بديهي ان نقول ان التقليد من العوامل المسببة لتقهقر العالم الاسلامى وتخلفه فى الميدانين الفكرى والمادى اذ ليس التقليد الا رضى بالامر الراهن ونفورا من كل تغيير يطرأ وكبتا لامكانيات الحياة الكامنة فى كل انسان . انه تخصيص المتقدمين بملكة لابداع واعتراف لهم بفضل مطلق ييأس معه المتأخرون من القدرة على الخلق فتزول عنهم الثقة بعقولهم وينشأ فى قرارة نفسه مركب العجز وترنو ابصارهم الى
الماضى ليهتدوا بهديه ويعرضون عن المستقبل فيسيرون نحوه سير من ليس له من الزاد الا القليل انه غض من العقل وشك فى امكانياته وانكار لقدرته على الهداية الى الحق والخير
وتتجلى نزعة التقليد خلال تاريخ الفكر الاسلامى فى محاولات مختلفة اهمها مقاومة البدع مقاومة لم تفتر قط والعمل على كبت ارادة الاجتهاد والقضاء عليها ولم ينتبه خصوم الاجتهاد الى انهم بسعيهم هذا يصدون الحياة عن مجراها الطبيعى ويقضون عليها من حيث لا يشعرون ولقد نجحوا بعض النجاح فى ذلك فان لم يتمكنوا من تسديد الضربة القاضية التى يعقبها العدم فلقد استطاعوا تخدير المجتمع الاسلامى واغراقه في غفوة دامت قرونا ولئن لم تستأصل الحياة من الحضارة الاسلامية فبفضل نزعة معاكسة قاومت منذ فجر الاسلام نزعة التجميد وامن اصحابها بسنة التطور وضرورة الخضوع له .
ولعل ابن المقفع من اول من امنوا بهذه السنة وجندوا عقولهم للتنويه بشأنها وافنوا حياتهم فى سبيلها ويلوح ذلك فى الغاية التى رسمها لنشاطه الفكرى والمواضيع التى اختارها لما ترجم او الف من كتب فكلها تمتاز كما يقول هو بحرصها على تجلية الابصار واحياء التفكير واقامة التدبير...
ولقد كان الانسان بكل مافى هذه الكلمة من حياة وجمود وعقل وعاطفة ورغبة واعراض ومحامد وعيوب محور هذه الكتب اذ كانت الغاية اصلاح حياته ونفسه ووسائل الاصلاح نوعان : اصلاح يفرض على الانسان فرضا
بالنظر الى مثل عليا قد تكون عنه اجنبية لا تحرك شعوره ولا تثير حماسه واصلاح يكون فيه المرء لنفسه رادعا ولاعوجاجها مقوما يعرض فيه سيرته على قيم آمن بها ويبدى حكمه فيها اعتمادا على مبادئ اقتنع بها من تلقاء نفسه هذا الاصلاح يقوم على العقل ويقتضى الثقة بالانسان وبامكانياته العقلية
ولقد اعتر ابن المقفع ان العقل هو القيمة العليا السائدة لكل ما يتعلق بالانسان فهو " الدعامة لجميع الاشياء والذى لا يقدر احد فى الدنيا على اصلاح معيشته ولا احراز نفع ولا دفع ضرر الا به . . "
ولاشك فى ان هذا الاعتبار يبوىء الانسان المكانة اللائقة به فى سلم المخلوقات اذ به يعترف ابن المقفع بحرية الانسان فى التفكير والتصرف من ناحية ويبين مسؤوليته فى الحياة من ناحية ثانية
ومن الملاحظ انه لا يرى العقل وقفا على طائفة من الناس بل هو عنده شيمة من شيم الانسان مطلقا فهو " غريزة مكنونة فى الانسان كامنة كالنار فى الحجر . . " وهكذا لا يخص به جيلا دون جيل ولا يعتبر ان الناس يتفاوتون فيه بتفاوت المكان والزمان
وكما انه ينوه بشأنه ويعزو مكانة الانسان وسموه اليه فهو يندد بكل ما يناقضه ولا يساعد على انمائه او يدل على التغافل عنه فاستمع اليه وهو يشنع فى كناية طريفة بالتقليد وعواقبه قائلا :
" ومن استكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب من غير اعمال الروية فيما يقرؤه ... كان... كالرجل الذى طلب علم الفصيح من كلام الناس فأتى صديقا له من العلماء له علم بالفصاحة فاعلمه حاجته الى علم الفصيح فرسم له صديقه فى صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه فانصرف المتعلم الى منزله فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها ثم جلس ذات يوم فى محفل من اهل العلم والادب فأخذ فى محاورتهم فجرت له كلمة اخطأ فيها فقال له بعض الجماعة : انك قد اخطأت والوجه غير ما تكلمت به . قال كيف اخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهى فى منزلى فكانت مقالته لهم اوجب للحجة عليه . . .
