الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

الفلسفة والعلوم وخدمتها لتكنلوجيا العصر

Share

تمتاز الفلسفة برعاية فائقة فى برامجنا التعليمية ذلك أنها من أمهات العلوم الانسانية وفي مقدمتها لانها رياضة عقلية ومنطقية ؛ وما احوجنا اليوم الى مثل هذه الرياضة التى تنمي مادة العقل والحكمة والتبصر فى عصرنا الحاضر عصر وضوح المعلومات وتبسيطها وادخال الحرف اليدوية التجريبية فى تكنولوجيا العصر الحديث ...

... ففي الماضى كان الفلاسفة يعيشون فى أبراجهم العاجية وعلى نظرياتهم الماورائية الغيبية الا ان اليوم تغيرت هذه النظرة فجعل الفلاسفة " الانسان " محور دراستهم وبذلك ربطوا التعليم بالاقتصاد وتكنولوجيا العصر وتطورها ،  فخذ مثلا بلدا " كالدنمارك " فقير الموارد الزراعية والمنجمية اذا ما قيس بالبلدان المحاورة له فهذا البلد الصغير وضع خططا اقتصادية واعتنى بتربية الأبقار ذات الفصيلة المنتجة للألبان بكميات وافرة ؛ وجودة هائلة .

ووضع المصلحون السياسيون والفلاسفة الاجتماعيون خططا فى ربط التعليم بالاقتصاد القومى وذلك بتركيز الورش الصناعية بجانب المدارس وذلك حتى تكون المدرسة مطلة على محيطها الذى يدر عليها الأرباح المادية الباهضة  فهذا البلد أى " الدنمارك " على الرغم من رقعة مساحته الضيقة استبدل  المساحات المزروعة بمشاريع تربية الأبقار واستيراد كمية من العلف المركز من البلدان المجاورة ، وتنظيم موارد لتربية البقر الحلوب .

وبذلك أصبح هذا البلد منذ الخمسينات من أكبر البلدان المصدرة لمادة الجبنة والحليب المجفف الى العالم كله ...

وقس على ذلك تجربة " الولايات المتحدة الامريكية " فى زراعة الحبوب وتصنيف فصائلها وذلك باعتمادها على العلم فى الزراعة فى الاصناف التى ننتج أكبر وأوفر كمية . ونفس الشئ بالنسبة لمشاريع تربية الاسماك وزراعتها فى أحواض اصطناعية .

وقس على ذلك ايضا تجربة " اليابان " التى أصبحت تغزو العالم لا بانتاجها الزراعي ولكن بادخال الخبرة البدوية في صناعة الاليكترونات المختلفة الاشكال وجعلت من تكوين الرجال فى الورش هدفا لاستغلال العلم فى الحياة اليومية وقس على ذلك فرنسا وبقية الاقطار الاوربية ...

هذه المنتجات والاكتشافات لا تأتينا من الانسان الجائع المحتاج فهى تأتى ممن كان فى راحة كاملة ونفس مستريحة يريد الخلق والابتكار وقديما قيل :  " العقل السليم فى الجسم السليم " لان التفكير فى مثل هذه المشاريع العلمية  لا يكون بعيدا كل البعد عن الهزات النفسية فهو محتاج الى الراحة العقلية الكاملة والنظرة الشاملة والصفاء من تمييز الخير من الشر ... واذا اشتكى  عضو من الجسم من قلة الغذاء مثلا اشتكى الجسم كله وبذلك نستنتج ان  معركة العصر هي معركة " الطعام لكل فم " .

... وهذا هو أساس الصراع بين بنى البشر فى عصرنا الحاضر عصر الخبرات وسبل توفيرها للشعوب بالوسائل العلمية على الرغم من طبيعة  التنافس والصراع الطبقى والوظيفى عند البشرية قاطبة .

