الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

الفصل السادس :, الارخبيل

Share

( 8 )

ريم النائلى : أيتها السويلمي الفحل فى هذه المدينة المومس ! كالخازوق الضوئى أنت ، تسلطين الاضواء الشائكة على الزوايا الخفية ، وتتوغلين  بالاصابع المختلفة فى الامعاء الزرق ...  لكن ، أين أنت الآن يا سويلمي ؟ هل أرهقتك الحضارة ، فانتحرت ؟ لا أتوقع هذا ، إنى أراهن على أنك مازلت حيا ، تمهد طريقا للرجوع إلينا عبر  المسافات المستحيلة ...

( أنت سويلمي بركات ، من مواليد البراكتية طبعا ، والبراكتية تجمع سكنى وسكانى ،، مبنى أساسا على بركان من العصبية والنعرة القبلية ... عشت فى عش من قش ، سرعان ما التهمته النار ، وخلفتك وجها مشوها تسكنه هيروشيما والاحزان ... كنت وقتها فى العشرين من العمر . كنت تتوقع غدا يمطرك فواكه لذيذة ، وتذكر : كانت الريح معك ، تلطك لطا وتدفعك الى الامام ... وريم لم تكن حائطا للعصيان . قالت لك ذات غربة :

إني مللت حصائد الالسنة فى مدينة الكساد . لقد أعلمتك مرا أو مرين بأنى امرأة جريح ، تحاصرنى الوحدة مذ كنت ولا أعرف ما ليل من نهار . إني اشتاق جردقة خبز بائتة ، أمرسها فى مرق السبارس وأتبلغ بها، بمنأى عن الصخب .. إنى أشتهى النمو بعيدا ، تماما كما تنمو قضبان البطيخ والفقوس والدلاع تحت ضوء القمر ... بيتنا مستعمرة نحل : عشرة أنفار يفغرون أفواههم فى انتظار الخبز ، وإنى  جئت من معهم وفي خلدى نخلة ستكون مثقلة بالثمار ..) ..

هذه الليلة ما أثقلنها وما ابشعنها يا إلاهي ! أخذت سكينا ، كانت المومس مضطجعة فى حالة عرى موحش ، واندهاش كبير ...  انتابتني لحظة بيضاء كالميلاد فغرس السكين بحقد المتشفى فى السماء الملبدة بالسحب ، فانفجر الدم الفاسد من رأسي المشدود الى زمن الافلاس ...  منتصف الليل بالتدقيق ... ضمت الساعة عقربيها ، والمومس فخذيها ...  ووقفت عند النافذة ، أتفقد المدينة برأس شامخ ، مسنون كسنان الرمح  زمن الجاهلية ..  منذ شهر تقريبا ، صادفت سائحة بشط " سلقطة" .. كانت امرأة منملة ولذة .. أفرغت فنجان الحب وكان جماما ، ورأيتها تحاولني على نحو خفي .. فى الواقع ، أنا كنت كل صيف أبعثر فيتاميناتى هنا وهناك وأغرق فى هوى السائحات حتى التصاق الجلد بالعظم .. لكنى الآن ، لم أعد أحفل بالجسد المسافر ...

+ قلت : كريستين ، سأتواضع قليلا .. التواضع ليس سهلا من جانبي ...  سأتحدث اليك بفرنسيتك التى سجنت أجدادى أمدا طويلا ، وزرعت فى دمهم  (الفاسد بطبيعة الحال) وباء الزنى ، والرحيل الى مستنقع الضفادع المريضة ....  أعلم أنى بشكل أو بآخر ، أقفز على لغتى . لكن ، أحيانا يلذ لى أن التزم القناعة مع نفسي لأمكنك من التواصل معى بلغة هى لغتكم ...

ومن باب التواضع العسير أيضا ، يسعدنى ولو إياما أن أعيد لكم اعتبارا فارطا يبعث فيكم شعورا متناميا بالخيلاء ، سيظل بلا شك يدغدغكم ويذكركم  بأيام زمان ..  - أرجوك ، لا تهول الامور . الاستعمار شبح قديم . أنا أرفض فكرة الاستعمار مثلك تماما ... + الاستعمار ؟ الاستعمار لا يعنى فقط ، التمكن بالأمكنة !. إنه فى رأسك هذا ، فى عينيك متى تختلسين بلدى وتعودين به الى مسقط رأسك فى شكل  بطاتات مشوهة ...

