الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

الصباح الجديد

Share

من عليه واجب الخلق والانشاء لابد له من التحطيم والهدم " نيتشه"

كانما الثورة ناموس من نواميس الطبيعة تقتضيها الحياة حتما لا يخلو من نزعاتها كائن حى ، فلا مفر للمرء منها فى بعض اطوار حياته ولابد للشعوب منها فى بعض اطوار تاريخها .

فكم شاهدت البشرية من ثورات دامية صاخبة ولكم عصفت ريح الثورة في جل اقطار الدنيا على ممر الاجيال ، فلا تكاد امة من الامم يخلو تاريخها من اطوار حاسمة تمخضت عما اعتراها من سورات الاضطراب وتولدت عما قد هزها من تيار ثورة طبيعية متجددة

وان الثورة على اختلاف غاياتها وتنوع وسائلها وكثرة مظاهرها وتعدد اسبابها وعواملها لها وجهان سلبى وايجابى . فاما الثورة السلبية فقوة مطلقة كالسيل العرم وا كالحريق الطامى قوة قاضية على كل قوة لايمنع من بأسها مانع ولا يصمد في وجهها صامد ، نار آكلة تسقط لهولها عزائم الجبابرة وتفشل عندها همم الطغاة ، تيار جارف تتكسر له قيود العبودية وتتصدر هياكل الجور ، قوة التحطيم والهدم ، ثورة الفتك والقتل ثورة العنف والدماء.

واما الثورة الابحابية فقوة التجديد والانبعاث والخلق والانششاء والحزم والتقدم ، ثورة هادئة تقتضى الحكمة والتبصر وتتطلب ضبط الامور واحكام البرامج وتحتاج الى الصبر على المصاعب والمثابرة على السير ، ثورة الاخوة والمحبة ، ثورة لبناء الحياة

وقد يتحد الوجهان السلبى والايجابى وتكتمل الثورة اكتمالا فتنطلق بها الحياة انطلاقا وتتحول الامور تحولا عميقا ، وكثيرا ما ينفرد أول الوجهين بنفسه ولا يكون الثاني ، فتظل الثورة بنراء لاتدر بخيرها ولاتينع ثمارها اذ لابد من البناء بعد الهدم ولابد من الاخوة والمحبة بعد القتل واهراق

الدماء وقلما يستغنى الوجه الثاني عن الاول لان الثورة الايجابية متولدة عن الثورة السلبية ومتممة لها ، فلا خلق الا بقلع الجذور وقطع الجذوع ولاخير الا بعد استئصال الشر والانتصار على الفوضى والفساد .

وانما الانسان ثائر بالطبع يدفعه دافع غريزى الى العصيان والرفض متمرد على الآلهة والاديان ، ساخط على الاقدار والدهر ، مارق على الشرائع يتحدى القوانين ويخرق الاحكام ، خارج على الجماعة ينشد حرية مطلقة وطهارة ناصعة ويحلم بحياة طليقة ولاضغط فيها ولاقيود

لكنها ثورة عاطلة لاحول لها ولاقوة ما دامت فردية عمياء ، فلا شأن للمتمرد يتمرد وحده ويعصى ولا غاية له من عصيانه ولاحكمة له من تمرده وانما هي شعلة من نار لاتلبث ان تخمد او نور فتيلة لا قبل لها بسواد الظلام الكثيف . وقلما تخلو الثورة الفردية من بهاء البطولة ومحاسن الشجاعة ونخوة الاقدام . ولطالما تغني بها الشعراء وحفلت آداب الامم بئايات العصاة الماردين فنوهت بشأنهم وعظمت افعالهم ونسجت لهم اكاليل من الابهة والمجد الا ان ثورة الفرد مع بهائها وطهارة عنصرها عقيمة ما لم تلتحم بثورة جماعية شاملة لقوم يدفعهم دافع واحد ويحركهم أمل واحد ، قوم يسعون الى حياة جديدة قد اتفقوا على احكام اسسها وتدعيم اصولها وأمنوا بها ايمانا راسخا وهبوا  كلهم لبنائها وتطبيق ما اعتنقوا من مبادىء سامية وانجاز ما سطروا من اهداف.

