الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

الفضيحة

Share

( المغرب الأقصى )

III

* بعد أربعة ايام فقط . . كنت أطرق باب شقته التى تأتى فى الطابق الثانى من العمارة . .

كانت معى أمينة . . تشجعنى وتشد أزرى . . أمينة التى أنقذتنى من التفكير فى الانتحار . .

كان الوقت مساء والساعة بين السابعة والثامنة . . وكان البرد يلفح الوجوه رغم أن درجة الحرارة ظلت مرتفعة طيلة نهار ذلك اليوم .

بعد لحظة انتظار . . انفرج الباب فى حذر وكأن لصا يريد أن يتسلل من داخل الشقة . . وبغتة . . وجد نفسه أمامى فامتقع لونه - أو هكذا خيل الى - رغم أن ابتسامته الثعلبية لم تتغير . . شعرت بشئ يغلى فى صدرى وأنا أنظر اليه . . أحسست انى أرغب فى البصق عليه وتمزيق جلد جسمه بأظافرى التى أصبحت طويلة منذ أن أهملنى والدى ، وتكاد تكون أطول من اصابعى . . ولكنه حول نظراته بسرعة الى أمينة التى سبقتنى الى الكلام وهى تبتسم وكأنما كانت تخشى أن أنفجر فى وجهه .

- مساء سعيد يا السى أحمد وكان صوته وهد يرد عليها قد تغير كثيرا وكأنه يملك القدرة على تغيير صوته بحكم الظروف والاحداث والمناسبات - أهلا ومرحبا . . فرصة سعيدة يا آنسة ظننت أنه نسينى بالفعل . . فقد تجاهلني واهتم بأمينة وحدها . . ربما فتنته . . سحرته . . ربما ادرك أن هناك امرا لا تحمد عقباه فقرر تجاهلى عمدا . . ربما . .

قطع على استمرار التفكير صوته المتقلب وهو يقول : - ادخلا أولا . . فتح الباب على مصراعيه . . ثم قادنا فى اتجاه صالة تتوسط الشقة . . ورغم أن مدة انقطاع زيارتى لهذه الشقة كانت قصيرة ، فقد أحسست أنها تغيرت كثيرا . . تماما مثل صاحبها . . جلسنا فى الصالة . . وجلس هو أمامنا من غير أن تتحرك طبيعته . . ألم أقل لكم من قبل انه ممثل بارع ؟ ! كنت أتتبع بنوع من الغيظ كل حركاته .

ادخل يده فى أحد جيوب جاكتته ثم أخرج منه علبة سجائر فدفن سيجارة بين شفتيه قبل أن يوجه كلامه الى أمينة التى كانت حتى ذلك الحين لا تزال نظراتها تتجول بين الصور المعلقة على جدران الصالة ، وهي مجموعة من الصور لسيدات عاريات ونصف عاريات

- قهوة . . شاى . . عصير برتقال ؟ ! وضحكت أمينة - هل هذا بيت أم  . . ؟ وقاطعها : - بكل تأكيد بيت . . ولكن شروط تنفيذ طلباتكم متوفرة لديه هكذا رد عليها . . فتقلصت ضحكتها قبل أن تقول وقد ازداد صوتها ليونة : - طيب - قلت ماذا تشربان ؟ ولاول مرة حدجنى بنظرة رعشاء كأنى يريد رأيى - بصراحة . . لا شئ كان هذا رد أمينة - لا يمكن . . حق الضيافة لا يسمح بذلك . . قالها ثم انصرف . . كنت أعرف أنه توجه الى المطبخ نظرت الى أمينة . . لست أدرى ماذا كانت تقول نظراتها ، لانهم يقولون ان للأعين حديثا . . اقتربت مني أمينة ثم همست فى أذنى

- لا تتسرعى يا عزيزتى - ولكن يا أمينة لماذا . . - لا ولكن ولا أى شئ آخر . . يجب أن تكونى هادئة تماما . . ولم أستطع حبس عبرات ثقيلة انزلقت من عينى لترسم خطين عريضين على خدى ، وما كدت أرفع يدى لأجففها حتى دخل أحمد وبين يديه صينية صغيرة عليها ثلاثة كؤوس بها عصير برتقال . . ثم قال وهو يضع الصينية على المائدة المستديرة التى تتوسط الصالة

- هذه الزيارة ليست رسمية كانت تلك عبارة تقليدية نسمعها كلما دخلنا بيتا من البيوت التى نزورها حتى ولو كانت من نوع بيت أحمد ، ولذلك لم تحظ جملته تلك برد فعل منا أنا وأمينة . . أو من أمينة على الأصح . مد لى أحمد كأسا وهو يقول : - تفضلى يا آنسة !!! قفزت أمينة من مكانها ثم خاطبته بلهجة حادة : - آنسة ؟ . . ألا تعرفها ؟ . . انها ليست آنسة وكم كانت دهشتى قوية عندما سمعته يقول وقد تركز بصره على وجه أمينة الجميل :

