاء .
اننا اذا فهمنا " المحلية " على هذا المستوى وبهذا المعنى فقد اتفقنا على انها مصدر للأخذ والعطاء فى الشعر والفن وانها ليست محض احساس عابر ضئيل بل هى بالتالى من اكبر مصادر الفن العظيم ، وان الاستقصاء النقدى والتاريخى يؤكد هذه الحقيقة فى منابعها وانعكاساتها . .
فبعد هذا كله ، هل يصح لنا أن نتساءل أين تبتدئ " المحلية " أو " اللون المحلى " وأين تنتهى لتبدأ " القومية " أو " اللون القومى " ؟ . . .
هل هناك حواجز وتخوم تفصل بين هاتين الخصيصتين أو القيمتين ؟ . . . وأين هو المدلول المحلى فى هذه الحركة الشعرية أو تلك أو عند هذا الشاعر أو ذاك ، ثم اين هو المدلول القومى فى هذه الحركة الشعرية أو تلك أو هذا الشاعر أو ذاك ؟ .
وبعد هذا كله هل يمكن أن ننتهى الى القول بأن " المحلية " أو " اللون المحلى " قد يكون هو ذاته " القومية " أو " اللون القومى " أو أن هناك تطابقا كاملا بين المفهومين ؟
اننا هنا بلا شك ، ليس بوسعنا أن نعين بشكل قاطع حدود امثال هذه الاتجاهات ذلك أن للحقيقة اكثر من وجهى العملة النقدية الواحدة . ولكننا من خلال الاستقراء ومن خلال الملاحظات المتكررة للجزئيات والتفصيلات يمكن أن نرسم اطارا عاما للقضايا العامة التى نحن بصددها . ولعل الامثلة التى يمكن أن تكون مادة دراستنا لتسعفنا فى مثل هذه المحاولة تؤكد لنا أو على الأقل يؤكد معظمها ، الحقيقة القائلة بأنه ليس هناك تعارض حاد بين " المحلية والقومية " فالمحلية " ليست نقيضا للقومية لا فى الشعر ولا فى غيره بل اكثر من ذلك ليست هناك أية فوارق عميقة تفصل بين المفهومين حتى فى المسلك اليومى .
ومن التاريخ الادبى القديم يمكننا أن نختبر تجربة ابن الرومى وهى تجربة واضحة المعالم بلا غموض ولا ظلال قاتمة . . . ان تجربة ابن الرومى هذه تؤكد لنا أنها تجربة نبعت من صميم ظروف البيئة التى عاشها الشاعر فهى تجربة محلية حتى اطراف اصابعها - كما يقولون - . . . فابن الرومى شاعر عاش التجارب المحلية المباشرة واستجاب لها استجابات متباينة سواء اكانت تلك الاستجابات اخذت شكل الرفض القاطع أم القبول والاستسلام . على أن استجابة ابن الرومى لتأثيرات " المحلية " والظروف المباشرة التى وقع تحت طائلتها قد فتحت أمامه أفقا انسانيا ارحب بل أفقا متراحبا حتى غدا شاعرا من اضخم الشعراء المعبرين عن الروح العربية فى تاريخ الشعر العربى بالرغم من كل المحاولات النقدية التى وقفت على هامش تجربة هذا الشاعر الكبير . وهكذا كان هذا الشاعر فى مدلولات شعره قد احتل مكانا رفيعا فى الشعر العربى حتى عاد من تراثنا القومى الباقى ، بالرغم من الاستجابات المحلية الصارخة فى شعره .
ولقد اخترت انموذج ابن الرومى لأنه مثل من اوضح الامثلة على استجابات الشاعر لظروف بيئته ، وعلى أن هذه الاستجابات هى المسرب الذى ينتهى - صدقا واصالة - بالتيار القومى . . فالشاعر الاصيل ذو الاستجابة الصادقة وبأمانته على رسالته الشعرية لا بد أن يكون فى أقصى صور ممارسة الحياة ومزاولة المسؤوليات المباشرة للواقع من خلال النظرة الذاتية الامينة .
