- 2 - (*) استبد بك حنين الى أزلية مثلى . قال أنور والقطار يصعد : " الريح الشتائية على خطوط الاستواء ارحم " . صمت . رمق الباطن فى محاولة يائسة لاستجلا الايام - الصحو - وواصل باحثا عن الانعتاق : اقتتال على الرغيف .. والهجرة هى الملاذ ...
اختفى بريق العينين اللماعتين . واستهوته لحظات توله كبير .. المجهول آت لا ريب فيه والكون امسى كيانا زئبقيا .. وهذه الدول المتناثرة تذبل كزهور شتائية... أأنوح على النفس التواقة الى الاشراق ام استلهم احلام الموتى .!؟
قلت مخاطبا كيانا غريبا هو منك فى الصميم ولعله صنوك المفقودة : اسع الى كآبة أمثل .. والنسيان رحمة ...
قال : العيش خارج الحدود استدراج للذات المفقودة . وتضمحل غيوم الابتسام . الطيف الملائكى يضئ لينطفئ ، والبحر فى رحيله الدائب يخفى مواجع الاحقاب . والقطار فى سيرورته يحكى الازل . حادثك عن أيام الشدة .. والمعادلات الصعبة .. كان الصقيع فى تلك الفجاج مدلهما . النبرة استسلام ، والخطة المتبعة انعتاق من الآثام الازلية ... قال وهو يغيب فى زحمة الاحداث الماضية : كنا نمتهن الاتعاب ... ويوميا ننساق الى المقصلة ...
انت ايضا ... انسقت الى المقصلة ، كان ذلك قبل عشرة أعوام ونيف ... رمقك أنور بعين جامدة ، وكأنه يستسلم للموت قال : فى رنة رخوة : هناك . العمل شاق . الخطيئة والموت سيان ... وأضاف : ورغم ذاك هناك لذة الكشف والاستكشاف ...
الوجوه فى العربة متربة . التراب محيط قاتل . وهناك أيضا تسكن الدنيا غوائل الموت . التراب يحمل حقد الاحلام - الظلم - الضنك - القحط - دوس كرامات الاله : اخلع السترة . اجلس على المؤخرة على حافة العمود النارى الذؤابة البرد عربدة . اللذة فى الحرارة القاتلة . متى ياتي فقدان الجلاء ... تعالى يا ظلمة الدهور... أود الموت... نسيا ونسيانا ... " لا " يصيح صوت متنمر ... " لا " ارشف نفايات الامراض . الوباء ... لك والمحق ... غص فى يم الالم . سيان عندك حياة أو موت . لحظة الانبتات تسعى اليك الذاكرة الميتة ... موجع منك الرأس. والحياة فى سيرورتها تبيح لك صقيع الايام الحبلى بشتى العذابات ... وتلك البسمة القادمة رحيق جذل إنها نوطة الخلق المبدع . تنتفى ايام البؤس الضاحك . وضعت اليد على الخد : موجع الاهداب ، والداء يكمن فى التحسيس الاول ... سنوات عشر مرت فى لمح البصر ... وتغيب فى نشوة ما ورائية. تغيم مع الحان جذلى آتية من بعيد ... المطر المنهمر والهواء البارد يلفح الوجه ... وهى الى جانبك لؤلؤة الطريق الموغل فى الكآبة ... تتبعث أمامك فى لباسها اللامع أوان الالتحام الاول ... العرس البهيج وضربات الدف الدافئ احلام جذلى ... وهذه الاوجه الصبوحة ... ماذا وراءها ! هياكل ضخمة تأتى ... تمر ... وتمضى تباعا ... وتذبل الزهورء.. تأفل صمت مواتا ... والصيحة المفزعة من ثقوب أبواب حديدية ينخلع لها الفؤادء...