- أبدلهميد ! ...  وأذكر أنى ابتكرت ابتسامة فى الحين وسارعت بالانسحاب ...  وظلت هى منبطحة على بطنها تعصر بعصبية كرة من الرمل وتهندس بأصابعها مدنا بلا شكل ...  ومنذ شهر أيضا ، شهدت عرس صديق لى بصراحة ، كدت أتقيأ أمعائى . الكل ينخ رقصا عشوائيا ويصرخ بالبنادق ...  الكل يشحذ أعصابه على دق الطبول الصاخب ... الكل يتصور العريس وهو يتقدم الصف الدائرى : إيرا محتقنا لهبا وكبتا سينفجر ما ان يتجاوز العتبة ...

والكل يتصور عروس صديقى فخذين مرفوعتين ، وبكارة للتمزيق من أول لقاء ، ليس إلا ... أخذتني سنة من نوم ثقيل .. كانت المومس خارج بيتي ، وخارج رأسى ، وخارج حلمي ، تمغنط سيارة أعقاب الليل الغرباء ...

أحسست أني أتجزأ فى دائرة حمراء تضيق ، تضيق بي . . احاول أن أقبض على حبل من مسد ، فتغرق يداى فى شىء موحل لا تتبينه عيناي ... تتمغط اللحظات حتى لكأنها الدهر .. يلتصق جسدى بامرأة لا اعرف لها وجها ، تندس تحتي وهي عريانة تماما إلا من ورقة توت فى مستوى الفخذين .. تكون سخنة ، سخنة .. تكون ملساء ملساء ، يكاد جسدى ينزلق من على جسدها - المرمر.. أصرخ لذة وعذابا و ... يتهشم الجسد الذى اندس تحتى فجأة . وأفيق على جسد لى يحملني فينوء بي ، فأحمله : عشبا مبللا ، وقضيبا لائثا ومفاصل مرتخيه ...

ما إن رددت الباب خلفي حتى أرتطمت أذناى بالتلفظات الكريهة ..  لعنة الله عليكم جميعا .. تملكون جسدا عجبا ، ورأسا خربا .. إنى أخجل بالنيابة عنكم وإني أتبرأ من الانتساب إليكم يا سادة نجبا ..

إنه التمومس دائما ! رمز للفحولة بالنسبة للصغار وحتى الكبار ، وإنى أعجب كيف يقحب الرجال الصناديد ، كيف ؟ هل لا بد ، لكى تكون رجلا ، من أن تتغنى بجهازك التناسلى ؟ وتكيل الشتيمة واللعنات لأرحام الأمهات ؟ هل لا بد ، لكى تكون رجلا ، من أن تقول كلاما فاحشا ؟ أضحك والشارع يتأملنى فى صمت المتسائل . بت لا أطيق حكايات القرف ، وبت مهددا بالرحيل بين الحين والحين . أين أنت الآن يا سويلمي ؟ تعال ، نهندس معا مدينة مباركة ، لا شرقية ولا غربية ، أدركني يا سويلمى ، قبل أن أستقر على قرار وأكون سكة دموية لعجلات القطار ...

رية وأنت تبتعدين ، تبتعدين ، تبتعدين ، هل سأحبك حين عودتى اليك ؟  وأنا أتساءل ، تذكرت صديقة لى تعمل فى مؤسسة حرة ، بدت لى جميلة  نوعا ما . حين جلست اليها وبدأت بالحديث ، ضحكت حتى ملأتني عشبا  وفاكهة ومطرا بدريا . كانت في منتهى الحزن ، وكنت في واقع الامر كذلك .  صمتنا . أحسست أن نهرا سيتفجر بيننا وأن قصة مبدإ ستبدأ .  كانت (نون)  عاشقة الانهج العتيقة وكنت عاشق الشيح والسكوم والعرعار من البدء اختلفنا ، وكلانا سيدخل فى الآخر لكى يخرج وفى رأسه  الصحراء .

أخطأت حين حدثت الآنسة (نون) عن الغابة والشمس والزيتون والارض والبدو البسطاء ، والحب العذرى يتسارقه بدوى وبدوية . هل أخطأت أيضا حين حدثتها عن العصافير والبيادر ، وأزهار اللوز ،  والصمت الدائم . وقفت فى وجهها كنخلة فرعاء .. أعلمتني أنها امرأة نزقة يرهقها الصمت وترفض أن تكون يوما ما ، وحيدة فى غابة توحى بالموت ..  قالت أنها تسكن الى المدينة وخاصة الى انهجها العتيقة .. هى ظل ولا شك

لتلك البناءات المهددة بالسقوط ، وهي زمن من ذلك الزمن المتسكع على أرصفة موغلة فى القدم .  وقالت أيضا وأيضا أن لتلك الانهج ذاكرة تتواصل معها كلما شعرت بقحط أو موت ..

