1 - الخطوط العريضة :
" وتقهقه الستون خلفي . والغليل هو الغليل . " (1)
كان هذا البيت واحدا من أبيات القصيدة التى أنشدتها منذ أيام في ملتقى الشعر الفلسطيني في بيروت . كان عنوان القصيدة : من أين ابدأ ؟ وأرانى أعيد السؤال الآن وأنا أمسك بالقلم لاسجل تجربتى الشعرية .. لأوجزها فى صفحات معدودة . ولكن : من أين أبدأ ؟
البداية والنهاية في الواقع - هو هذا " الغليل " الذي ما زال يأكل الريشة كما أكل العمر .. والذى ما زلت أحسه لافحا ، عميقا ، لا يهدأ ولا يستريح . انه هم الشعر ،، وهم العمر ،، وقد تركت أعوامي الستين تقهقه خلفي كما قلت منذ قليل .
فى المجموعة الكاملة التى حملت عنوان " شعر سليمان العيسى " والتي صدرت منذ أمد قريب عن " دار الشورى " فى بيروت .. يجد القارىء مقدمة مكثفة ، اوجزت فيها - او حاولت ان اوجز - ملامح هذه التجربة تحت عنوان " قطرات ضوء على الطريق " . . واعود الى هذه المقدمة المكثقة ، الى هذه القطرات الآن لاجدها تومئ ايماء ، وتكتفى بالاشارة . وتبقى نقاطا وزوايا عديدة تحتاج الى الاضاءة . ولكنى مع ذلك ساقتطف منها جراح الامة وجراح القصيدة التى عانيتها منذ فتحت عينى على الحياة .
تقول المقدمة :
- الشعر نبض الحياة العميق .. قمة كفاح الانسانية .
- حين قدر للكلمة ان تحمل جناحين أخذ الانسان يحقق معناه بدأ تاريخه الجميل .
- اني لا استطيع أن أتصور انسانية بلا شعر . ولكنى - مع هذا - لست شاعرا . أنا خلية فى جسد .. تبحث عن ملايين الخلايا من أخواتها وتكافح بلا هوادة ، لكى يتحرك الجسد ، وتتفتح الحياة .
- وجسدى هو أمتى . هذه الامة العربية العظيمة ، المنكوبة ، الممزقة التى مدت جسور الحضارة بيني وبين العالم منذ وجد العالم ، وكانت الحضارات .
- من هنا .. تبدأ قصة الشعر فى حياتي .. وهنا ستنتهي . والشريط الذى سيعرضه ديوان سليمان العيسى على القارىء ليس الا حلما رائعا يقاتل ليتحقق .
- كل منجزات التاريخ العظيمة كانت فى يوم من الايام احلاما عظيمة . من هذه القناعة انطلقت ، وما زلت مصرا على قناعتي واحلامي الصلبة .
- الحلم هو الصحة . والواقع الذي من حولى هو المرض . والمرض طارئ مهما طال ومهما استشرى . والصحة هى الهدف . والكفاح من أجل هذا الهدف هو شرط وجودنا ، ولا بد للشعر ان يمتلك هذا الشرط ليكون شعرا فى رأيي .
- لا احب كلمة ملتزم ، ولا كلمة التزام ، لانى ارى التعبير مصطنعا مهما اجيدت صياغته . قلت اكثر من مرة : ان الانسان لا يلتزم لون عينيه ولا تنفسه الطبيعي ، ولا جلده الذى يعيش به . هذه الاشياء هي طبيعته ، هي وجوده . فلماذا نصر على ان نفتعل لها التسميات ؟ .
- انا جزء من أمتى . ونحن جزء من الانسانية . ولا سيما المقهورة المعذبة منها . لا يجادل في هذا عاقل . ولكن الانسانية - ولا سيما المقهورة المعذبة منها - تريدني ان اكون صادقا معها ، تريدني ان اتنفس برئتى ، وأحس بأعصابي وادافع عن وجودى المهدد .. عن
انسانيتى . وعندئذ .. سألتقى الانسانية كلها ، وأحيا فيها ، وتحيا فى .
