بدأ المسرح العربى بدايته الرسمية المعترف بها تاريخيا فى بيروت على يد مارون النقاش وكان ذلك فى أول مسرحية كتبها هذا الفنان العربى اللبنانى ومثلها فى بيته سنة 1847 ، وكان اسم هذه المسرحية " البخيل " . على أن طلائع الحركة المسرحية العربية لم تزدهر الا بعد هذا التاريخ باكثر من عشرين سنة ، حيث انتقل النشاط المسرحى الى مصر فازدهر فيها وازداد واتسع واصبح حقيقة فنية واجتماعية واضحة وملموسة فى الوطن العربى .
وعندما نراجع بدايات الحركة المسرحية فى مصر نجد أنها قامت على يد يعقوب صنوع الذى ولد بالقاهرة سنة 1839 ، ولكن هذه الحركة المسرحية لم تتأصل الا على يد اللبنانيين والسوريين الوافدين الى مصر ، وكان أول هؤلاء الوافدين هو سليم النقاش ، الذى ورث عن عمه مارون الاهتمام بالمسرح والايمان به والعمل على انتشاره وازدهاره فى الوطن العربى ، وبدأ عمله الفني فى مصر بمسرحية " أبو الحسن المغفل " فى يوم السبت 23 من ديسمبر سنة 1876 .
وبعد ذلك توالى ظهور الفرق السورية فى مصر ، وكان من هذه الفرق ، فرقة يوسف خياط التى قامت على انقاض فرقة سليم النقاش ، ثم فرقة سليمان القرداحى وهو أحد أفراد فرقة خياط ، استقل بنفسه وبفرقته ، ثم ظهرت بعد ذلك فرقة خليل القبانى ، ثم فرقة اسكندر فرح .
وهكذا ، نجد أن الفترة التى تمتد من أواخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن ، كانت هى البداية التاريخه الحقيقية للحركة المسرحية العربية ، وأن هذه البداية كانت تعتمد أساسا على ممثلين سوريين وجمهور مصرى ، لقد ضاقت سوريا ببلدانها المختلفة بهذا الفن الجديد ، اما لاسباب مادية كما شرح سليم النقاش ، حيث كان مجتمع دمشق أو بيروت مجتمعا صغيرا لا يحتمل ظهور حركة مسرحية واسعة ونشيطة وبحاجة الى جمهور دائم كما كان هناك سبب آخر لهجرة الحركة المسرحية الناشئة ، فقد كانت سوريا ما تزال
تابعة تبعية فعلية للدولة العثمانية ، بينما استطاعت مصر منذ عصر محمد على أن تتخلص من الارتباط الفعلى بالدولة العثمانية ، ليصبح ارتباطها بهذه الدولة ارتباطا شكليا ، ولقد كان من المعروف أن الدولة العثمانية انما تقوم على أساس من الكراهية لاى تحرر أو انطلاق فى ميدان الثقافة والفن ، ولذلك فقد وقفت البيئات الرجعية ضد فن المسرح عند ظهوره فى سوريا ، وتصدى الرجعيون للشيخ " أبى خليل القبانى " وشنوا عليه حربا عنيفة ، واتصلوا بالخليفة العثمانى وحرضوه ضد هذا الشيخ الذى يفسد البلاد والعباد من وجهة نظرهم عن طريق هذا الفن الوافد الجديد وهو فن المسرح " فكان أن صدرت الارادة السنية الى حمدى باشا والى الشام بمنع أبى خليل من التمثيل واغلاق مسرحه . وأغلق القبانى مسرحه ، ووجد خصومه الفرصة سانحة للنيل منه ، فأعزوا به صبية الازقة وحفظوهم بعض الاغانى والاشعار ، ليشتموه بها ، كلما قابلوه فى الطريق .
وهذه الصورة الدقيقة لموقف الرجعية السورية من مسرح القبانى نجدها بتفاصيلها فى كتاب " المسرحية فى الأدب العربى " للدكتور محمد يوسف نجم .
