تونس فى القلب :
أجل تونس فى القلب ، كانت ، ولا زالت ، وستبقى كذلك ، بالنسبة لكاتب هذه المقالة . ولذلك قصة طويلة نقصها ففيها توضيح لهذه المقدمة .
تونس معي منذ خمسين عاما . كنت طالبا فى السنة الثانية من المرحلة الابتدائية عندما سمعت باسمها ، وعندما رأيت مكانها على خارطة الوطن العربى ، وشهدت أحد أبطال العرب ممن يرتبط اسمه باسمها ، ينطلق فى مسرحية صغيرة منها ، ليفتح بلاد المغرب العربى ، وينشر فيها الاسلام ، ولغة القرآن ، ثم يقف على البحر المحيط ليقول : والله لولا هذا البحر لمضيت مجاهدا فى سبيل الله .
كنا ندرس فى ذلك العام أبطالا من التاريخ العربى وكان عقبة بن نافع بينهم وكان استاذنا أيامئذ شغوفا بالتاريخ ، وأصيلا فى تدريسه لنا ، فقد كان يقدم مادة الدرس فى صورة مسرحية : وهكذا شهدت أولا هذا البطل العظيم يفتح الممالك ويدوخ الروم والبربر ، ثم يقف على شاطئ بحر الظلمات ويقول جملته المشهورة تلك .
وأكمل أستاذنا - رحمه الله - الدرس ، فشرح لنا بقية ما يعرف عن قصة حياة عقبة : عن تقاه ، وجهاده ، وايمانه ، ثم أتى بخارطة افريقية فأرانا تونس ، ثم سار باتجاه الغرب يرسم لنا عليها الطريق الذي اتبعه المجاهد نشرا لدين الله . وهكذا سمعت لاول مرة باسم عقبة وتونس والقيروان . والجزائر والمغرب ، وبحر الظلمات ، وكان فى جملة حديث معلمنا أن تونس تلقب بالخضراء ، لانها بلد الشجرة المباركة الدائمة الخضرة التى كانت
اشجارها تحيط ببلدتنا فى ذلكم الجزء الشمالى من سورية العربية ، وأعني بها شجرة الزيتون .
وتمنيت لو أتيح لى ذات يوم زيارتها ، وتعرف ملامحها . ومرت سنوات خمس ، وكان برنامج السنة الثالثة الثانوية ( فى عام 1942 ) يتضمن دراسة تاريخ العرب والاسلام بشكل مفصل . . ومن جديد درسنا التاريخ الأموي ، ودرسنا جهاد عقبة بن نافع وفتوحاته ، واطلنا من ثم على تونس فدرسناها بشئ من التفصيل فى مادة الجغرافيا ، حين تعرفناها من جميع النواحى الطبيعية والبشرية والتاريخية والاقتصادية . وازداد القلب تعلقا بتونس ، وترسخ العلم فى أعماق النفس ، وكنا فى شبابنا تتمنى لو أتيحت لنا زيارة هذا القطر الشقيق .
وفى الجامعة ، أتممنا دراسة معمقة ومفصلة للتاريخ العربى قبل الاسلام وبعده ، وهكذا سمعنا فى مدرجات كليات الآداب بجامعة دمشق الشئ الكثير عن تونس وقرأنا الشئ الكثير عن جهاد بطلها عقبة بن نافع ، وأضفنا الى ذلك كله معرفة بمدينة القيروان ، وخاصة عند دراستنا المفصلة ( للعمدة ) كتاب أديبها وناقدها الكبير ( ابن رشيق ) ، وهو المؤلف الهام الذى يؤلف حلقة ممتازة فى سلسلة كتب النقد العربى القديم . ومرة ثالثة ازددنا تعلقا بتونس وترسخ فى أعماق القلب والنفس ذلكم الحلم الذى صنعته طفولتنا عن ذلكم البلد الجميل .