- كانت الجماهير العربية - وما تزال - قصيدتي الاولى . اعطتني اكثر مما اعطيتها . كانت جماهير من الكبار ، اضيفت اليها مؤخرا جماهير الاطفال .. كما تعرفون .
- العروبة التى غنيتها - وما زلت - نسيج حضارى هائل .. تشابكت فيه ملايين الاصول والفروع لتعطي الانسان اكرم ما اعطاه شعب على وجه الارض :
وابعد نحن من عبس ومن مضر .. نعم ابعد
حمورابى ، وهاني بعل بعض عطائنا الاخلد
ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا احمد
ومنا الناس - يعرفها الجميع - تعلموا ابجد
وكنا دائما نعطى وكنا دائما نجحد
- قديما قال اجدادنا : الشعر ديوان العرب . اما انا فلن اتجاوز الحقيقة إذا قلت : الشعر كهرباء العرب . من تجربتى الشخصية بين المحيط والخليج ، وصنعاء واسكندرونة اخذت العبارة ، قل : عشتها رعشة رعشة .
- التجربة هي الينبوع الذي يسقي الابداع . كيف تخضر شجرة بلا ماء ؟
- مهمة الكلمة أن تتحول الى طاقة . الى فعل . ان الكلمة ليست مجرد شكل لفظى ، يتألف من حروف وايقاعات صوتية . انها جزء لا يتجزأ من وجودنا ، من حقيقتنا ، من سلوكنا اليومي . واذا لم تحمل رصيدا من هذه الحقيقة ظلت شيئا يدور فى الفراغ ، ولا يترك اى اثر بايجاز الكلمة هي الانسان .
تلك هى بعض النقاط التى وردت في مقدمة مجموعتى الشعرية الكاملة كما ذكرت .
والآن .. لا بد ان اضئ هذه النقاط بقدر ما تسمح به الصفحات التى حددتها هذه الدراسة .
ولابدأ بينابيع التجربة .. بالعوامل التى كونت ثقافتى الاولى .. لاعد الى الطفولة .. ففي الطفولة تكمن اسرار الحياة كلها ، اسرار الشخصية وما تعطي الشخصية - ايا كان عطاؤها - على امتداد العمر كما يقول علماء النفس .
مع الينابيع :
فى قرية صغيرة اسمها النعيرية ، بل فى حارة منها تحمل اسم "بساتين العاصي " فتحت عيني على الحياة عام 1921 . قرية خضراء . . يمر بها نهر العاصي غير بعيد من بيتنا . تقع على بعد عشرين كيلومترا الى الغرب من مدينة انطاكية التاريخية فى لواء الاسكندرية الذى اقتطعه الحلفاء من جسد أمة سورية وقدموه هدية للجارة تركيا فى مطلع الحرب العالمية الثانية .
فى " بساتين العاصى " التى لا تتجاوز بيوتها العشرين يقطن مجموعة من الفلاحين يملك بعضهم قطعة ارض او قطعتين من الارض . ويعمل بعضهم " مرابعا " عند " الاغا " كانت نقطة صغيرة مضيئة تشع فى ظلام ذلك الريف الامي البائس هو " الكتاب " الذي قضى والدى الشيخ احمد العيسى حياته يعلم فيه كان " الكتاب " اول الامر غرفة منفردة تقوم على أطراف القرية .. ثم انتقل بعد ذلك ليصبح البيت الذى نسكنه نفسه . ولم يكن والدى الا واحدا من هؤلاء الفلاحين الذين يملكون بضع قطع صغيرة من الارض يحرثها ويزرعها بنفسه . كنت فى السادسة او السابعة - لا اذكر - عندما دخلت الكتاب " وكان والدى الشيخ أحمد - رحمه الله - أستاذى الاول ، بل استاذ القرية كلها ، والقرى المجاورة .
لم يكن في قريتنا مدرسة . بل لم يكن في الريف كله مدرسة واحدة فى تلك الايام . المدرسة الابتدائية الوحيدة كانت فى المدينة .