لقد أطلت قليلا فى هذه المقدمة التاريخية لاخرج من هذا كله بأن نشأة المسرح فى الوطن العربي كانت نشأة يتوفر لها عنصر " القومية " بصور واضحة ، وأعني بذلك أن المسرح ولد عربيا ولم يولد سوريا أو مصريا أ لبنانيا ، فقد اشترك فى خلق هذا الفن الجديد على الثقافة العربية والمحتما العربى عناصر مختلفة لولا تضامنها لفشلت الحركة المسرحية وانتهت الى التوقف ، فالمجتمعات العربية منذ عصور بعيدة تشترك في أنها ذات تراث وااح ولغة واحدة ، ولذلك أصبح من السهل على الفنان أن يتحرك داخل هذه المجتمعات وينتقل من بيئة الى اخرى ، دون أن يضعفه هذا الانتقال ، بل ع العكس فان الانتقال من بيئة عربية الى اخرى كان مصدرا من مصادر قوة الفنان وقدرته على الاستمرار . ان الوحدة الثقافية القائمة فى الوطن العربي منا أكثر من ألف سنة تجعل بيئة الفنان والمفكر عريضة واسعة ، حتى لو كانت بيئته المادية محدودة وضيقة ، ومن هنا نستطيع أن نقول أن ظهور فن جدير عظيم مثل فن المسرح مدين للوحدة الثقافية القائمة فى الوطن العربي ، ولولا هذه الوحدة لانحصرت الحركة المسرحية الناشئة فى بسئات ضيقة واختنقد وماتت . ومن الغريب أننا لو تأملنا الموقف الراهن للحركة المسرحية العرب لوجدنا اننا نعيش تقريبا فى نفس نقطة البدء بالنسبة للحركة المسرحب
العربية فى القرن الماضى ، فان الازمة الراهنة التى تعانيها الحركة المسرحية العربية فى مصر وفى غيرها من البيئات العربية لا تـجد حلا أو طريقا للخلاص أفضل من الانتشار والاتساع والاستفادة من وحدة الوطن العربى ، أما اذا توقفت الحركات المسرحية العربية الراهنة فى بيئاتـها الضيقة وانحصرت فيها فسوف تتعرض للذبول والاختناق واذا واصلنا تأملنا فى تاريخ المسرح العربى فسوف نجد أن الفرق المسرحية الكبرى التى ظهرت فى مصر اعتمدت اعتمادا أساسيا على الوحدة الثقافية فى الوطن العربى ، ففرقة جورج أبيض تحركت فى الوطن العربى طولا وعرضا ، واستفادت من وحدة الجمهور العربى ولـم تقتصر فى نشاطها على مصر وحدها ، وكذلك فرقة يوسف وهبى المعروفة باسم فرقة رمسيس ، فقد كانت هذه الفرقة تعتمد اعتمادا اساسيا على رحلاتـها الى البلاد العربية المختلفة وعلى تقديم عروضها أمام الجماهير العربية الواسعـــــة المختلفة .
وخلاصة القول فى هذا المجال أن وحدة الأمة العربية ، حتى فى أشد لحظات التجزئة الجغرافية والانفصال ، كانت دائما من أهم عناصر النجاح والدعم والتأكد لميلاد الحركة المسرحية واستمرارها حتى اليوم . على أن الحركة المسرحية العربية قد وجدت على الدوام عناصر متعددة توحد بينها ، كما وجدت عناصر أخرى تفرق بينها وتثير الاختلاف .
وبين أهم عناصر التوحيد فى الحركة المسرحية العربية نقف أمام ثلاثة عناصر :
العنصر الأول هو أن " المسرح " فن غربى وقد أخذه العرب من الغرب ، فمصدر الفن المسرحى واحد ، والنبع الاساسى الذى استمد منه الفنانون العرب فهمهم لهذا الفن منبع واحد ، ومن المعروف أن الذين أنشأوا هذا الفن فى البلاد العربية قد اعترفوا اعترافا صريحا بأنهم تعرفوا على هذا الفن فى الغرب وتعلموه هناك ونقلوه الى الوطن العربى من البيئة الثقافية الغربية ، واذا كان هناك اضافات أو تعديلات فى العروض المسرحية العربية ، مثل الاهتمام فى فترة من الفترات بالغناء المسرحى استجابة للمزاج العربى ومثل الاتجاه الى الكوميديا والعناية بـها فى بعض الفترات الأخرى على حساب أى لون مسرحى آخر . . . هذا كله لا ينفى أن الشكل الفنى الاساسى للمسرح العربى مستمد من الشكل الغربى ، سواء عن طريق رحلات يعقوب صنوع أو رحلات مارون النقاش الى أوروبا .
