كان الأصيل غائما ،
والأفق البعيد قاتما حزين
والبوم قرب غابة الزيتون
ناعبة تستنطق الآفاق
وتسأل الرياح عن سحائب المطر
كأنها قد عاينت كآبة البشر . .
وكان قرص الشمس مصلوبا على التلال
من بعد ما قد صهر الحجر
وذوب السموم فى الأوصال
وخلف الرماد فى الأعماق . .
وكان صوت الضعف فى قريتنا ،
تبعثه الأحياء :
" الغيث يا رب السماء ! !
قد رحل الخريف دونما أمطار
وأجدبت ودياننا
وآحترقت أعصابنا
لم يبق إلا الضجر المقيت والأكدار
ودعوة نعيدها :
الغيث يا رب السماء ! ! "
وكان تحت السور شيخنا المختار
منكمشا كدودة داهمها الشتاء
وكل ما يملكه حنجرة منخوره
وجبهة عريضة مجدوره
لا تعرف الأمطار والغيوم
وجبة مكية خضراء
تلفها رائحة الشحوم . .
والناس يعرفون شيخنا المختار
يحكى لهم للبسطاء المنخورين
عن مهبط الأنوار
عن خالد ، عن غزوات المسلمين
وردة الكفار والمتاجرين . . .
وأقبل المساء
والناس بعد يهتفون :
" الغيث يا رب السماء ! "
فقام للصلاة شيخنا المختار
يسبقه عكازه المختار
والتمتمات والبصاق
وسار خلفه أولئك الرفاق
الساترون عارهم بالكتب القديمه
والمجد والتاريخ والهياكل الموشومه .
وعاد بعد حين
يتبعه الرفاق خاشعين
والناس بعد يهتفون . .
فآنتفخت عروقه وصاح فى جنون :
" لا تعرفوا الأكف للسماء
لا تسألوا ما بالها قد شحت السماء
والله فضله عظيم
لا تسألوا . . . فأنتم حجرتم الغيوم
ولتخرسوا ولتأكلوا الحجر
قد وقعت على العباد لعنة القدر
لأنكم خلعت الجلاله
عن صاحب الجلاله
ألبستموها للسلطان
وبعتم الحديث . . بعتم القرآن
بالعطر بالأصباغ بالجرائد
لو أنكم لم تهجروا المساجد
لو لم يدنس أرضها النصارى
لو أنكم لم تسلخوا العباره
لو أنكم لم تهملوا الأثر
لما تحجرت فى أفقنا الغيوم
وضنت السماء بالمطر
لا تسألوا ، ، لا تعجبوا
حقيقة من أجلها قد حبس المطر
والله يرزق العباد الصالحين
القانعين بالقليل المؤمنين
الساهرين ليلهم مسبحين . . "
وفجأة دمدمت الرعود
فشدت الأسماع نحوها ،
وانتحر الشرود . .
وارتعدت فرائص المختار
واصطفقت عظام وجهه المجدور
فخلف الرفاق تحت السور
وغاب فى دوامة الاعصار . .
وبعدها زخ الحليب من ضرع السماء
فانتفضت من موتها الاحياء
وابتسم الزيتون
واندفع الكبار والصغار
كالماء فى الساحات يرقصون . . .
يا جالسا فى الشمس تحت السور
يا نافخا أوداجه ونصفه منخور
يا جاعلا من يومه ميدان
يصول فيه خالد وصحبه الشجعان
لو كنت مسلما كما تقول
لو كنت عاملا بسنة الرسول
كنت غسلت ذقنك الطويل
والجبة المكية الخضراء
كنت تركت السور والجدال
كنت حملت الفأس كالرجال
كنت ذكرت رحمة السماء
يا ذابحا فى أرضنا الرجاء
يا شبحا أغفله الزمان
يا أيها الكهف الذى يسكنه الشيطان
لو كنت أستطيع
حكمت بالموت عليك ، بالموت الشنيع
ليسعد الأطفال
ويشرق الربيع فى عيونهم ،
وتزهر الآمال . .
ط . ر