من هذه البساطة في التفكير جاءت الفلسفة فى العصر الحديث متقاربة من علم النفس وعلم الاجتماع والآداب الانسانية وذلك لاحتفال الفلسفة بالكثير من التيارات المذهبية والاديولوجية ... لان هذا العصر يخضع للعلوم الصحيحة والاقيسة المنطقية ونتج عن ذلك ظهور النزعة " الوجودية " والنزعة "الاشتراكية " والنزعة " المنطقية " ونرى فى أوائل القرن التاسع عشر  الاعتناء بالعلوم والتخلى كلية عن الفلسفة ...

والملاحظ : ان بعض المعاصرين من الفلاسفة سلكوا مسلك التعقيل والغموض وهم مطبوعون على مذهب التخصص : ( Specialisation ) فجاءت مؤلفاتهم غامضة مثل " سارتر " و هيدجر " وغيرهم تذكرنا كتاباتهم بمؤلفات المنهج المدرسي الذي حدث فى القرن الخامس عشر . ونتج عن هذا التيار رد فعل فحاول الكثيرون تبسيط القضايا وتذليلها خاصة النواحى الميتافيزيقية الغيبية ونزلوا بها إلى مستوى الجمهور واذاعة أفكارهم بين يدى

الجمهور حتى قربت الفلسفة من الادب وظهرت بذلك روايات " و " مسرحيات"  تعبر عن النزعة الفلسفية حتى أصبح بعض الفلاسفة يؤلفون " للمسرح"  ويكتبون " للسينما " و " التلفزيون " وينشرون أقاصيصهم بين الناس في اشكال قصص " درامية " أو " كوميدية " أو " تراجيدية " وأصبح الادب والفلسفة يخوضان نفس المشاكل سواء بسواء . وبذلك كثر الانتاج الفلسفي فى العالم حتى انه ذكر في القائمة السنوية التى اصدرها المعهد العالي للفلسفة  خلال سنة 1938 أن الكتب الفلسفية التى ظهرت فى ذلك العام قد زادت عن سبعة عشرة ألف كتاب ! وهذا الانتاج الضخم إن دل على شئ فانما يدل على ان المشكلات الفلسفية قد تزايدت بما لم يسبق لها نظير ، كما ان الوعى البشرى نفسه أصبح اقدر على فهم الفلسفة فى صميم الحضارة الحديثة .

وقد لا نغالي اذا قلنا ان العصر الحديث هو من أخصب العصور الفلسفية وأغناها كما شهد بذلك المنزلة الهائلة التى تشغلها الدراسات الفلسفية فى معظم جامعات العالم .

* المؤتمرات الفلسفية وتقارب العلوم في العصر الحديث :

لقد جمعت المؤتمرات الفلسفية العديد من علماء العصر .. وهذا التقارب بين المفكرين واتصالهم اتصالا مباشرا كان عن طريق المؤتمرات الفلسفية ،  والتبادل الثقافي وتنظيم العلاقات بين الجامعات المتعددة فى "الشرق" و"الغرب" معا وقد شهد مطلع القرن العشرين عدة مؤتمرات فلسفية متوالية استطاعت أن تقرب بين المفكرين فى مختلف النزعات ، مما عمل على تحقيق ضرب من " التواصل الروحى " بين النزعات والعقليات الفلسفية  المتباينة (1) .

وما زالت المؤتمرات الفلسفية والندوات الثقافية والمساجلات الفكرية التى نظرها الصحف والمجلات تعمل عملها فى التقارب بين النزعات المتعارضة ،  والتيارات المتصارعة والاتجاهات المتباينة ، وبعد ان كان الفلاسفة يعيشون فى عزلة أو شبه عزلة أصبحنا نرى اليوم أن المشتغلين بالدراسات الفلسفية

والنفسية والاجتماعية لم يعودوا يجدون حرجا فى ان يتدارسوا المشكلات  بروح رياضية متعاونين لاسعاد البشرية كلها اذ لكل واحد مجهوده الخاص باعتبار ثقافته التى ينتمى اليها هذه الثقافة التى هى ملك مشاع لجميع المفكر بن فلا يمكن قفل حدودها فى جزيرة مغلقة ، فالمعارف الادبية والفنون و علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الجمال وعلم الاقتصاد والعلوم التقنيه كل هذه محاور الدراسة العقلية وتقوم بين هذه التخصصات رابطة مودة واخاء  وتفاهم ...