وقد ظل المسرح العربى منذ نشأته الى اليوم معتمدا على متابعة تطورات المسرح الاوروبى والاستفادة من هذا التطورات ، فمصدر الالـهام والتوجيه بالنسبة للمسرح العربى مصدر واحد هو المصدر الغربى بـمدارسه المختلفة مـما يخلق عنصر التوحيد فى الحركة المسرحية العربية .
العنصر الثانى من عناصر التوحيد فى الحركة المسرحية العربية هو أن هذه الحركة قد تركزت لفترة طويلة فى مصر ، ومن هنا أصبحت الحركة المسرحية المصرية هى العنصر الرئيسى الذى تشكلت على أساسه الحركة المسرحية العربية ، ولقد انتشر الفنانون المصريون فى البلاد العربية عن طريق عرض مسرحياتـهم أو عن طريق التدريس أو انشاء المعاهد الفنية المختلفة أو عن طريق الاذاعة والتلفزيون ، ولعلنا نذكر فى هذا المجال رحلة جورج أبيض الى تونس حيث بقى عدة شهور يدرب مجموعة من الشبان على أصول الفن المسرحى ، ولعلنا نذكر رحلة زكى طليمات الى تونس لنفس الـهدف ، ثـم رحلته الطويلة الى الكويت لانشاء معهد للفنون المسرحية هناك . كذلك استطاعت مصر أن تؤثر بصورة مباشرة عن طريق معهد الفنون المسرحية الذى كان الى فترة طويلة هو المعهد المسرحى الوحيد فى الوطن العربى وكان طلابه من مصر ومن شتى انـحاء البلاد العربية فى نفس الوقت .
وهكذا استطاعت مصر أن تـخلق أساسا واحدا للحركة المسرحية العربية ، فالـحركة المسرحية فى شتى أنـحاء الوطن العربى متأثرة أشد التأثر بالـحركة المسرحية المصرية سواء كان التأثر عن طريق التشابه أو عن طريق المعارضة ومحاولة التحرر والانطلاق . وحتى اليوم ما زالت الحركات المسرحية الناشئة فى البلاد العربية تعتمد على جهود الفنانين المصريين الذين يعملون بجد واخلاص على ازدهار الحركة المسرحية فى مختلف انـحاء الوطن العربى ، وفى هذه المرحلة بالتحديد يوجد الفنان المسرحى سعد اردش فى الجزائر ، حيث يقوم بعمله كمستشار مسرحى للدارسين والفنانين المسرحيين هناك . وفى ليبيا يوجد الفنان عمر الحريرى منذ سنوات طويلة يبذل جهدا مستمرا لتنمية الحركة المسرحية الليبية . ومن قبل كان الفنان كرم مطاوع فى الجزائر ، وكانت الفنانة نادية السبع فى الخرطوم وكان الناقد المسرحى المعروف على الراعى فى الكويت ليساهم فى توجيه الحركة المسرحية هناك.