فى " كتاب " الشيخ أحمد ، اعنى فى بيتنا ، حفظت القرآن عن ظهر قلب لاني كنت اساعد والدى فى مذاكرة التلامذة . فكانت السورة الواحدة من صور القرآن تعاد امامي عشرين الى ثلاثين مرة فلا عجب ان ترسخ في الذاكرة آياتها ، وان ترسخ معها بنية العربية واسسها المتينة فى اعماق الطفل الصغير ابن السادسة ، والسابعة .
وفي الكتاب " أتقنت الخط ، وتعلمت عمليات الحساب الاربع ، وحفظت الجزء الثاني من مبادئ العربية فى الصرف والنحو للمعلم المرحوم رشيد الشرتونى . ورحت أستظهر عشرات القصائد من الشعر العربى قديمه وحديثه .. من المعلقات .. الى شعراء العصر العباسي الى شوقي وحافظ وخليل مطران والرصافى والزهاوى وبدوى الجبل .
كانت مجلة العرفان التى تصدر فى صيدا ، ومجلة الهلال المعروفة من بين المجلات القليلة النادرة التى كانت تصل الى قريتنا . كان الشيخ احمد يبذل قصارى جهده ، ومعظم ما يدخره من نقود زهيدة ليأتى ببعض اعداد هاتين المجلتين من المدينة . وما يكاد العدد من اية مجلة كانت يصل الى البيت حتى نلتهمه التهاما فلا نترك فيه كلمة الا قرأناها واعدنا قراءتها ، وحفظنا ما فيه من شعر عن ظهر قلب .
كنت أحب الشعر ، وكيف لا أحبه ، وابي شاعر ، ينظم قصائده ، ويكتبها بخط جميل ، ثم يغنيها مساء عندما تجتمع الاسرة على موقد النار ؟ ولطالما اجتمع عندنا فلاحو القرية ، وأنشدهم والدى قصائده انشادا بصوته الرخيم .
كان ديوان المتنبى ، هذا الشاعر العربى الكبير ، رفيق طفولتى . اقرؤه على ابى ، واستظهر كل يوم قصيدة ، او جزءا من قصيدة منه ، ثم اغنى ما احفظ بصوت حلو رقيق :
أرق على أرق ، ومثلي يارق
وجوى يزيد ، وعبرة تترقرق
ولم اكن ادرك معنى هذه الكلمات : الارق ، الجوى العبرة التى تترقرق ، ولكنى كنت أحس احساسا غامضا انى احفظ شيئا جميلا جدا ، وان الامة التى ابدعت مثل هذا البيان الرائع لا بد ان تكون امة رائعة .
ولكن مالي امر على هذه الذكريات من دون شواهد ؟ ! لقد سجلت طفولتي شعرا للاطفال فى مسلسل شعري بعنوان : ( احكى لكم طفولتى يا صغار ) نشرته ( دائرة ثقافة الاطفال ) فى بغداد منذ اعوام ونحن الآن بصدد اخراجه ملحنا على شاشة التلفاز فلماذا لا اقتطف منه بعض المقاطع الشعرية التى تتحدث عن تلك المرحلة من حياتي ؟ .