وكانت الرابعة عندما تتبعنا فى الخمسينات أنباء نضال أبناء تونس ، بقيادة المجاهد الاكبر ، ضد الاستعمار الفرنسى ، طلبا للحرية والاستقلال ، ذلكم النضال الذى استمر طوال عهد الحماية ، وتوج بالسنوات الاخيرة بالعنف والشدة والمثابرة ، مما اضطر المستعمر الى النزول عند ارادة الشعب التونسى المناضل ، والى حمل عصاه ، والرحيل تاركا البلد ينعم بالاستقلال للمرة الاولى منذ مدة طويلة . وبتقدم وبتطور فى معارج الرقي ولينهض نهضة نمت فى ميادين مختلفة أهمها : الميدن الثقافى والتعليمى ، وما صحبه من احياء للثراث ، وتعريب لكافة المرافق والسير بخطى واثقة فى طريق الحضارة
وكانت الخامسة حالة خاصة : فعندما بدأت أعد دراستى العالية عن ( آثار مدينة حلب ) كان فى جملة ما قرأت كتاب الدكتور أحمد فكرى عن ( المسجد
الجامع بالقيروان ) وهو كتاب ممتاز أعد أطروحة للدكتوراه فى عام 1933 ، فجاء بحثا ممتازا عن هذا الأثر العظيم ، مزينا بالصور ، وموثقا بالمصادر والمخططات ، ومبينا خاصة مكانة هذا المسجد فى تاريخ العمارة العربية الاسلامية
ذلك كله كان اسبابا قربتى من تونس ، وقربت تونس مني ، وجعلتنى أتمنى زيارة هذا القطر الشقيق ، ورؤيه معالمه وآثاره ، وخاصة مسجد عقبة هذا الذى أصبح كل ما فيه محفورا فى الذاكرة ، طالبا الانتقال من دنيا الحلم الى دنيا الحقيقة والواقع لذلك كان حرصى كبيرا على الأسهام فى الندوة العالمية لألفية الطبيب العربى ابن الجزار ، وكانت سعادتى كبيرة منذ استطعت كتابة بحثين عنه ، تناول أولهما مصادر دراسته ، والثانى مكانته فى تاريخ الطب العربى ، وكنت ازداد سعادة كلما اقترب موعد الندوة ، ممنيا النفس بأيام سعيدة نقضيها فى تونس الشقيقة محققين حلما طالما تمنيناه منذ سنوات طفولتنا الاولى .
والحلم يتحقق
وهكذا ركبنا الطائرة ظهر اليوم الحادى عشر من شهر أفريل من عام 1984 يحدونا الامل فى اتمام ما كنا عولنا عليه ، ويزيدنا سعادة معرفتنا بمن سنلقى من أصدقاء ، وبمن سنتعرف اليهم من علماء .
وحط ركبنا الطائر ، فى مطار تونس - قرطاج فى يوم ربيعى جميل ، وأطلنا على تونس العاصمة تغمرها شمس الاصيل بأشعتها الدافئة الحلوة ، ودخلنا أرضها الطيبة لنلتقى فيها بالاصدقاء وعلى رأسهم الدكتور محمد السويسى ، ومعه مندوب وزارة الشؤون الثقافية .
وهكذا تحقق الحلم الذى عايشناه خمسين عاما ووجدنا أنفسنا أخيرا على الارض المباركة الشقيقة ننعم فيها ونسعد بما شهدنا من معالم وبما لقينا من كرم ضيافة ، ثم بما أفدنا من أبحاث الندوة العتيدة .