العنصر الثالث من عناصر الوحدة فى الحركة المسرحية العربية هو أن التاريخ العربى كان مصدرا من مصادر الالـهام الاساسية للفنان المسرحى العربى
منذ نشأة الحركة المسرحية حتى اليوم ، فأول مسرحية قدمها سليم النقاش فى مصر سنة 1776 كانت بعنوان " حسن المغفل أو هارون الرشيد " وهناك قائمة كبيرة تضم مسرحيات كثيرة كان مصدر الالـهام فيها هو التاريخ العربى المشترك أو القصص العربية الشعبية القديمة . ونذكر على سبيل المثال هاتين القائمتين اللتين نجدهما فى كتاب الدكتور محمد يوسف نجم عن" المسرحية فى الأدب العربى " . . . القائمة الأولى من المسرحيات المستمدة من تاريخ العرب القديم ونجد فيها : المعتمد بن عباد - لابراهيم رمزى ، على بك الكبير لاحمد شوقى ، فتح الاندلس لمصطفى كامل ، اللقاء المأنوس فى حرب البسوس لجرجس مرقص الرشيدى ، السموءل أو وفاء العرب لانطون الجميل ، الرشيد والبرامكة للأب انطون رباط ، حياة مهلهل بن ربيعة لمحمد عبد المطلب وعبد المعطى مرعى ، حياة امرئ القيس لشارل اليسوعى ، السلطان صلاح الدين ومملكة اورشليم لفرح انطون .
أما القائمة الثانية فتضم المسرحيات المستمدة من ألف ليلة وليلة والقصص الشعبى ونجد فيها :
" أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد لـمارون النقاش ، هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب لاحمد أبو خليل القبانى - هارون الرشيد مع أنس الـجليس لاحمد أبو خليل القبانى ، الامير محمود نجل شاه العجم لاحمد أبو خليل القبانى ، هارون الرشيد مع قوت القلوب وخليفة الصياد لمحمود واصف . . "
هذه نماذج من المسرحيات المستمدة من التاريخ العربى أو القصص الشعبى العربى وهى نماذج تتصل كلها بالمرحلة الاولى من نشأة المسرح العربى أى بين 1847 و 1914 فاذا حاولنا أن نجد نماذج أخرى بعد هذه الفترة فسوف نلتقى بالكثير من هذه النماذج مثل سليمان الحلبى لالفريد فرج والزير سالم لألفريد فرج أيضا ومثل مجنون ليلى لاحمد شوقى ، والعباسه لعزيز اباظة " والحاكم بأمر الله لباكثير ومأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور وغير ذلك من النماذج المسرحية المتعددة.
وسيظل التاريخ العربى باحداثه الضخمة العميقة مصدرا أساسيا من مصادر الالـهام المسرحى بالنسبة للفنان المسرحى العربى المعاصر ، ولذلك فسيظل هذا التاريخ عنصرا من عناصر الوحدة فى الحركة المسرحية العربية بالاضافة
الى ألف ليلة والقصص الشعبى العربى فهما أيضا مصدر من مصادر التوحيد بالنسبة للحركة المسرحية العربية ، خاصة وأن المسرحيات المستلهمة من التاريخ العربى تكون عادة مكتوبة باللغة العربية الفصحى وهى اللغة الاساسية فى الوطن كله .
المصدر الرابع من مصادر التوحيد فى الحركة المسرحية العربية هى أن المشاكل الاجتماعية والانسانية فى المجتمعات العربية تلتقى فى قدر كبير من التشابه مما يجعل المشاكل المثارة فى المجتمع المصرى مقبولة ومفهومة فى المجتمعات العربية الاخرى ، ومن هنا ظهرت جهود متعددة لتحويل المسرحيات المصرية المكتوبة باللهجة المصرية الى مسرحيات ناطقة باللهجات السورية والعراقية والسودانية وما الى ذلك ، واذكر على سبيل المثال أن سوريا قدمت مسرحية الزوبعة للكاتب المصرى محمود دياب باللهجة السورية . كما قدمت سوريا أيضا مسرحية " الناس اللى تحت " للكاتب المصرى نعمان عاشور باللهجة السورية أيضا .
على أن عناصر التوحيد الاربعة السابقة فى الحركة المسرحية العربية تلتقى وجها لوجه مع عناصر أخرى تفرض نوعا من التفرقة والتمزق فى الحركة المسرحية العربية .