بيتنا
بيتي سقف من قرميد أحمر مثل جناح العيد
مثل الاحلام الورديه فى رأس الاطفال
مثل اناشيد الحرية يكتبها الابطال
فيه ولدت مع العصفور
طفلا ملهوفا للنور أبحث عن قلم ونشيد
حلو . . يجهله العصفور بيت من حجر بالطين
عمرناه بعد عذاب ما زالت ضيعتنا الحلوه
ما زالت صورته الحلوه فى ذاكرتى خلف ضباب
تخفى صورته وتبين
أبى :
فى الحارة الصغيره فى بيتنا القرميد
عاش ابي يكافح الايام يا صغار كان وديعا كنسيم الصيف ، كالاشعار
يعلم الصغار والكبار فى بيتنا يعلم القرآن
والصرف والنحو وحسن الخط والبيان
شيخ يحب الناس مبصرين يقاتل الظلام بالحرف الذي يبين
وانا فى الدار تعلمت استاذى الرائع كان ابي
جودت على يده القرآن وحفظت ، حفظت عن العرب
قصصا ، وقصائد كاللهب استاذى الرائع كان أبى
أمي :
حلوة الطلعة كانت تغمر الضيعة حبا
لم تكن تقرأ او تكتب كان العلم صعبا
عوضتنا عنه قلبا يسع الدنيا ... محبا
هذه أمي الحنون جادها الغيث الهتون
نضر الله ثراها ، وسقاها أطيب الرحمة والذكرى سقاها
ابنة الريف التى لا تتعب تسجر التنور ، تطهو ، تحطب
عندما كانت ترانانا نتعلم تبرق الدنيا بعينيها سرورا
تملأ البيت حبورا وتضم الورقات
في خشوع ، والدواة حرمتها نعمة النور الحياة
حرمتها نعمة العلم الحياة واذا حل الظلام
هدهدتنا كي تنام بأغانيها الحزينه
آه ..كم كانت حزينه هدهدات النوم في فصل الشتاء
عندما يلتف . بالصمت المساء وينام المتبعون
أهلنا المنسحقون خلف أسوار الظلام
آه ... يا طير الحمام
وفي التاسعة او العاشرة - لا أذكر ايضا بدأت كتابة اولى قصائدى ، تحت أشحار التوت والتين فى حارة بساتين العاصي ، وعلى ضفاف نهر العاصي ، جارى ورفيقى الذى لا أنساه .
وكانت قصائد الطفولة الاولى تتحدث عن هموم الفلاحين وبؤسهم ، وكفاحهم فى سبيل اللقمة . كانت تحمل بذور الثورة على هذا الشقاء الذى لا يعرف أحد كيف حل بهؤلاء المساكين ، ولا يجرؤ أحد على أن يناقش أسبابه ( 2 ) . كان الطفل الشاعر يهتف ببراءة وهو دون العاشرة :
الا أيها الفقراء موتوا لكم فى جنة الفردوس قوت
لقد بينت لكم - ثم - البيوت وكوثركم بها يجرى شهيا
وفي دفتر صغير جمعت قصائد الطفولة مكتوبة بقلم القصب ، بخط يدى ، وبيدى جلدت الدفتر بقطعة من القماش الازرق ، وما زال أحد رفاق الطفولة في القرية يحتفظ به حتى الآن ذكرى يضن بها حتى على صاحبها .. كاتب هذه السطور :
صغيرا كنت حين بدأت أكتب اكتب الكلمة
منغمة ملحنة .. تكاد تغرد الكلمه
تطير تطير كالعصفور فوق الدفتر الكلمه
كتبت قصائدى الاولى بظل التوت والتين
من العاصي ، من الاشجار ، من صوت الحساسين
ومن موال فلاح يغنى فى البساتين
سرقت النغمة الاولى بدأت بها تلاوينى ( 3 )
وبعد كفاح طويل حئت المدينة ، ودخلت المدرسة الابتدائية ، فى الصف الرابع :
" وفي حفاوة بالغة أمسك المدير المهيب الطلعة بيد القروى الصغير ، وقاده الى منبر الصف ، وقال للتلاميذ ، وعيونهم عالقة بالوافد الجديد الذي يحمل دفترا أزرق صغيرا فى يده :
هذا رفيقكم ، جاء من القرية ليدرس عندنا ، انه شاعر ، يحمل ديوانه الصغير وسوف يسمعنا بعض "أغاريده" الآن .
سر الصغير سرورا عميقا بهذا التقديم الذى لا يظفر به تلميذ غيره ، وأعجبته كلمة وعدها تكريما له ، وتقديرا لشاعريته من هذا الرجل المهيب الذى يسمونه المدير . ومن دون أن يفتح دفتره ، راح يقرأ شعره بصوت عال ، ونبرة واثقة .