ظلت تفرك أصابعها والفرح يتدفق من عينيها تدفقا كأنه الهذيان . كانت عيناها تأتلقان ضحكا ، وكنت بدورى أضحك والفرح يزلزلني ...  هو فرح ما ، وصمت ما ، تلبسا بنا فجأة ، ودكا فينا موتا قديما . أو قل ، فرطا لهم يحملنا على الضحك أحيانا .

" نهضت الآنسة (نون)  نهوضا عفويا " .  كان الجدار يضحك والكرسي والدفتر المنسى .. فتحنا الباب ، كانت السماء ملبدة بخيوط العناكب ، وكان النهر يسير فى الشارع ، مطأطئ الرأس وحزينا ، وكانت الشمس آخذة فى التوجه الى بحر من دم ، لم يكن ولكنه قد يكون ...

قلت : يا رية إنى أحن اليك الآن أكثر من أى وقت مضي . ما زلت أذكر آخر لقاء ...  جلست أمي على كرسى واطئ ، قديم وهى فى نفس الوقت تفحج فوق مجمرة كبيرة ترمد فيها الجمر وإصاعد منها وهج ورد مشوب باصفرار ، يحقن فى جسد أمي الشتائى دفئا لذيذا .

كانت الأمطار تخدش سقف البيت وتخدش أسماعنا بالانهمار القوى . وجدى يهرمل تخريفا يتعلق به اخوتى الصغار . وأبى كعادته ، يعد الشاى ، وأخواتى البنات يجلسن الى النول ، يضربن بالخلالة ليلا ، نهارا ، والزربية  توشك على التمام . دمدم الرعد حتى تهشم بعيدا وتلاشى فى بئر بلا قاع ، وأخذت الامطار في التوجه الى البحر ، وانسحبت البحب المركومة عن القرية المغتسلة ، وتجلى القمر : غارقا فى العلو ، شاحبا من فرط ما يضئ .

بعد المطر وتحت القمر ، كل شئ شاعرى رائع ، يلمع لمعانا يفيض بهارا وأنوثة وبراءة ... وكالنعناع المتفرعن ، خرجت أحمل نزقي وطفولتى وشيئا من التلهف عليك .. لم أكن أتوقع أن ألقاك عند الماجل تملئين سطل ماء . فزعت الى وفى عينيك شئ من رحابة الدهشة .. اختليت بى فى ظل توتة كبيرة حتى لا  يتفطن الينا أحد . وبلا مقدمات ، تعانقنا إلى أن أفقنا على صياح الديكه تغتال  بقية ليل مسافر ..

فى ذلك اللقاء ، حدثتك عن سويلمي . لم نعد نرى ضيرا فى أن نتحدث عنه ونأخذ أخذه ..  وافترقنا وقتها وفي عيوننا لغة هي العذاب والحلم ..

أفكار غريبة وذكريات مشوشة تطرق رأسى اليوم . فى الكلية ، اتجهت فورا الى مكتبة الفرنسية . كانت ريم منكبة على كتاب ضخم تقلى سطوره سطرا سطرا .  كان وجهى أصفر كالزعفران ، ولم أكن بقادر على الانشراح مهما حاولني الزملاء ..  تقدمت نحو ريم خطوات ، ثم عدلت عن إحراجها واخراجها من دائرة التركيز ..

ويبدو أنها لاحظتني أتوجه اليها ، فألقت ما بين يديها ولحقت بي : - عبد الحميد ، كنت تنوى الجاوس الى ولا شك ؟ + ولكن ...  - لا عليك ، تعال ...  تسكعنا فى معابر الكلية وعلى رأسينا الطير .  - قالت : لقد جاءنى خبر سار من سويلمي مساء أمس .  + قلت : ماذا تقولين ؟ - قالت : إقرأ ..