فهناك أولا مشكلة اللهجات المحلية ، ونحن نواجه هذه المشكلة فى المسرح العربى وخاصة فى المسرحيات الاجتماعية ، فمعظم هذا النوع من المسرحيات يعتمد أساسا على اللهجات المحلية ، واذا كانت اللهجة المصرية حسنة الحظ ، بحيث أصبحت معروفة ومفهومة فى معظم انحاء الوطن العربى نتيجة لانتشار الاغانى والافلام المصرية على مستوى الوطن العربى ، فان اللهجات العربية الاخرى غير مفهومة الا على نطاق محلى محدود ولابد اذا اردنا نقل هذه المسرحيات من بيئة عربية الى بيئة أخرى من القيام بنوع من الترجمة والنقل من لهجة الى لهجة . ومشكلة اللهجات هذه غير موجودة بالطبع عندما تكون لغة الحوار المسرحى هى الفصحى ، والفصحى تستخدم عادة فى المسرحيات التاريخية وفى المسرح الشعرى والمسرحيات التى تعتمد على الحوار الفصيح لا نجد أى صعوبة فى الوصول الى الجماهير العربية فى كل مكان .
ولا علاج لمشكلة اللهجات العامية فى المسرح العربى الا بزيادة التقارب والامتزاج بين اجزاء الوطن العربى بحيث يتم فى المدى البعيد نوع من التقارب اللغوى والتعارف الوثيق بين أبناء البيئات العربية ولعل المستقبل يمكن أن يـحمل الينا بعض عناصر التقارب القوية فى اللهجات العربية نفسها . وعلى كل حال فلا بأس من وجهة النظر الفنية والاجتماعية من استخدام اللهجات
المحلية فى المسرح ما دامت هذه اللهجات تمثل عاملا مساعدا على التصوير الواقعى للحياة والانسان ، فالامة العربية انما تسعى فى نـهاية الامر الى الوحدة عن طريق التنوع الطبيعى ، واذا كنا نرفض التناقضات المصطنعة والحواجز المفتعلة بين اجزاء الوطن العربى فهناك ولا شك اختلافات مقبولة وطبيعية ولا بأس من بقائها لانـها تدخل فى نهاية الامر تحت عنوان التنوع لا تحت عنوان التناقض والتصادم والتضاد ومن هذا التنوع المقبول تنوع اللهجات العربية المختلفة ، على أن اللهجات المختلفة ليست وحدها هى التى تخلق الخلاف وتضع عناصر التفرقة بالنسبة للحركة المسرحية العربية فهناك عامل آخر ارادى هو ضعف الاتصال بين الحركات المسرحية العربية فى شتى البيئات فليس هناك أى تنظيمات فنية تتيح اللقاء المنتظم المؤثر بين الفرق المسرحية المختلفة ولعل المحاولة التى تقوم بها دمشق وهى المحاولة التى تتمثل فى مهرجان المسرح السنوى الذى بدأ منذ ثلاث سنوات ، وهو المهرجان الذى يشترك فيه عدد كبير من الفرق المسرحية العربية . . . لعل هذه المحاولة تكون الوحيدة من نوعها حتى الآن فى هذا المجال ولا بد من أن توجد حركة منظمة ودقيقة لتبادل الزيارات بين الفرق المسرحية العربية ولا بد من اقامة مؤتمرات مسرحية سنوية تنتقل من عاصمة عربية الى عاصمة أخرى ، ولا بد من تكوين تنظيم فنى مسؤول عن الربط بين الحركات المسرحية المختلفة فى انحاء الوطن العربى هناك عامل ثالث من عوامل التفرقة بين الحركات المسرحية العربية وهو اختلاف الثقافات التى تعتمد عليها تلك الحركات ، فبينما نجد لبنان متأثرا بالمسرح الفرنسى أشد التأثر نجد مصر متأثرة بانجلترا وامريكا وايطاليا ، ونجد الجزائر والمغرب متأثرين بالمسرح الفرنسى .
وهكذا ، فكل حركة مسرحية تستمد ايحاءاتـها فى هذه المرحلة بالذات من مصدر مختلف عن الآخر بعض الاختلاف ، وهذا العامل من عوامل التجزئة والتفرقة بين الحركات المسرحية العربية يمكن السيطرة عليه والاستفادة منه لو تم التعارف وتبادل التأثير بين الحركات المسرحية فى الوطن العربى ، وهو أمر معدوم أو شبه معدوم مما يجعل كثيرا من الحركات المسرحية العربية تعيش فى بيئات مغلقة على نفسها لا تتأثر بغيرها من الحركات العربية ولا تؤثر فيها .
