الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

الوعي القومي والديني عند الشعراء الجزائريين، المهاجرين إلى تونس

Share

- 2 - ( * )

إحساس الشعراء الجزائريين المهاجرين بالارتباط بالعالم الاسلامى كان بالطبع أسبق من شعورهم بارتباطهم بالعالم العربى ، على أنه يجب التفريق بجلاء هنا بين شعور هؤلاء بروحهم القومية العربية الذى كان احدى السمات البارزة فى شعرهم منذ البداية ، وبين شعورهم السياسى بالانتماء مصيريا الى الاقطار العربية وهو ما بدا أكثر وضوحا فى شعر المتأخرين ممن ظهروا قبيل الثورة وبعدها .

فالنفس العربى كان ثابتا فى الشاعر الجزائرى وتطور فى شعره بتطور الاوضاع والقضايا العربية ، والاحداث التى تكثفت بصراع الامة العربية مع الاستعمار الغربى الصهيونية العالمية بصفة عامة . أما الطابع الاسلامى السياسى فقد ظهر متوهجا فى قصائد بعض الشعراء ثم لم يلبث

أن خبا يتوالى الخبيات التى أصابت العالم الاسلامى وأفول الدولة العثمانية التى كانت فى بعض الاحيان محط آمال بعض الشعراء العرب فى انقاذ الاوطان العربية والاسلامية من الغزوات الاستعمارية التى توالت تباعها منذ أواخر القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين ، فى حين أن جذوة الاسلام كعقيدة وحضارة ودين مكين ظلت فى شعراء الجزائريين المهاجرين علامة بارزة على الاعتزاز بهذا الدين ، والاخلاص لهذه العقيدة عملا وقولا ، ومعينا روحيا يستمد منه الشعراء القيم الخالدة ، والمثل العليا التى

تحاولون بعثها فى نفوس أبناء شعبهم فى الساعات الحالكة والمهولة ، التى حفت بالجزائريين فى كفاحهم لتشد من عزائم هؤلاء فى جهادهم الخالص لوجه الله والوطن .

ومن ثم فان هذا اللون من الشعر الدينى لم يواجه فقط حركات التبشير والتنصير ، ويحارب الطرقية والمشعوذين فحسب ، ولكنه كان عاملا هاما من عوامل التعبئة الى الجهاد والكفاح باعتبار أن ما شنته فرنسا على الجزائر كان فى بدئه ومنتهاه حربا صليبية .

ولعل أول شاعر جزائرى نراه يتبنى الدعوة من منطلق سياسي الى وحدة العالم الاسلامى . وايقاظ الشعوب الاسلامية ، واحياء الملة ، والغيرة على كل ما يمس الاقطار الاسلامية من مكروه هو ( عمر بن قدور ) (1) الذى يمكن اعتباره ظاهرة فريدة فى تاريخ الادب الجزائري ، سواء بمقالاته الفكرية الوطنية التى انبرى فيها باستمرار للدفاع عن الكيان الجزائرى وارتباطاته العربية ، أو فى شجره الذى كان يحمله نفثاته ومشاعره وخواطره وانفعالاته قصد خدمة الامة الاسلامية والاسهام فى انهاضها ، مما حمله على أن ينشر هذه القصائد بجريدة ( المشير ) بتونس في سنة 1911 ثم بجريدة ( الفاروق ) سنة 1913 التى أنشأها بالجزائر قصد مخاطبة أكثر ما يمكن من أبناء الامة الاسلامية .

ففى قصيدته ( دمعة على الملة ) يبكى الشاعر الامة الاسلامية قاطبة التى أضاعت طريق الرشاد بفعل أبنائها الذين توانوا عن النهوض بها ، وأسرفوا فى الكيد لها ، وضمن بكائه الامة يبكى بالطبع وطنه الجزائر من هذا المنطلق الاسلامي الفسيح ، باعتبار ان الجزائر كيان عربى اسلامى ، وأن هذا الكيان يتداعى بتداعى الملة :

أكيــــد الليالـــــــى بالسقـوط دهــاهــا      أم المجد من سوء الفعال قلاها ؟

تنكــــرت الافكـــــار فيهـــــا فعرفـــــت     فما رضخت فاندك طود رجاها

فكم عندها من ألف باغ ومسرف     يكيدونها كيد اللئام عداها

رموهـــا وما مســت يداهــا جنايــة        بفعل قبيح لا يصر عداها

وشدوا عليها فانثننت وتوشحت       بغبن الليالى وارتدت بعناها (1)