ولا شك ان قيام المجلات العالمية والدوريات الدولية قد أدى الى امتزاج الحضارات المختلفة ، فلم يعد من النادر أن نجد مجلة بحوث فلسفية او علمية او تقنية لمفكرين مختلفي الثقافات والمعارف ذوى جنسيات متباينه ولغات مختلفة وعقليات علمية تبحث بروح ملؤها " اتخاذ المنهج العلمي فى الدراسة  والبحث أساسا للحقيقة العلمية " التى يقرها جميع أصناف المفكرين على مختلف أجناسهم . وألوانهم وأقطار أصقاعهم ...

والفلاسفة والمفكرون أصبحوا يجدون أشياء لمذاهبهم خارج بلدانهم الاصلية وهذا كما حدث " للوجودية " فى فرنسا على الرغم من وجودها فى "أوربا"  إذ أصبح اليوم لها انصار فى انجلترا وأمريكا وأصبح لها اصدقاؤها حتى عند المفكرين العرب .

* علاقة العلم بالفلسفة :

هكذا نرى علاقة روحية بين العلم والفلسفة ، فالعالم يعيش فى المخبر يكتشف المادة والذرة وغيرها من العناصر الموجودة فى الطبيعة ، او التى يقوم بتحضيرها ...

بينما الفيلسوف يبتدئ  ، بما انتهى اليه العالم فيبين أن هذه المخترعات الاكشافات صالحة لتستعملها البشرية فى حياتها اليومية لكى تعود بالنفع والخير لصالحها وبذلك يحث الفيلسوف على انتاجها للانتفاع بها للصالح العام ... واذا كانت تعود بالضرر فلا فائدة فى استعمالها ويحذر البشرية منها وهذا كاختراع الذرة التى هى ذات حدين : اما الانتفاع بها فى الاغراض السلمية أو لتخريب العالم بها في الاغراض الحربية . وقد مثل الفيلسوف

"روسل " فى انجلترا فيلسوف السلام وعمل على استخدام الذرة فى سعادة البشرية والترفيه عنها فى جميع مجالات الاكتشافات والاختراعات ، ومساندته للتقنيات الحديثة والمخترعات العلمية التى وصل اليها الانسان .

... حقا لقد وصل الانسان بفكره الثاقب الى مخترعات لم يصل اليها أى حيوان على وجه الارض فقد غزا الفضاء ووصل الى القمر وسار عليه بقدميه ،  فهل يستطيع الانسان بذلك أن يتخلص من مشاكله على وجه الارض ...  التى تعطيه الدفء والحنان ....

حقا ما أحوجنا اليوم الى فلاسفة معاصرين يقفون ضد التجارب النووية والسباق نحو التسلح ويعملون على ازالة التلوث فى البر والبحر حتى يصبح العالم جنة حياتنا نحمل فيها رايات الصفاء والمودة والاخاء والمساواة . ولا  مجال لا نبتات الانسان عن وطنه الذى تربى فيه بين أهله وعشيرته وهذا هو  ما ينادى به كل المفكرين وفي مقدمتهم الفلاسفة المعاصرون الذين نزلوا من  ابراجهم العاجية الى الانسان واتخذوه محور دراستهم .

لهذا السبب أردت أن أشغل نفسي بالكتابة فى هذا الموضوع موضوع "الفلسفة وخدماتها لتكنولوجيا العصر الحديث " وقد ربطت بذلك بين العلم والفلسفة وتحدثت فى ذلك بلغة " العصر " لغة البساطة والسهولة ولغة الحياة  اليومية التى أقرها الفلاسفة المعاصرون في مؤتمراتهم .

اشترك في نشرتنا البريدية