يتصب منك الجبين عرقا . تفتح العين يلفحك الهجير ويصيح الصوت : ماذا عن التجمع والجموع المتحركة صمتا والمنادية بالتشرد الكبير ، قلت : " هدنة الايام لا تعنى الاستبسال فى دنيا الموت البطئ " ... وأضفت هى الاحلام السكرى ... قال وهو ينفض سجارته الضخمة : " المشوار معك طويل " . . . تتذكر ملامحه وهو يستدرجك ... ذكيا فطننا بارعا كان ... قيل عنه انه صاحب المخططات الكبرى وبه يكون الامان ... تساءلت أين هو الآن ..؟ هل صلب أم اغتال الدهر الآثم ..؟ حميد صارم ... الضابط الذي ترتعد له الافئدة ... منذ متى لم تره ولم تسمع عنه ... لعله ذاب ابان الحركة الاخيرة... قال أنور والقطار يمرق فوق الجسر : هناك ، في صفيع الدنيا البيضاء ، العالم منعش ...
تذكرت الارض المنحنية والاتربة الصفراء ، والأذرع السمراء الكادحة ... تذكرت الوجوه التى كوتها الشمس وهى تقاوم الموت بشرود قاتل ... وتذكرت الطرق فى بلجيكا .. ملتوية ، عظيمة كأنما قدت من دماء ... بلجيكا ... هكذا
قلت : ارض الاقتتال والفرعنة واستغلال الطاقات الافريقية ... واصلت صمتا : الذكرى انعاش واحياء للضمير الميت...
وطافت بك الرؤية .. وها أنت وسط الزحمة ، ومئات الآلاف تقف فى وجه المستعمر ... وحين يلدغك السوط كنت تجثو حنوا ... واذ ينام الحارس مجهدا ... كنت تتذكر ذراعيها الرؤوفتين ... تأتيك أحلاما مشعة وعندئذ كنت تحس أن العالم ليس الا غانية كئيبة المواجع ...
قال أنور : الحقيقة لا ترى ... ثم أضاف : يصعب التمييز ... وواصل بحقد دفين : حضارة العصر دعوة سافرة الى تخوم النهاية المفجعة ... انعطف القطار باتجاه الشرق . وفى حركيته الرتيبة كان المسافرون يندسون فى ذواتهم الميتة ... قال الاقدمون : اسطورة هى حياة الاجيال . الخير والشر قطبان عليهما يقف العالم مندهشا ... والضراوة فى انتفاء المعادلة ... تفرست فى الخارج . الخضرة تكسو الاديم . خمنت : هذه الارض معطاء ... وأين رجالها ...
سألك أنور بلهجة خافتة : مذ متى فارقت السجن ..؟ أجبت وكأنما أحسست انك طليق الجناح: - منذ أسبوع - فى الخارج السجن نعمة. - هل سجنت ! - نعم. - هل من سبب! - لكل علة سبب . - مرة ! - وأكثر . - الاولى ! كانت مصادفة....
- منذ متى ٠٠ - عقدين ... تذكرت أيام التمويه والشروع فى الاعمال العظيمة ، والارتقاء السريع فى السلم ثم التدحرج ، فالانبتات والعزوف واكتشفت ان النجوم افلة لا محالة ... وبعدها اخذت على العاتق الدفاع عن المنكوبين فى المعمورة ... سألك :
كم امضيت ! - حقبة من الزمن لا يستهان بها ... - أنادم أنت ..! - لا ... وانما الحرية شئ مفقود... - الحرية شئ من الذات ... قال أنور وهو يرمق الابعاد : فى كمبوج تعرفت على فتاة مغربية المنشأ ، فرنسية الجنسية ، كانت تغرى الرجال ... استهوتنى حد العبادة .
- وغرقت ! - لا .. امتنعت فى الاخير . - أبائعة للهوى ... - من طراز خاص .
وقبل أن يجيب لاحظت ان شخصا ذا نظارات عاكسة يتفحصك بامعان . تغافلت . الوجود انعدام دائم ... والضحك نوطة بلهاء ... طأطأ أنور الرأس.. لتفت الى الوراء وبحركة ذكية أشار إلى قبة تبدو فى البعيد قال : " هناك كنت يوما سائحا على الطريقة الاوربية ...". قال المحامي بخفوت : ثم ماذا ؟ أجاب : تتبعتها اياما .. شهورا ... ولما جاء الاوان علمت ان الامر لا يقتصر على الامور العادية ... - ماذا وراءها ! - كل الخير وكل الشر. - يعنى! - الهيام والغيبوبة ... ( يتبع )