- كلا . . لم أتشرف قبل الآن بمعرفتها . . وتظاهرت أمينة بعدم مبالاة . . ولكنها لم تستطع منع كلماتها من الاندفاع - أظنك تمزح ؟ - إنى لا أقول غير الحق يا آنسة وليس هناك ما يجعلنى امزح ! ومن غير أن أشعر صحت : - إنه كذاب . . لعوب . . ممثل ! . . ولكزتنى أمينة ، فدفنت وجهى بين كفى وأنا ارتعش أما هو فقد أسند ظهره الى المقعد الذي جلس عليه ثم أخرج من جيبه سيجارة دفنها بين شفتيه فى حين ظل الربع الباقى من السيجارة السابقة يحترق على الصحن الصغير الموضوع أمامه . .

- لا أنكر أننى عندما رأيتها لأول مرة خيل لى أنى رأيتها قبل اليوم ولكننى  لا أتذكر فهن كثيرات وأحسست أن دورى قد حان ولكن دموعى سبقتنى وسبقتنى أيضا أمينة التى سمعتها تقول له

- اسمع يا أحمد . . تجرد من اللف والدوران فأنت تعرفها وتعرفها كثيرا . . بل أنت سبب كل ازمتها التى تتخبط فيها - ماذا أسمع ؟ قالها فى سخرية

- لا ينفعك كل هذا . . يجب أن تواجه الواقع . . كن رجلا . . ان فاطمة تحمل في بطنها جنينا بسبب علاقتها معك - إذا كان صحيحا ما تدعيه فلتتخذ الاجراءات اللازمة . . ماذا تنتظر ؟ ! وقفت أمينة كأنها قررت أمرا خطيرا

- ستفعل . . وسترى وجهك فى المرآة يا نذل ! .. ولكنه ظل جامدا . . وشعرت بقوة توقف الدموع فى محاجرى ثم تهزنى من مكانى . . فصرخت كالمعتوهة : - سوف امزق جلدك وشدتنى أمينة اليها بكل ما تملكه من قوة ثم قادتنى صوب الباب الخارجى . . أما أحمد فقد بقى فى مكانه لا يتحرك ودخان سيجارته يتصاعد من بين شفتيه . .

* قطعنا المسافة التى تفصل بين البناية وبيت أسرة أمينة من غير أن نقول شيئا . . من غير أن تتحدث الواحدة منا الى الثانية ، كنا صامتتين كل واحدة منا تفكر بالامر من زاويتها وتغوص فى أفكارها ثم تتنهد . . كانت أمينة متجهمة التقاطيع زائغة النظرات فى حين كنت أنا أتبعها وكأنها وضعت حبلا فى عنقى . . كنت أكتم غيظى وأحبس أنفاسى ، وكانت نظراتى تتلاشى فى الطريق . .

* كان لأمينة أخ يكبرها بثلاث سنوات . . ومع أنه لم يكن جميلا مثل أمينة فقد كان مهذبا فى حديثه لطيفا في طبعه . . قوى البنية متوسط القامة . . وكانت أمينة عندما تحدثنا عنه تصفه بالانسان المغامر العصبى المزاج الطيب القلب . . ثم لا تلبث أن تعقب انه انسان غامض .

كان عليا - وهذا هو اسمه - فى ذلك المساء يجلس في غرفته أمام النافذة المطلة على الشارع عندما دخلنا عليه أنا وشقيقته أمينة وهو يتصفح احدى المجلات الرياضية باهتمام بالغ . .

رد تحيتنا من غير أن يرفع عينيه عن المجلة . . وأمرتنى أمينة بالجلوس مشيرة الى لحاف قريب من النافذة حيث جلس على الذى استدار الى شقيقته ثم نظر اليها قبل أن يقول

- ألاحظ أنك لست على طبيعتك يا أمينة هل أنت في حاجة الى ؟ واقتربت منه أمينة بعدما خلعت معطفها وقالت له بصوت مهموس - هل تعرف شخصا اسمه أحمد يسكن فى بناية البلدية الجديدة قرب محطة القطار ؟

- نعم . . أعرفه جدا . . إنه شاب متخنث . . كثير الاعجاب بنفسه . . انه صديق لى وفى الامكان الاستغناء عن صداقته اذا كانت الضرورة تتطلب ذلك . - الامر كما تقول يا على - فهمينى - انت تعرف فاطمة . . . إنها يتيمة . . صديقة لى حميمة . . لقد ضحك عليها واستغل ضعفها ثم تنكر لها . . . إنها ضحية عبثه وخبثه . .