وذلك كله ، حتما وبالضرورة ، يفضى الى المفهوم القومى الأعم .
فالحقيقة - كما تبدو لنا - أنه لا يوجد حواجز وجدران عالية تقوم بين هذا المفهوم وذاك . فالقيم القومية الاصيلة هى ذاتها القيم المحلية ، وهى فى الوقت ذاته القيم الانسانية بأعلى مستوياتها . . .
ان " المحلية " ليست قضية تقع ضمن اسوار مضروبة عليها كما أن " القومية " ليست عزلة عن العالم والحياة وعن قيم العالم والحياة أو عن الانسان من حيث هو انسان : فالمسألة هى كيف يحتل هذا الشاعر أو ذاك مكانة ضمن اطار المحلية ومنها ومن داخل هذا الاطار يحقق الابعاد الشعرية والامتدادات الى الروح القومية وبالتالى الى روح الانسانية وذروتها الحضارية الكبرى للانسان . اننا ونحن نؤكد ذلك انما يعنينا أن نضع تحوطا هو من صميم موضوعنا هذا ، ذلك أن " المحلية " كما نستخدمها فى هذا المعنى الذى نرمى اليه ، وكما استخدمت فى الفكر الحديث ونقده لا تعنى اطلاقا - فى حدود الشعر - كتابة الشعر باللغة العادية - أى لغة الكلام ، فمن الممكن بل من المألوف جدا أن تكون هناك آداب محلية لكل أمة من الأمم وأن هذه الآداب المحلية من شعر وغيره تظل اسيرة الحدود والتخوم المحلية وتعجز عن أن تحقق الابعاد والامتدادات القومية القصوى واخيرا تعجز عن ملامسة الافق الانسانى الارحب ، هذا بالرغم من أن تلك الآداب قد تعبر بشكل أو بآخر عن تجارب انسانية مؤثرة ومتأثرة بظروف البيئة وباللون المحلى . والامثلة على هذا كثيرة سواء فى أدبنا العربى المعاصر أم فى غيره . وأود أن أشير هنا الى حقيقة طالما تحدث عنها الكثير من الكتاب والنقاد والأدباء ، تلك هى ما يزعمونه من ثنائية اللغة العربية ، وأن هذه الثنائية قد خلقت ضروبا من العوائق فى سبيل الخلق الشعرى والحركات الشعرية ، وقد بولغ فى التأكيد على هذه الثنائية الى درجة أن البعض قد بدأ يدعو الى حركات للشعر المحلى - المحلى بأضيق معانيه لفظا ومدلولا واستجابة - ليكتب بلغة الكلام اذ هى - كما يرون - اكثر تعبيرا واصدق دلالة على شخصية الشاعر واعمق مدلولا
على شخصية الشعب وآماله وطموحه وأشواقه . . وهم يقولون ذلك وفى أذهانهم مقارنة خاطئة بين العربية الحية واللاتينية المندثرة التى تفرعت عنها اللغات الفرنسية والايطالية والاسبانية انبثاقا من أروقة اللغة الكبرى .
والحقيقة أن هذه القضية وأن كانت من صميم القضية التى نبحثها الآن - قضية الشعر بين المحلية والقومية - الا أنها بالاضافة إلى ذلك تتصل اتصالا وثيقا من حيث الواقع ومن حيث التاريخ بطبيعة اللغة العربية وبتاريخ تطورها وبالاطوار التى مرت بها على مدى الاجيال وهى وثيقة الصلة بتاريخ اللغة العربية وتاريخ فقه هذه اللغة والقوانين التى خضعت لها .