فى صباح اليوم التالي كان النبأ قد انتشر فى المدينة كلها أن شاعرا صغيرا من القرية قد دخل البارحة المدرسة ، والقى فيها شعرا ، وادهش الاساتذة والتلاميذ بجرأته ولغته الجميلة المتينة . ( 4 ) "
وفى نادى العروبة ، فى مدينة انطاكية ، القيت مساء اليوم التالي مقاطع من شعرى ، كان مقر الثورة التى أخذت نارها تسرى فى المدينة والريف حين أحس عرب لواء الاسكندرونة ان بلدهم الصغير مهدد بالاغتصاب . ومنذ تلك الامسية بدأت اعرف الجمهور ويعرفني ، وأحمل اليه كل كلمة اكتبها ، والقيها على الناس ،
وتوالت قصائد الشاعر الصغير فى المدرسة ، وفي الشارع ، وفى نادى العروبة ، وفى المظاهرات الوطنية الصاخبة وهو ما يزال فى السنة الخامسة والسادسة من المرحلة الابتدائية . لقد حملت معنى تجربتى الشعرية من القرية ولكنها سرعان ما تحولت الى تجربة قومية فى شوارع انطاكية ، وبين جماهيرها العربية الثائرة .
ومن رفاقى الكبار تعلمت ان وطننا العربى ..كبير..كبير .. ولكنه مجزأ ، ممزق ، يرزح كله تحت الاحتلال والاستعمار الاجنبى .
انه يمتد من بغداد الى تطوان ، كما يقول النشيد الذى كنت اسمعه كل يوم وانشده مع رفاقى فى كل مناسبة :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان ( 5 )
ومنذ تلك الفترة .. وقفت حياتى وشعري على الحلم العظيم الذي قاتل من أجله المقاتلون ، وسقط من أجله الشهداء على امتداد الساحة العربية ، حلم الوطن العربي الواحد ، والامة العربية الواحدة .
أخمدت ثورة اللواء بعد عامين من اشتعالها فى المدينة والريف ، واغتصب مهد الشاعر الاول . وتركت مدينتى وقريتى الصغيرة ، وانتقلت مع عشرات من رفاقى الطلاب الى سورية ، الى مدن عربية اخرى ما تزال تقاتل وتناضل . وقررنا ان نواصل الكفاح على الارض العربية بحثا عن وطننا الضائع الكبير . رفضنا ان نسمى ذلك هجرة .. لان الانسان لا يهاجر فى ارض آبائه واجداده . انه ينتقل فيها من جبهة الى جبهة ، ومن خندق الى خندق ، ويواصل المعركة فى سبيل الهدف النبيل العظيم . قررنا ان نكون رسل العروبة ، رسل الوحدة فى كل مكان . تركنا أهلنا وذوى قربانا وراءنا وانطلقنا فى هذه الدنيا العربية متشبثين بحلمنا الضخم : بعث الامة العربية قوية ، حرة موحدة ، بعد عصور طويلة من الركود ، والجمود ، والضياع :
مازلت أذكرها فى الشام قافلة
من الجياع ، ومازال الرفاق هم
ناموا على الارض ، أرض الشعب ، فامتزجت
بلحمهم ثورة فى الشعب تحتدم
وعضنا الجوع . . فاقتتنا ببسمتنا
وهدنا البرد .. لم ترعش بنا قدم
هذى الصخور سلكناها على ثقة
انا عليها - ولم نندم - سننحطم
للمعول الصلد عهد فى سواعدنا
أن لا يرد ، وفي ساحاتنا " صنم " ( 6 )
3 - تجربتى الشعرية تجربة قومية :
من العروبة ينبع شعري .. وفى العروبة يصب .