- إنه ذئب ٠٠ - يجب أن تنتقم لصديقتى يا على - إنه موظف سام وهذا سلاح قوى فى يده . . إنه يخدم مصالح الآخرين ممن هم أعلى درجة . . ولكن سأعرف طريقى إليه . .

* كانت أمينة تسند رأسها الى راحتيها تفكر بعمق . . فى حين ظل عليا يذرع الغرفة ذهابا وإيابا . . أما أنا فقد تحولت الى مجرد متفرجة . . . مشلولة القوى والارادة . .

* حالتنا فى البيت تحسنت كثيرا بعد أن توظف أشقائى الثلاثة وظائف نختلف فى الرتبة والاتجاه . . فأصبح بذلك دخلنا الشهرى يضعنا في عداد الطبقة ما فوق المتوسطة . . .

وقد ابتاع والدى فيلا آية فى الجمال . . رائع شكلها الهندسى . . مريح موقعها ، تكاد وانت بداخلها تشعر انك داخل عالم جميل تحيط بك الورود وأشجار الليمون والموز من كل جانب . . ويقبلك النسيم من كل جهة فينعش فيك نشوة الحياة . . إلا أن ذلك كله لم يفرج من كربتى ولم يغير إحساسى بالضيق والحزن والألم . . ولم يحدث تحولا فى حياتى الخاصة غير أنى أضحيت املك غرفة خاصة بى اقضى بها معظم أوقاتى مهمومة مكبوتة

وبينما أنا جالسة ذات مساء وبين يدى كتاب استعرض الصور التى يحتوى عليها ، دخل على شقيقى أحمد . . . فسألنى بصوت خافت مملوء بالرقة والعطف :

- فاطمة . . ماذا بك ؟ هل هناك ما يضايقك ؟ نظرت إليه وقد تشابكت أصابع يدى . . ترددت كثيرا . . ولكنى ادركت أن الحل قد يأتى من عنده . . . فقلت وقد احمر وجهى - لقد . . . لقد أصبحت أحمل جنينا فى بطنى . . إنه . . وقاطعنى وهو يحاول اخفاء وجهه الذى امتقع لونه : - ما . . . . ماذا ؟ وجمد فى مكانه لحظة وهو يفرك كفيه كمن يفكر بأمر خطير . . . ثم خرج مهرولا دون أن يقول شيئا .

* كنت قد تركت الدراسة فى تلك الاثناء . . ولم يبق لى منها غير ذكريات شاحبة وبعض الكتب والدفاتر التى فقدت أهميتها وقيمتها . . وكان بطنى قد شرع فى الانتفاخ وصار على وشك أن يعلن عن الفضيحة . . وبعد ساعة واحدة تقريبا من غياب شقيقى أحمد عاد ليجدنى لا أزال بمكانى كأنما تشدنى به مسامير . . . قال لى فور دخوله ، بصوت مبهور الانفاس : - قومى . . تعالى معى ٠٠٠

* خرجت معه دون أن أنبس ببنت شفة . . وصعدت الى جواره داخل سيارته (( السبور )) . . ومررنا بعدة شوارع حتى توقفت بنا السيارة أمام عمارة صغيرة ٠٠٠

ترجلنا ثم دلفنا من باب العمارة التى صعدنا اليها بواسطة المصعد الذى توقف بنا فى الطابق الثالث . . . وتقدم أحمد من باب احدى الشقق وضغط على زر الجرس الذى وصل الينا صدى رنينه من الداخل . .

وبعد برهة انتظار فتح الباب وظهرت من خلفه سيدة وسيمة بلباسها الابيض الانيق وقد لفت شعرها بمنديل أبيض وعلت شفتيها ابتسامة رقيقة . . وأدركت عند رؤيتها أن أخى جاء بى الى طبيب . . كنت أجلس فى قاعة صغيرة تجاور مكتب الطبيب . . فى انتظار أحمد الذى كان حديثه مع الدكتور يصل الى مخترقا الجدران

- أرجوك يا دكتور . . أنقذنا من الفضيحة . . إن ثورة أبى لا حدود لها . . سوف يقتلها إن علم بما آل اليه مصيرها مع العلم أنها ليست سوى احدى ضحايا العبث والطيش . . افعل من أجلها أى شئ يا دكتور انها فى حاجة اليك ٠٠ .

- سوف يكلفك ذلك ثمنا باهظا . - وليكن يا دكتور - وقد تتعرض صحتها لبعض الانهيارات فى أعقاب العملية - وليكن يا دكتور - امض على هذه الورقة . . وخرج أحمد ومن ورائه الدكتور بقامته القصيرة ونظارته البيضاء وشاربيه المحلوقين . . .