وبعد أن يصف الشاعر مكانة هذه الملة ، وفضلها على العالمين ، وما أتت به من المكرمات للشعوب المستضعفة ، وارساءها لتقاليد اعمال العقل والاقبال على العلم وسائر المثل التى جاء بها الرسول الهاشمى ، يتطرق الى الخبيات والانتكاسات التى عرفتها هذه الملة على يد الخائنين والغادرين من أبنائها الذين أضاعوا هذا المجد وتركوا شعوبهم فريسة للاحتلال والسقوط ثم لا يلبث أن يصرخ بقلب مؤلم موجع محاولا ايقاظ بنى هذه الملة منها اياهم الى هذا التراث الروحى والفكرى الذى ما يزال ناطقا فيهم علهم يثوبون الى رشادهم .

ألا يـــــــا بنـى السمحاء هـــلا شعرتـمـــو      بذى الذلة الكبرى وحر لظاها

جنيتـــــم فعــــــــوقبتم ، وخنتــــــــــم فأبتمــو       بها ضربة نجلاء حم قضاها

متى تفقهوا [ ! ] سر التقدم والنهى       متى تدفعوا [ ! ] شر المنون وداها

وفيكــــــم كتـــــاب اللــــــه لا زال ناطقـا         كما كان فى عهد الهدى بحجاها

ينــــاشدكــــــــم ان لا تكونــــــوا أذلـــــــة           وكونوا شدادا عند بغى عداها

وان ما كان يغيض الشاعر على وجه التحديد هو تقدم العالم بأسره ، ولا سيما الغرب وحفاظ على دينه ، واستلهام تراثه بينما بنو جلدته من

المسلمين تركوا دينهم واسلامهم فالتصقت بهم جميع ألوان التخلف والهوان :

نظــــرت الورى طــــــــرا تـحـروا رشـــادهــم        ولم أنظر الاسلام ينفك عن ست

عن الجهل ، والاحجام ، والبخل والنوى    وعن دولة الافاك والاكل فى السحت

وعــــــن بدعــــــة الاغضاء عن كــــل منكر        وكم أنب القرآن متبعى الجبت !

أيــــــا أمـــــــــة الاسلام هــــــــــــلا لصالـــــــــح           أفيضى أم الافضاء للغى والمقت ؟ (1)

ورغم اغضاء الامة عن الانتصاح بنصحه واشاحتها عن مواجهة واقعها ، فاننا لا نرى الشاعر عمر بن قدور ييأس من مخاطبة القوم وايقاظ الضمائر ، ضمائر بنى شعبه فى الجزائر وضمائر جميع المسلمين والعرب ، بل نراه يوجه الهمم الى أهم عامل تفتقر اليه نهضتهم وهو العلم الذى كسبه بعضهم واقتصر استثمارهم لهذا العلم على التسلق الى المناصب والحصول على المال حاثا بنى العرب والاسلام على الالتفات الى الماضى المجيد والاهتداء بهدى السلف الصالح من العرب والمسلمين عل الضمائر تفيق من غشيتها فيصدع الناس بقول الحق ، ويلتزمون العمل به .

انـــــــزع غشــــــاوات الضميــــــر تفيــــــق   واصدع بما يملى الضمير تفوق

واعــرف مـجـــــال العلـــم عنــــد حلوله   بضمير شهم للصلاح رفيق

واعلم بأن ضميرى ذى الوجدان ينقـــ   ـــذه اذا كان البلاء يحيق

من كان عار [ ! ] عن ضمير فانه     ولو حاز علم العالمين غريق (2)

ويضرب المثل الساطع لهذه القدوة من التاريخ الذى صنعه العرب والقيم التى تركوها ، ففيها كل ما يمكن أن يزيل الغشاوة وكل ما يمكن أن يملا النفوس والعقول والقلوب تطلعا وطموحا :

يا طالما بسطوا العدالة والنهى    اذ لم ير بين الانام شفيق

فرقيقهم عند الجلاد غليظهم    وغليظهم عند الوئام رقيق

أما قراهم بالنــــزيل فــــــرحبة        وقرى سواهم بالنزيل تضيق

وهواهمو للمكرمات يسوقهم    وهوى سواهم للفساد يسوق

وأولائك الآباء قدر قدرهم       ثم انظر الابناء ثم فروق

وان القارئ لبشعر بالمرارة ووخز الضمير وبالالم الحاد ، وبالاحزان المبرحة عند مطالعة هذا الشعر الذى كتبه عمر بن قدور ، لا من وحى ما كان يرى عليه العالم الاسلامى من انحطاط وهوان بأفول نجم الدولة العثمانية ، وضياع أمل المسلمين بضياعها فقط ، ولكن من وحى ما كانت عليه الجزائر خاصة المهددة فى قيمها الروحية وفى عقيدة ابنائها وفى المثل التى ورثتها عن الاسلام ، والتى تعتبر اهم دعامات كيانها الذى كان الاستعمار يعمل على دك أركانه .