لذا يمكن القول هنا ، وبقدر ما نستطيع من ايجاز ، أن تاريخ الحضارات لم يشهد - فى أى عصر من العصور - انعدام الثنائية فى أية لغة من اللغات . فلغة الادب والعلم والشعر والفن هى دوما ليست ذاتها لغة الكلام أو لغة الرجل العادى . فالتباين قائم فى كل عصر وفى كل أمة بين لغة الادب والفن الرفيع وبين لغة الكلام . لهذا نجد دوما أن هناك فوارق واقعية وتاريخية قائمة بين شعر أية أمة من الأمم وبين الشعر الشعبى . ولقد درست فى السنين الاخيرة هذه الفوارق بين هذا وذاك حتى تأكدت مؤخرا من خلال الدراسات النقدية العملية حدود الشعر الشعبى ومفهومه فوضعت نحت دراسات اسميت بالدراسات الفولوكلورية وهى الدراسات التى شاعت فى كثير من الدوائر العلمية والادبية فى السنين الاخيرة ، تمييزا لها عن الدراسات الادبية .
وليست العربية بدعا فى هذا حتى يقال بأن اللغة العربية تعانى ازمة هذه النثائية أى هذه الازمة القائمة بين لغة الكتابة ولغة الكلام . فاللغة الانجليزية مثلا تعانى هوة سحيقة بين لغة " الكوكنى " (Cokney) وهى لغة الانجليزى اللندنى العامى وبين لغة الكتابة أو اللغة التى يتحدث بها المثقفون ، وبعد ذلك لغة الادب الرفيع ، هذا الى جانب فوارق كثيرة اخرى كالفوارق بين اللهجات العديدة فى ولز واسكو تلندة وايرلندة وما يصدق على اللغة الانجليزية يصدق على غيرها من اللغات ومنها اللغة العربية .
ومن هنا فان التأكيد على ازمة الثنائية فى اللغة تأكيد باطل لا يقوم على أية ملاحظة مقبولة . فنحن لا نجد ابدا شعرا أو أدبا من النسق العالى مكتوبا بلغة الكلام لا فى العربية ولا فى غيرها من اللغات على امتداد القرون . واذا
كانت " المحلية " التى نعنيها بالمفهوم الذى استخدمناه هنا هى مزيج من هموم واكدار واستجابات واحساس بمسؤوليات ، فان الشعر بهذا المعنى يجب أن يكون محليا بل محليا مسرفا بالمحلية ، اما اذا كانت المحلية هنا هى نمط من الاسلوب والتعبير والفهم للحياة والانسان ، فما ابعد الشعر الحق والادب الرفيع عنها .
والشعر العربى المعاصر ، فى حقيقة الامر ، لم يواجه هذه المعضلة مواجهة شجاعة صريحة - الا باستثناءات نادرة موزعة - بل بقى يعانى من هذا التمزق الحاد فى الخلط بين مفهومى المحلية والقومية فعاش هو نفسه من خلال ذلك أزمة ضرب جديد من الثنائية حرمته من أن يرتفع ليكون قضية الانسان العربى على نحو حى مسؤول كما هو فى الحضارات الكبرى ، بمعنى أن يكون قضية تمتد من موقع الجذر الى ابعد آفاق الوجود الانسانى . فعاش الشعر العربى المعاصر - الى حد ما - على الايحاءات السطحية العابرة ثم عاش خيبة الامل التى حرمته التطلع الى أن يكون هو نفسه اللحظة الساطعة فى حياة الانسان العربى ، كما هى رسالة أى شعر عظيم .
فقد حاول شعراؤنا المعاصرون من رواد الحركة الشعرية الحديثة من أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتى وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى ومحمد الفيتورى وخليل حاوى وامثالهم . . . أن ينطلقوا من اطار تجاربهم المباشرة وأن يرتفعوا بالتعبير عن هذه التجارب ويكيفوها تكييفا انسانيا مستندا الى الايمان بأن القيمة الانسانية الجمالية فى الشعر هى تلك التى تصدر عن الايحاءات المباشرة ، وهى تلك التى سميت فى النقد والفكر الحديثين بــــ " التجربة " . . . ولكن كان هناك دوما هذا النقص فى الالتزام بالمحلية أو اللون المحلى هذا العنصر الذى يكفل للشعر طابعه القومى وبالتالى طابعه الانسانى . فالمحلية ليست شكلا موضوعيا والقومية ليست شكلا قبليا أو عرقيا ، كما أن الانسانية ليست أممية فضفاضة معلقة فى خواء التجريد . . بل ان شرط الشعر هو الحياة . . أن يكون الشعر حيا مستجيبا لنداء البيئة وظروفها ، قادرا على أن يرد على تحديات الحياة وأن يعرب عنها وأن يتخذ موقفا من اجلها ومن اجل الانسان .