ادخلتنى الممرضة الى قاعة الفحص . . . واستلقيت حسب الاوامر على سرير بعد ما نزعت عني كل ملابسى . .

ناولتنى الممرضة كوبا به سائل شبه أحمر وأمرتنى بشربه ففعلت . . وبعدها فقدت القدرة على تتبع كل ما يجرى حولى . . . فقد غرقت فى سبات عميق ابتعدت خلاله عن وعيى وادراكى ...

* خمس ساعات . . انتهت أثناءها العملية . . فتخصلت من الجنين أو من الفضيحة بعبارة أصح . . .

كادت العملية أن تكون عسيرة ، حسب ما فهمت من حديث الدكتور مع أحمد ، ولولا تضحية أخي الكبيرة واجتهاد الدكتور لكان مستحيلا التخلص من الجنين لانه بدأ يكبر فى بطنى . . ولكن اجتهاد الدكتور بسبب تضحية أحمد جعل العملية تمر بمراحل تم خلالها نجاحها رغم انه أصبح يتعذر على أن ألد بعد هذه العملية ٠٠٠ .

لم يهمني شئ من كل هذا أكثر مما أثلج صدرى شعورى بأنى تخلصت من الجنين . . . فقد ارتحت لهذا الاحساس بنفس مستوى ارتياح شقيقى أحمد له . . رغم ما كلفه الامر من نفقات مادية . . .

* لقد استيقظ احساس أبى بى من جديد وذلك عندما تقدمت أسرة كانت تسكن على مقربة منا ايام زمان بحينا الاول ، تطلب يدى لاكبر ابنائها . . فرفضت ٠٠ أدهش ذلك والدى غير أن أحمد كان قوة فى يدى لأنه الوحيد الذى يعرف سبب رفضى والوحيد الذى أصبح يقدر ظروفى ويهمه

أمرى أكثر من غيره . . . وبما انه أكبرنا . . وبما انه صار يقوم فى البيت مقام المسؤول الاول ، فقد كنت أجد فيه الشخص الذى يعمل فى الخفاء فى سبيل راحتى وسعادتى فى حدود ما أنا فى حاجة اليه داخل البيت . . .

ولذلك فقد مر رفضى للزواج مرورا عابرا بالنسبة لبقية أفراد الأسرة دون أن يخلف ردود فعل مضحيادة . . لأن أحمد أعطانى حرية اختيار طريقى وهم يرون ذلك كل منطقية ومعقولية . . .

* ويجب أن أعترف من جديد أنى أضحيت أحب أحمد . . . ولكن بطريقة تختلف . . . أحببته ذلك الحب الأخوى الذى تلتقى فيه العاطفة بالعقل . . . ونسيت غلطته معى . . إلا أن شيئا بقى عالقا بذهنى . . . يقلق شعورى . . . ويؤلم تفكيرى ، ولم يكن ذلك الشئ أكثر من احساسى باستمرار علاقة ( الخيانة ) بين أحمد أخي وزوجة والدنا . . . ورغم خوفى الشديد من أن يفتضح سر هذه العلاقة . . فانى لم أقدر على مفاتحة أحمد أو زوجة أبى بالموضوع مع أنى قررت ذلك بينى وبين نفسى عشرات المرات .

وحمدت الله على أن زوجة والدى لا تلد هى الاخرى بسبب مرض طبيعى وقد كان ذلك سببا فى طلاقها من زوجها الاول . . .

وكنت وأنا أفكر بالموضوع أقول إن السر لا يمكن أن يظل سرا . . . فلا بد من فضيحة إذن . . فكانت تنتابنى رعشة خوف شديدة . . .

* بيتنا الجديد يتكون من طابقين . . . الطابق الأسفل . . . وبه ثلاث غرف وصالة خصصناها للأكل والضيافة ، وهى المكان الوحيد بالبيت الذى يجمعنا بعضنا مع بعض ثلاث مرات فى اليوم . . . أما الحجر الثلاث فقد وزعت بيننا أنا وسعيد وهو الذى يلى أحمد . . ومحمد وهو الذى يليه . . ثم الطابق الفوقى ويتكون من ثلاث حجر وحمام . . . ومن الغرف الثلاث اختار أحمد غرفته بالقرب من حجرة والدى وزوجته

لا بد أن يكون بينكم من يريد ان يسألنى عن أمينة . . . وعن زوجها . . الممثل البارع أحمد . . . لقد تزوجا . . ونسيتهما الى الأبد . . نسيتهما كما نسيت الماضى الدامس الرهيب . .

وأفقت ذات صباح على فضيحة تنفجر فى بيتنا . . .

اشترك في نشرتنا البريدية