وعندما كانت تتعدد الجراحات ويطغى الاسى ، لا يرى الشاعر مناصا من رفع عقيرته عاليا ، مخاطبا الشرق بأسره نافخا فيه روح العزيمة :

يا شرقنا انى أعيذك أن ترى        متغافلا عنهم فتسقط من عل

انى أعيذك أن يسود نفوذهم       وتساق حيلتهم عليك فتنطلى

وانهض فديتك واتخذ لك قوة      مقرونة بالسعى دون تمهل

ان القوى عند الشدائد تبتغى    بالحزم والتدبير ثم الصيقل (1)

ولعله بسبب تحمله هذه الدعوة ، وشعوره بهذه المسؤولية كان يميل فى قصائده الى الحكمة وضرب الامثال التاريخية ، كى يخفف اليأس والاسى عن نفسه ، وينير بهدى هذه الحكمة سبيل الرشاد لكل المسلمين عليهم يستلهمون منها ما كانوا بحاجة اليه من الحوافز والآمال :

ارجع الى التاريخ تفهم حكمة     تهدى اليك فصوله وتسوق ( 2 )

وبقدر ما كان ( عمر بن قدور ) صلبا عنيدا فى نثره الذى تناول فيه قضايا الجزائر الداخلية ، مواجها لاحداث بلاده مواجهة تتسم بالشجاعة والتنور ، ولا تخشى فى الحق صولة المستعمر ، ثراه فى شعره الاسلامى تغلب عليه مسحة المنكوب اليائس الذى يشعر انه ينفخ فى الرماد .

ان مراهنة الشاعر كانت ولا شك رابحة بشأن وطنه الذى أمل ذات يوم

ان يتحرر ، وكان من طليعة المثقفين الذين وعوا أبعاد القضية الوطنية ولم

يبخلوا على بلادهم بكل ما قدروا على تقديمه بما فى ذلك الابعاد ( 1 ) والنفى والعذاب النفسى والجسدى ، كما أن أفكاره اليائسة التى ضمنها شعره عن سوء مصير العالم الاسلامى آنذاك كانت صائبة الى حد كبير ، اذ أن أمته الاسلامية أبت أن تنضو عنها رداء الجهل والغفلة ، وأبت أن ترى فى دينها هدى لها ولغيرها .

وما اختيار الشاعر لان ينشر هذه القصائد المبكرة بصحف تونس أولا ، ثم الجزائر أخيرا الا لان الظروف لم تكن تسنح بنشر هذا الشعر بالجزائر ثم لان الصحف التونسية كانت فى الغالب تعبر الحدود التونسية الى الجزائر وإلى اقطار عربية والاسلامية أخرى ، آثر أن تستمع جميعا الى تفجعاته وأصداء نفسه ، وأن يبلغها صوت هذا الشاعر والمعلم الجزائرى ، الذى كان يعبر بلسان وطنه الجزائرى عن تطلعات كل الجزائريين الى التلاحم مع كفاح ونضال أشقائهم فى المشرق والمغرب وعلى مدى العالم الاسلامى . وما من شك فى أن ( عمر بن قدور ) كان يعتبر الصوت المنفرد ( 2 ) الذى وسع بدعوته العالم الاسلامى جميعه ، على خلاف غيره من الشعراء الذين نشروا شعرهم بتونس فى العشرينات وبعدها ، والذين صرفوا النظر عن تبنى هذه الدعوة ، واقتصروا فى شعرهم الاسلامى على معالجة مسألتين اثنتين : أولاهما محاربة الطرقية والبدع والشعوذة التى انتشرت فى أنحاء الجزائر بتشجيع من المستعمر لتخدير الناس والهائهم عن جوهر الدين وقيمه الصميمة ، وثانيتهما الالحاح والتركيز على تجذير صلة الكيان الجزائرى بالاسلام وهى مسألة يعتبرها الكثيرون قضية بديهية فلا تثار الا فى المناسبات الدينية أو عند الحديث عن الوطن وتذكير القوم بأن الشعب الجزائرى شعب مسلم له تراثه الحضارى الاسلامى فى القرآن والسنة ومآثر الاسلام الخالدة .

اشترك في نشرتنا البريدية