واذا لم انطلق من هذه المقولة فلن استطيع ان اتحدث بشئ عن هذا النتاج الذي سميته شعري :
أنا فى أعماق قومى صرخة تتشظى لا قصيد يقرأ
حسب لحن ينتهى فى وترى أنه فى صدر غيرى يبدأ (7)
الشعر القومى الذى يلقى بظلاله وألوانه على كل ما فى الوجود من حولى ، على كل ما يمر بي في الحياة .. الحزن ، الفرح ، الحب ، الطبيعة ، المرأة ، الوطن ، الاطفال الناس ، الثورة ، الاشتراكية ، الاصدقاء ، الخصوم ، الى آخر ما يعرض للشاعر فى هذا الشريط الذي نسميه العمر .. هذا الشعر القومى هو السمة الاولى لنتاجى هو الطابع المميز لكل ما قلت وما سأقول . هو النهر الذى تتفرع منه كل السواقى ، لتصب فيه ، كما ذكرت منذ قليل .
وتسألنى ..
وظل الصمت يرهقني
يشد على ، يسحقني
والف يد تمزقنى
لماذا لا يرف الورد فى بستانك الشاعر ؟
لماذا لا يضىء ظلام دربك مبسم ساحر ؟
أما من واحة خضراء تغوى المرهق المجهد ؟
أما من خمرة ، غير التى فى الكأس ، ان انشد ؟
بلى .. يا طفلتي الحلوه
لكل سلافة نشوة
وأجمل من مآسيا
حياتك بسمة ريا
وأحلى من أعاصيري
شعاع نصف مخمور
يصب بكأسى السحرا
ويجرى فى دمى شعرا
ولكنى تؤرقني
طيوف ما تفارقني
تشد على ..تسحقني
ملايين من المقل
من الايدى ..تلوح لى :
عطاشى نحن .. لا قطره
وغرقى نحن ..لا نظره
وجودك قطعة منا
أشح عنا ..
ان اسطعت النوى ، خنا
وجرب بعدنا الفنا
وأرمى فى الدجى بصرى
مدى النظر
وأغمس فى اللظى شعري
ويملى الجرح فى صدرى ( 8 )
فى مثل هذه المقطوعة الشعرية ، وغيرها من المقاطع ، عبرت عن ذلك بوضوح . . وما اخالني أضيف شيئا الى هذا التعبير الشعرى حين أحاول الكتابة عنه .
ألم أقل فى مقدمة هذه الصفحات : إنني خلية فى جسد ... ؟ أترانى قادرا على ان اكون حرا فى كتابة ما اشاء ، والهيام بما اشاء ؟
لا أستطيع أن أفهم الحرية على أنها مسألة فردية ، تتعلق بوجودى وحدى . ساكون واهما الى حد السذاجة اذا تصورت أن خلية بمفردها تستطيع ان تكون حرة فى جسد مريض . (9)
4 - التراث والمعاصرة .. او القديم والجديد :
يخيل الى اننى كثفت رأيى في هذا الموضوع الذي طال فيه الجدل ، وكثر الحديث بالفقرة التالية فى مقدمة مجموعتى الكاملة :
ان تعتصر المتنبى ولوركا والمعرى .. وغوته ثم تقف على قدميك .. وترى الدنيا بعينيك تلك هي الحداثة والمعاصرة ... بكلمة ادق : تلك هى الاصالة فيما أرى .
واعترف انى كنت مشدودا الى التراث فى الفترة الاولى من نتاجى ، وكانت ظلال القرآن ، والمعلقات ، وديوان المتنبى تحيط بى ، وتشد على يدى ، فى كل قصيدة اكتبها . ولكنى ما لبثت ان انتفتحت على عوالم جديدة عندما أخذت أطالع بشغف الآداب الاجنبية ، وشعراء الغرب . بالمناسبة : اننى احسن الفرنسية والانكليزية واستطيع ان اقرأ عن طريق هاتين اللغتين معظم النتاج الادبى فى العالم . مبكرا قرأت الشعر الفرنسي وحفظت الكثير منه : راسين ، كورنى ، موليير ، فيكتور هوفو ، لامارتين .. واخيرا بودلير ، فرلين ، رامبو ، الى آخر القائمة ..
وفى مطلع الشباب كنت أقرأ أيضا الشعر الانكليزى وأتأثر بمدرسته الرومانيسية الى حد بعيد : بيرون ، شيلى ، كيتس .. وردزورث .. ثم اتسعت مطالعاتي فقرأت كبار شعراء الالمان ، والروس ، والامريكان ، والاسبان .. وكان غارسيا لوركا اقرب هؤلاء الشعراء الى نفسي ، وأحبهم الى .