وانما تتميز الثورة الجماعية عن ثورة الفرد لا بشمولها وعمقها فحسب بل بما يعززها من ارادة شعبية ثابته وما يغذيها من قيم انسانية عالمية وما يحركها من أغراض نبيلة ونوايا طاهرة

وانها تتميز أيضا عن الفتنة بمثل هذه القيم العالية والاغراض الشريفة ، فالفتن عمياء لاتفقه لنفسها مصيرا ولا أصول لها تحكمها ولا غايات واضحة تبرر اندلاعها وتضمن لها نجاحا وثمرة صالحة .

فلكم قاست الامم من الفتن عرقلت نموها وقوضت أركانها وحطمت مؤسساتها فأدالت دولها وسلطت عليها الهرم والهلاك . ولكم أخطا التاريخ عند القدماء في تقدير الثورة حق قدرها فخلط بينها وبين الفتن وقاسها بها فطفحت صفحاته بالاضطرابات والقلاقل الدامية . وقلما أدرك بعض المؤرخين قبل العصور الحديثة خصائص الثورات وما بينها وبين الفتن من فروق فظلت احداث جليلة غامضة وبقيت اطوار كثيرة من حياة الانسانية مبهمة خفية الاسباب مجهولة العوامل تستعصى على الفهم ولا تستنير الا بتحليل ما قام اذاك من ثورات حاسمة بدلت الاوضاع تبديلا وخلقت الدنيا خلقا جديدا .

ولعل ما يحدث فى صفحات التاريخ من الالتباس بين الثورات والفتن قد ينتج عن اشتراكها فى وسائل العنف وبعض مظاهر البطش . الا ان الثور

لا تقتصر كالفتنة على اعمال السيف وسفك الدماء بل لعل من انجع وسائلها اعمال الفكر وسلطان العقل وانتشار العلم ونمو الثقافة وازدهارها ولعل من انفع مسالكها مسالك التعاون وتظافر الجهود فى طمأنينة مستمرة وسلام شامل .

فكم أغفل التاريخ من ثورة سلمية هادئة أهملها أصحاب الاقلام ولم يشهدوا اثناءها سيوفا مشهورة أو رؤوسا مقطوعة أو دماء سائله . وكم من مرة تحولت الاحوال وتغيرت الاوضاع وتحورت عقلية الناس تحورا عميقا في يسر ووئام . وكم من أمة استقامت أمورها بفضل ايمان ابنائها وتضامنهم ونضج عقولهم وصفاء قلوبهم فحققت نهضة جبارة وثورة كبرى أصلحت شأنها وأفاضت عليها نعمة طيبة وخيرا جزيلا

فأمة كانت بالامس مكبلة الايدى مثقلة بأغلال الذل والضعف قد ارخى عليها الاستعمار سدول الظلم والاحتقار واضطرها الى المسكنة والفشل وفرض عليها الطاعة والخضوع فمالت الى الاستسلام وكاد اليأس يقتلها وكادت تموت من فرط الخزى والمهانة

وثار ثائر من ابنائها انكر عارها ورفض بؤسها وابى ضيمها وخشوعها وعلا صوته بقصر هلال يعلن الحق ويفضح الباطل ويبعث الامل فى الحياة ويبشر بالكرامة والحرية ويعد بالاستقلال والعز.

وتأفف ذوو الدعة والخمول والقعدة الرجعيون وقالوا : اضغاث احلام وضرب من الجنون ، وتضاحكوا همزة لمزة وهزوا الاكتاف واداروا الرؤوس تهاونا واهمالا . فلكم قاسى الانبياء والمصلحون والزعماء من أقوامهم كادوا لهم ضروبا من الكيد وكالوا لهم الاذى كيلا واذاقوهم مرارة الاهانة وألوان العذاب

وابتسم المتجبرة الطغاة وتطاولوا سخرية واستخفافا وقالوا : متمرد تمرد وعاص عصى مضطرب يفتن على فرنسا ! لاحول له ولا قوة ! يضرب على يديه ويقطع لسانه ويلقي في ظلمات السجن ووحشة الاعتقال!