وأخرجت من جيب فيستانها المزهر ورقة صغيرة بحجم الكف تماما . اكاد لا أصدق ارتبكت عيناى فلم أعد أتبين الحروف ...  (سأعود يا ريم قريبا ... سأمكث فيك يوما واحدا ، نتتقل إثره على تهديم الخرائب وبناء العش الذي راودنا فى الحلم ، بالاسمنت المسلح .. لقد أصبحت فعلا غنيا على الرغم من ضيق ما باليدين . لكن ، إن أكن قررت أن أبقى فقيرا ، فلأن الفقر مأوانا أخيرا ...)  تملكني سهوم واتخذال تكلفت الانشراح أمام ريم وباركت عودة سويلمي بعد كل ذلك الغياب ..

انقضت أيام قليلة وجدتني إثرها أعود الى قريتي .. كانت لحيتي كثة ووجهى مكفهرا .  وكانت قريتي غارقة فى اللامبالاة حتى الذقن .. كل الامور تسير على علاتها . لا حزن بحجم الحلم يدق الابواب بالعنف الضرورى . ولا هم غير تسقط الاخبار الوهمية وتلفيق الحكايات التافهة ..  كل مساء ، تنتشر الغرانيق السود فوق القرية ، وتبذر قفيزا وقفيزا من النعيق الفاسد ، الى أن ألفت القرية هذا النعيق وبات جزءا من نشيدها اليومى ، لم تزده الأيام الا تمكنا بالاعصاب والقلب ...

عندما حللت ، استقبحوا وجهى ورجموني بالنظرات المعوجة ، الوقحة ..  صرخت فيهم بكل ما أوتيت من شجاعة :  - كلكم كلاب لا تستحقون الذكر . كلكم أجياف تسترون ضوء الشمس بالغربال . هذه الارض تلعنكم وأجداد أجداد أجدادكم .. النعاس دائما والقمار دائما والنفاق دائما والموت دائما ... نهرنى جدى : عيب هذا يا عبد الحميد ، هل جننت ؟ وأهوى أبى بكفه  الغليظة على خدى : أنت عاق ، أفسدتك كتب الفلسفة والسحر .. أنت لست من صلبى ، أنت ملقوط .. وتهامس عدد من الفلاحين الشيوخ : لقد جن الولد ... فى حين وقف بعض الشبان الشداد يحملقون فى وجهى وعلى  وجوههم سحابة هم مدلهمة .  * قال بوزيان : سبحان الله ، لكأنه سويلمي في أيامه الاخيرة !

* وقال عيفة البرادعي : كلاهما نحس على القرية .. * وقال الزبيبى بوشيحة : هل عرفتم الآن ، لماذا حبس الله علينا الغيث النافع ؟ * وقال شعيب السعفى : كانت القرية مطمئنة ، هادئة ، ثم جاء هذا الحطيط فشوشها بكراع كلب ...

ودبت قطيعة بين الآباء والابناء . تسللت روائح الكآبة الى المنازل عبر شقوق الابواب القديمة والنوافذ المغلقة . وعاذت رية بالصلاة والبكاء وهي تلطم خديها وتندب حظها النكد ، وانسحبت الغرانيق السود فجأة ...  وكان ليل طويل وثقيل كالحيرة.  الريح تحت نبق السدر المصهود بالشمس وتصهل : - ماذا يمكن أن تقول الريح فى مثل هذا الامتداد الموحش ؟ أسأل محبس الحبق المركوز منذ عهد بعيد على حافة الشباك الموصد دائما :  - هل كان موت فاحش ، ذات ظلام موحل ، فى هذا البيت المغلق على  روائح مختلفة .

ظلام الليل يساقط عذقا ، عذقا ، وزغاريد الريح تعلن عن ريحة موت قديم تزيح الرماد عن جثة مشروخة لشيخ حي .  لاكن أجل الى وجهى ومعى وجه من تنكرت لى قهرا وعلى حسن ظن ...  وليكن نعيق بومي قاحل ، أكن له حقدا دفينا .  وليكن نباح غليظ الشفرة ، يذبح دابر الكساد .  وليكن والدى ، بأغصانه اللاثثة  ، يحاول أمي على الدكة وأمي تتحول عنه ،  وبيننا حائط شفاف كجناح ذبابة حنطها الموت .  ولأكن ألعن هذا الصمت وأشمئز من قط رمادى يتبول فى احدى زوايا البيت ..

المخزون النفطي يتضاءل فيتضاءل ضوء القنديل ، وينفجر الفجر : شهيا كالتفاح ... وتفيق القرية على دهشة الشبان وهمسات الشيوخ : - إنه سويلمي يعود ، ومعه فتاة سمراء ! ..

اشترك في نشرتنا البريدية