ومررت فى تجربتى بالمدارس الشعرية من من الكلاسيكية . . الى الرومانسية ، الى الرمزية ، فالواقعية الجديدة وكان لكل من هذه المدارس اثرها فى كتاباتى .. ولكنى - فيما أرى - لم أتأثر بواحدة من هذه المدارس كما تأثرت بالواقعية الشعرية الجديدة ولا سيما بعد أن عشت زمنا مع قصائد ما ياكوفسكى ، وبابلو نيرودا ، وناظم حكمت ، وكاتب ياسين . وترجمت مع زميلة لى تجيد الانجليزية مجموعة " سيلدن رودمان " مائة قصيدة من روائع الشعر الحديث (10) ، ومع هذا .. فقد بقيت تجربتى الشعرية تجربة عربية تضرب بجذورها فى أعماق الصحراء .. وتنأى عن أن تتزيا بغير زيها العربى الاصيل .
ليس فى نتاجى كله أثر لاسطورة يونانية مثلا ولم يدخل سيزيف " واضرابه أية قصيدة من قصائدى .. بالرغم من قراءتى الدائمة ، وشغفى بالاطلاع . كنت ألوم صديقى الشاعر المبدع المرحوم بدر شاكر السياب ونحن على مقاعد الدراسة ، فى دار المعلمين العالية ببغداد حين كنت أجده يركض وراء كل حكاية غريبة عن تاريخنا وأسطورة لم ينسجها ترابنا ، ويحاول جاهدا أن بتبناها وان يتكىء عليها فى شعره . كنت أقرأ ما يقرأ .. وأتذوق ما يتذوق .. ولكنى أوثر ابدا أن اقف على قدمى ، وأرى الدنيا بعينى ..كما ذكرت منذ قليل
5 - الخطابة فى الشعر :
وأرانى هنا استعير التعبير الذى يستعمله النقاد بكثرة حين يتحدثون عن الشعر المسموع النبرة ، الذى يتجه اصلا الى الناس ليقول على مسامعهم ما يريد .
اننى لا استطيع أن اتصور قصيدة تقال دون أن يكون لها سامع او متلق نتجه اليه . والا .. فلمن تقال ؟ ولماذا تقال ؟ .
منذ خيمة " الأدم " التى كانت تضرب للنابغة الذبياني في سوق عكاظ الى آخر قصيدة حديثة القاها شاعر من شعراء الشباب فى مهرجان قرطاج بتونس ... لان شعرنا العربى يخاطب الناس ، يحاول ان يسجل همومهم ، ويحمل اليهم أفراحهم وأتراحهم ومطامحهم وأحلامهم .. وما يزال ..
العلة ليست في الكلمة الجميلة القادرة التى تتجه الى السامعين ، لتهزهم ، وتصل الى أعماقهم . وانما العلة كل العلة فى الكلمة الرديئة الهزيلة التى لا تستطيع ان تفعل شيئا مهما علت نبرتها .. والتى ليست من الفن ، ولا من الشعر فى شىء .
قلت هذا غير مرة .. وسأردده دائما . كانت قصائد المتنبى وهو يسجل بطولات سيف الدولة ، ومعارك الجيش العربى ، خطبا شعرية مجلة كالرعد وما أظن أحدا يجرؤ على اتهام المتنبى بأنه كان شاعرا رديئا حين كان ينشد روائعة تلك على مسمع الناس ، ومسمع الدهر معا :
وما أنا الا سمهرى حملته
فزين معروضا ، وراع مسددا
وما الدهر الا من رواة قصائدى
اذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغنى مغردا
أما أنا فقد كانت الجماهير العربية قصيدتي الاولى - كما قلت - وما تزال . وكانت القصيدة التى ألقيتها على الناس أشبه بكرة النار أرمي بها اليهم ، ليردوها الى اكثر حرارة ، وأشد اشتعالا.