الا ان المجاهد ثابت وصابر واستمات وتضحية والاخلاصا ووقف بطلا صادقا . وتعزز حزبه لثباته وصبره وفتح للشعب سبيل الحق وأنار له طريق الشرف والعز . فأجابه صحبه بالبوادى والقرى وأسواق المدن وشوارع الحاضرة ورددت صوته ألسنة الاحرار وصدح الوطنيون بنشيد الرفض والكفاح وهب الناس ينفضون غبار المذلة والانكسار واندفعوا للبعث والرجاء . فعصفت عاصفة الثورة فى المدن والجبال وبرز المقاومون للقتال والتفت صفوف الشعب أنصارا على الظلم والبغى وقام جنود الوطن رجالا ونساء ، شيانا وكهولا ، شيوخا وأطفالا ، واضطرمت نار الحرب .

وعصفت عاصفة القمع والارهاب وانهال الطغاة على الشعب قتلا وتقتيلا وتطاولوا بمدافعهم وطائراتهم والجيش الغفير وحسن العدة وقوة العتاد .

لكن الشعب صبر على الكفاح وثبت لشدة القتال وتبرز القائد حنكة وأجاد خبرة ومهارة وأتقن ألوانا من السياسة والحذق ؛ وصمد المقاومون ووقفوا صناديد ايطالا وسالت دماء الشهداء الابرياء .

وتصدع هيكل الظلم وتقوض صرح الباطل وتساقطت أو صال الاستعمار وتقطعت تقطعا . ورفرف على البلاد علم الحرية الحمراء وشع فى النفس نور الكرامة وامتلأ الفؤاد حبورا ويسرا فرفعت الامة رأسها عالية الهم عزيزة الحال .

لقد ثار ثائر بالامس وقاد أمته الى النصر والفوز بحقها فى الحياة فأثمرت ثورته الاولى سيادة واستقلالا . ثم اتخذته الامة رئيسا فقام ينفض ثوب الاحتلال وينزع عنها أسمال المحنة ويعالج أمراض الاستعمار ويبنى على انقاضه دولة منيعة الاساس عتيدة الاركان

وثار ثورة اخرى اعسر وابعد عمقا وابى على امته الدعة والفشل وانكر عليها التزمت والجمود . وانطلق يحدثها حديث الحق والصدق وتجنب ألفاظ البهتان والرياء وآثر الحكمة واعمال الرأى وترك سياسة الافتراء والغرور وسلك مسالك النهضة والتقدم وانتهج مناهج التجديد والاصلاح وكأنما النهضة والتقدم أشد من قتال فرنسا وكأنما التجديد والاصلاح أصعب من كسر قيود العبودية وكفاح الاستعمار . فلقد قعد المحافظون اليوم كما احجموا بالامس وركنوا الى الرجعية وانكمشوا فى خمولهم وأنصتت فئة الى أساطير الغواة وانخدع قوم لاقاويل المنافقين وقام اصحاب الترهات والاباطيل للفتنة وقطع الطريق.

الا انها أمة بلغت رشدها واستكملت وعيها من أمرها ووقفت على دائها وأدركت أسباب بؤسها ولمست علل تأخرها ، فلبت نداء الحزم والجد وكبتت صوت الفتنة والنفاق وأقبلت تنشئ الحياة وتبنى لها اوضاعا عصرية وتنسج حلة جديدة متينة الحوك نيرة الالوان .

ولقد انبعث شبابها صيانة لسيادتها وذودا عن حرمتها فاستبشر بالاصلاح ونهض لمناصرته ووقف لانجاز أهدافه واعتنق ثورتها وقام يخوض غمارها اقداما وصدق ايمان .

وانما ايمان الشباب بالثورة ايمان بالحياة وارادة للطموح والمجد . وما قوة الامم الا في غزارة شبابها تقيها دواعي التقهقر والهرم وتضمن لها التجدد والبقاء .

ولن يمنع امتنا خذلان المحافظين ولن يصدها نفاق المنافقين ، فلقد ثبتت قوائم الدولة وتحصننت دعائمها ، ولقد غمرها نور الثورة يبشر سلاما وخيرا مبينا .

اشترك في نشرتنا البريدية