فى القيروان :
وكان اليوم الاول من أيام ملتقى ابن الجزار يتضمن زيارة مدينة هذا الطبيب الكبير : جولة فى معالمها ، وغداء بدعوة من السيد الوالى ، وحفل افتتاح . وكان يوما سعيدا جدا . الطبيعة فية سمحاء ممراحة ، والجو
جميل لطيف ، وها هى ذى القيروان تقدم مفاتنها وآثارها وكرم ضيافتها وحفلا ممتازا للافتتاح . وكان كل ما فى اليوم بهيجا : زيارة دار الولاية المبنية على الطراز العربى وحديث الوالى ولطفه وايناسه ، والغداء السخي وما فيه من أطايب ، والحفل الذى تضمن كلمات ممتازة زينها السيد البشير بن سلامه وزير الشؤون الثقافية بحضوره ، وكلمته الممتازة فكرا وأسلوبا وتعبيرا عن الفخر بماض تليد مجيد ، وتطلع لغد نأمل جميعا أن يكون لائقا بذلك الماضى .
نخلل ذلك كله جوله اثرية سعدنا فيها برؤية معالم القيروان : سورها ، أسواقها ، ومساجدها ، وخاصة المسجد الجامع الاعظم ، ومقام الصحابى أبى زمعة البلوي . . كان كل شئ جميلا وكان أجمل ما رأيت مسجد عقبة العظيم بفخامته ووقاره ، ووقوفه صامدا فى وجه القرون طودا شامخا من جمال وجلال .
وامتلأ القلب سعادة ، وافعمت النفس حبورا ، وبالاحلام التى عمرها خمسون عاما ما أبهجها ! وما أزهاها ! وما أروعها حين تتحقق ! ! ولقد كانت الحقيقة أجمل من الحلم ، والواقع أروع من الصورة الذهنية ، وطارت بنا السعادة الى السماء بألف جناح ، وأخذنا نرسم فى الذهن منذ ذلك الوقت صورة المقال الذى سنحرره عن المسجد الجامع الاعظم ( * ) بالقيروان ، مزودا بدراسة تاريخية أثرية معززة بالصور والمخططات ، وموثقة بالمصادر المعتمدة .
مجريات الندوة :
وخصصت الايام الثلاثة التالية لجلسات الندوة التى قدم فيها أربعون بحثا تناولت الجوانب المختلفة لحياة ابن الجزار وعصره وعبقريته وآثاره المخطوطة والمطبوعة ومكانته الهامة التى يحتلها فى تاريخ الحضارة العربية والانسانية ، وهو موضوع بحث كاتب هذا المقال المقدم الى الندوة تبيافا لمكانة هذا الطبيب العربى الكبير ، والمؤلف الغزير الانتاج ، والذى تناولت الآثار التى خلفها جوانب كثيرة من الحضارة العربية الاسلامية فى القرنين الرابع والخامس الهجريين ( العاشر والحادى عشر الميلاديين ) واللذين يؤلفان الفترة الأزهى من فترات حضارتنا العربية الزاهرة . ولم يكن ابن الجزار
طبيبا ، ومؤلفا ومؤرخا ، وصيدلانيا ، وأديبا فحسب ، بل كان قبل كل شئ الانسان العفيف ، الطب ، المترفع عن الدنايا ، والذى يعامل مرضاه معاملة ممتازة تذكر بما تتطلبه أخلاق الطبيب فى هذا القرن العشرين من تاريخ البشرية
خاتمة :
خلاصة القول : إن الأيام الخمسة التى قضيناها فى تونس الشقيقه قد جاءت تحقيقا لحلم رافقنا منذ وعينا ذاتنا الثقافية ، واذا ما كان ذلك الحلم عظيما لاتصاله ببلد شقيق جميل زاهى التاريخ فان ما رأيناه فى الواقع خلال زيارتنا لمدينتى تونس والقيروان يشهد على استمرار الماضى التليد فى الحاضر المجيد وعلى ان مستقبل هذه الامة العربية العظيمة التى نعتز بالانتساب اليها سيكون رائعا ، ملائما ، لذلكم الماضى وما فيه من إسهام العرب العظيم فى تاريخ الانسان ومسيرته الحضارية الثقافية .