وهناك اخيرا عامل آخر من عوامل التفرقة والتمزيق فى الحركة المسرحية العربية يتمثل فى تلك المحاولات التى تسعى الى تحويل المسرح الى خدمة بعض الاهداف القومية الاقليمية الضيقة ، وهنا أحب أن أقول انه لا غبار على تلك المحاولات الفنية التى سعت لاظهار الشخصيات المحلية وتقديـمها على المسرح ، مثل شخصية " كشكش بيه " العمدة المصرى الشهير الذى كان يمثله
نجيب الريحانى ، أو شخصية " بربرى مصر الوحيد " الذى كان يمثله على الكسار ، فهذه انماط من الشخصيات الصادقة الجذابة التى لا تـهدف الى الاساءة الى الشخصية العربية أو التناقض معها ، ولكن الذى اقصده هنا هو الحركات المسرحية التى تـهدف الى احياء نزعات اقليمية ضيقة مثل النزعة الفرعونية أو الفينيقية أو ما الى ذلك واحياء هذه النزعات فى حد ذاته ليس مرفوضا كمحاولة للبعث الحضارى ولكنه مرفوض تماما اذا اريد به خلق التناقض بين البيئات العربية المختلفة ، واذا أريد به القضاء على عناصر الوحدة فى الشخصية العربية وقد سرت فى مصر دعوة من هذا النوع ارتدت مرة ثوب الدعوة الى احياء الاساطير الفرعونية وارتدت مرة أخرى ثوب الدعوى الى الاستفادة من الاشكال الشعبية المصرية الشبيهة بالمسرح مثل خيال الظل والاراجوز والسامر.
وكما قلت ، فان هذه الدعوات كلها لا خطر منها اذا كان المقصود منها هو تدعيم الحركة المسرحية العربية بفتح آفاق جديدة واكتشاف منابع جديدة ، ولكن الخطر منها هو أن تتحول الى استغلال للمسرح حتى يكون اداة من أدوات الاقليمية المعادية لاى خط وحدوى عربى . وهذا النوع من الدعوات لم يتردد فقط فى مصر بل تردد أيضا فى لبنان وفى العراق وفى بعض اجزاء المغرب العربى .
ولعل خير ما نختم به هذه الدراسة الموجزة هو الدعوة الى انشاء مركز عربى للمسرح تابع للمنظمة العربية للثقافة عقلا محركا للحركة المسرحية العربية ، يكتشف ما فيها من عناصر التقارب والتفاعل ، ويبقى على مظاهر الاختلاف التى تدخل ضمن التنوع المطلوب فى الحضارة العربية ويوقف العوامل والعناصر التى تفرق الحركة المسرحية العربية وتحاول أن تخلق لها كيانات مستقلة ، على أن هذه القيادة المسرحية ينبغى لـها أن تتسلح بفكر متحرر حتى لا تسارع الى الضيق بالملامح الخاصة لكل حركة مسرحية فى كل بيئة ، فالملامح المحلية لا تتناقض أبدا مع الملامح القومية فى كل الظروف والاحوال ، ولابد لكل بيئة عربية أن تعبر عن نفسها وعن ظروفها وعن ملامحها الخاصة ، وهذه الاختلافات لا ضرر منها ولا خطر فيها طالما أنـها صادقة وأمينة ، ولكن الخطر هو أن نخفى هذه الاختلافات الطبيعية أو أن نفتعل دعوات اقليمية ضيقة نفرضها على الحركة المسرحية بقصد طعن الشخصية العربية ، أو أن نفتعل من جانب آخر دعوات تقضى على الملامح المحلية الصادقة بـحجة الدفاع عن الملامح القومية . ان الشخصية القومية لا تنفر من التنوع وانما تتعارض مع الافتعال والاجبار والفرض .