وفى الحقيقة أن التأثيرات التى غزت الحركة الشعرية العربية الحديثة من الخارج وفى مقدمتها تأثيرات الشاعر ت . س . اليوت مثلا والتى تعتبر اكبر تأثيرات وقعت تحت طائلتها الحركة الشعرية العربية الحديثة ، قد شوهت
لحد ما مفهوم " المحلية " و " القومية " وبالتالى الانسانية . ولأن شعر اليوت يكمن فى صميمه تناقض عجيب أضر بشعرنا العربى المعاصر ، ذلك ان - وهو شعر رفيع بلا شك - ينطوى على دعوة تذهب الى أن الحضارة ترفض الشعر .
فلا مراء أن هذه التأثيرات قد وضعت امام الشاعر العربى الحديث نماذج من التمرد على الشكل افادت الى حد ما فى وضع نهاية لجمود الاشكال العربية الموروثة ، بالرغم من الاسراف الذى وقعت فيه حركة الشعر الحديث احيانا فى هذا المجال . ثم أن هذه التأثيرات قد افادت فى التأكيد على اهمية " المحلية " أو " اللون المحلى " ، ذلك أن هذه التأثيرات على شعرنا الحديث كانت تقف فى زاوية فكرية معينة مناقضة لجميع أشواقنا وآمالنا وقدرتنا على التطلع ومثال ذلك أن اليوت كان من حيث الفكر والمزاج ومن حيث النبرة الروحية والحضارية يؤكد دوما ربط اللحظة الراهنة بالماضى الى درجة تختلط فيها الصور عنده اختلاطا مروعا كما هى الحال فى قصيدته التى اثرت فى معظم شعرائنا المعاصرين واعنى بها " الارض الخراب " ، هذا بالاضافة الى دعوة الرفض الحضارى لروح الشعر .
وعلى أية حال ، فان الشعر العربى المعاصر يجب أن ننعم النظر فيه مرة بعد أخرى وأن نتقصى الاسباب التى جعلت منه ومن قضاياه كيانا منعزلا وبعيدا عن الاندماج فى التراث الروحى للانسانية .
وانى أظن أن بداية دخول شعرنا دائرة الوجدان الحضارى للعالم هو أن يكون صادقا وأمينا فى الاستجابة لمفهوم المحلية بأرفع معانيها وعندئذ سيكون شعرا قوميا فى نسقه الاعلى ، وبالتالى شعرا انسانيا من تراث البشرية الروحى وأن يكون ناقدا للحياة وللتاريخ ، ولكن على طريقته الخاصة فى نقد الحياة والتاريخ التى تتباين مع طريقة أى نشاط انسانى آخر .
ومهما يكن من شئ فان الانجازات الاخيرة فى شعرنا المعاصر تدل على أن الشاعر العربى الحديث قد بدأ يزداد وعيه عمقا بالنسبة لابعاد هذه القضية وأعنى بها اعتبار " مفهوم المحلية " المنطلق الاكيد المفضى الى تأكيد مفهوم القومية فى الوقت ذاته وبالتالى الى مفهوم الانسانية بأسره .
فلقد . بدأنا نلحظ أن الشاعر العربى المعاصر لم يعد كما كان يخلط بين المفهوم الاعمق للمحلية وبين المفهوم الفولكلورى العادى بل غدت قضية المحلية فى الشعر العربى المعاصر الى حد ما وفى التجارب الاخيرة عند شعرائنا الرواد هى ذاتها القضية القومية وهى بعد ذلك قضية الانسان .