فاقتناع صاحب الصحيفة بترديد ما نقل سلوك لا يتماشى مع العقل ومنطقه ومقتضياته وموقفه مناقض لاخص خصائص الانسان بل هو من عمل الآلة اقرب ولحركاتها اشبه
وليس العقل عند ابن المقفع ملكة تسمح للانسان بالتحليق فى سماء
المجردات وليس دفاعه عنه اغراء بالخوض فى عالم الافكار والآراء وتنسيقها والتأليف بينها باغفال الواقع والانقطاع عن ضرورياته واحتقار ظروفه فالعقل لا يمكن ان يفصل عن حياتنا فى هذه الدنيا ومفعوله فيها نافذ يخضعها لسيطرته ويوجهها حسب مبادئه ولئن كانت " . . غاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش . . " فالسبيل الى دركها العقل الصحيح . . ولا يمكن ان يفصل بين الرأى وامتداده فى الواقع والا فقد ميزته كرأى " فأمارة العقل اختيار الامور بالبصر وتنفيذ البصر بالعزم والعلم الذى يحصل بواسطة العقل " لا يتم الا بالعمل . . "
وهكذا توجد بين العقل و " الدنيا " اى الواقع علاقة متينة فلا يمكن ان يتصور عقل بلا " دنيا " ولا " دنيا " بلا عقل وما كان من الامور قائما على غير العقل " او شك ان يتداعى ويتصدع . . "
ويلوح لنا بهذه الطريقة ان ابن المقفع بتمجيده للعقل لم يمجد الانسان لامتيازه بهذه الملكة وبالحرية المنجرة عنها فحسب بل يمجده كذلك لانه خلق ليسعي ويكد ويبنى فلا سمو الا لمن توفرت فيه هذه الامور ولاسعادة الا لمن ادرك اتصال بعضها ببعض والتحامها
وقد يتساءل عن مكانة الروح فى تراث ابن المقفع وقد يعتبر ان هذا التأويل لآرائه يتضمن انكارا لنظرته الروحية الى الكون ودعوته الى العمل فى سبيل السعادة القصوى
وحقيقة الامر ان ابن المقفع لا يفصل بين الدين والدنيا ولا يقيم حاجزا منيعا بين السعى للدنيا والعمل للاخرة ولا يرى تناقضا بين حياة دنيوية سعيدة وسيرة مثلى فهو لا يفصل حديثه عن الدنيا والآخرة فيعتبر انه " من لاعقل له فلا دنيا له ولا آخرة . . " ويعتقد ان " غاية الناس صلاح المعاش والمعاد . . " ويرى ان التدبير الحسن الذي يمكن من حياة صالحة لا يختلف عن التدبير الذي تنجم عنه " مكارم الاخلاق . . " وكما ان العقل اساس كل بناء فهو يشمل كل المعانى الروحية " كالحلم والصبر والوقار . . " وان احتاج اليه المرء لسلامته فى الدنيا فهو يحتاج اليه لينجو فى الآخرة اذ هو السلاح الذى يقاوم به الانسان هواه حتى لا يسوقه الى التهلكة فاذا ماجعل " هواه مسوفا ورأيه مسعفا . . " فلا بد من النجاة
وهنا ايضا تتضح ضرورة العمل للانسان فلا فائدة فى ان يميز برأيه الفضيلة عن الرذيلة اذا لم يسع لتغليب الاولى واستئصال الثانية ولهذا وجب على " الحكيم " العمل " والتعهد لما اختير واعتقد ووضع ذلك موضعه قولا وعملا " وتبرز هكذا وظيفة " الحكيم " فهو فى المجتمع ممثل العقل والداعى الى الاستنارة بنوره والساهر على انجاز ما يوحيه . ان اعتزل فى برجه العاجى يكون قد اخل بمهمته واهمل واجبه اذ " الواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها وتأديبها بحكمتها واظهار الحجة البينة اللازمة لهم . . "
ولا يخفى ان هذه النظرة الى العقل تفرض على " الحكيم " ان يظل متصلا بعصره اذا أراد ان يعمل ومماشيا له اذا رغب ان يكون عمله نافذا ومواجها لمقضياته اذا كان حريصا على ان يفيد
ولقد بدأ ابن المقفع بنفسه لان ما يبلغه الانسان بسيرته اهم مما يصيبه بلسانه فاختار لمؤلفاته مواضيع لها مساس بالانسان وبعصره ومجتمعه فعالج فى كتابى " الادب الصغير " و " الادب الكبير " نواحى اجتماعية يرى انه لا يمكن للعاقل ان يغض الطرف عنها فلم يتردد فى المجاهرة بالنصيحة وفى فضح الاسباب الموجبة لها من اضطراب سياسى وظلم بعض من كانت بأيديهم مقاليد الامور ولم يخش نقمة الفقهاء عندما ندد فى رسالة الصحابة بما يسود القضاء فى عصره من فوضى وتناقض فى الاحكام واختلاف فى الطرق حسب الظروف التاريخية والجغرافية ودعا الى سن قانون موحد يرضى العقل ويضمن العدالة وكل ذلك نتيجة لنظره فى مجتمعه ودرسه لمظاهره وحالة افراده وعرض استنتاجاته على العقل والراى السديد.
لقد كان شأن ابن المقفع فى عصره شأن كبار المفكرين يفاجئون معاصريهم باراء جديدة فيؤذون ويعمل على تشويه سمعتهم وتسند اليهم نعوت يكون لها مفعول سحرى فى ذوى العقول الضعيفة وتنسب اليهم اخلاق تجعلهم منبوذين من معاصريهم . فقد اتهم عبد الله بن المقفع بالزندقة فكان كلما ذكر امام بعضهم اقشعرت جلودهم ولعنوا الشيطان
ولعل قتله فى ظروف غامضة لم يكن مجرد صدفة ولعل آراءه الجريئة المناهضة لمصالح طائفة من الطوائف هى التى آلت به الى ان يقتل
ولقد قتل فى منتصف القرن الثاني الهجرى اى قبل ان يولد الجاحظ وقبل ان تزدهر حركة الاعتزال وقبل ذلك العصر الذي يعرف فى تاريخ الحضارة
الاسلامية بعصر العقل ولهذا يجب ان يعتبر الباعث الحقيقى للتيار العقلى الذي لاحت بوادره منذ عصور الاسلام الاولى وسانده فى مراحل التاريخ الاسلامي كلها مفكرون تجاوز نفوذهم الادبى احيانا نطاق الثقافة الاسلامية.