صحيح ان الشاعر قد يضحى بشئ من "فنية" القصيدة عندما يعيش فى صميم الجماهير فى صميم الحدث ، ولكنه مطالب ابدا بأن يحقق المعادلة الصعبة .. أن يرقى بالناس الى مستوى الجمال والفن ، دون أن يضحي بأحد طرفى المعادلة . وتلك هي المشكلة :
ما أصعب ان يكون الانسان شاعرا وما أروع أن يكون ! (11)
6 - مولد القصيدة :
كيف تكتب قصيدتك ؟
سؤال وجهته الى طفلة لا تتجاوز العاشرة من عمرها ، ذات يوم ..
ووجدت فى السؤال اثارة عفوية لمشكلة من اهم مشكلات الخلق والابداع ، وأعمقها . وغرقت في الصمت ..ثم قلت للصغيرة : سأجيبك عن سؤالك غدا .. وستفهمين جوابى عندما تكبرين .
وفي اليوم التالي .. حاولت أن الخص عملية ولادة القصيدة وتجسيدها كائنا حيا على الورق .. بقصيدة نشرتها فى أحد دواوينى ( أزهار الضياع ) .. كما نشرتها إلى مجلة " العربى " التى تصدر فى الكويت في أوائل الستينات ، وكانت بعنوان : مولد قصيدة .
ولن أعرض لهذه " العملية " الآن .. وانما ساكتفى . بايراد بعض الابيات التى تحدثت عنها .. وحاولت ان تلخصها بدقة ، فربما أغنى ذلك عن الشرح والتحليل ، تقول القصيدة :
اومض فى الاعماق لمح الشهاب
فى شارع فى هدأة ، فى اصطخاب
اومض وخز البرق فى رأسه
أتركه ..امضى وراء السحاب
يظنني ضعت .. يلم الرؤى
ينسى يدا دقت بقلب الضباب
وينطوى يوم ، وعام ، فما
للعمر ، للتاريخ عندى حساب
عمرى هو التاريخ .. اشراقتى
هى المدى لا ينتهى ، لايجاب
وبغتة ينفض عن جفنه
شيئا كما دف جناحا عقاب
كما هوت فوق الثرى قطرة
من غيمة مجهولة ، من سراب
- وهم ... أعادت ؟ انه صوتها
أعرفه ، يهمس خلف الحجاب
يشتد ، يجتاح بلا موعد
بلا صدى ، ينذرنى بالعقاب
يضىء بالذكرى .. يصب السما
فى شفتتى غمغمة من رباب
يا للصراع الحلو .. ما بيننا
أرهقته ، مازلت حتى استجاب ( 12 )
وهكذا تولد القصيدة في رأس الشاعر ، ثم يبدأ الصراع الحلو المر .. مع الفكرة مع الصورة .. مع اللفظة .. مع الموسيقى .. مع عشرات العناصر الفنية الدقيقة التى لا يمكن تحديدها .. حتى تكتمل خلقا سويا . اننى اكتب القصيدة الطويلة من ثمانين الى مائة من الابيات .. فى يوم واحد .. ثم انقحها فى يومين أو ثلاثة وربما كانت عملية التنقيح هذه أهم وأدق ما فى كتابة الشعر لدى .
7 - شكل القصيدة :
من قصيدة العمود ذات القافية الواحدة والروى الواحد ..الى قصيدة المقاطع المنوعة القوافى والروى .. الى شعر التفعيلة .. الى الشعر المنثور ، او ما يسمونه "قصيدة النثر " الآن .. الى استخدام مجزوءات البحور على اختلاف اشكالها .. الى كتابة القصة الشعرية .. فالملحمة الشعرية الصغيرة ( ثائر من غفار ) .. و( شاعر بين الجدران ) و ( صلاة لارض الثورة ) - ان جازت التسمية - الى المسرحية الشعرية ، تقلبت بين هذه الاشكال جميعا ، واستعملتها جميعا فى نتاجى الشعرى . وكنت ومازلت أعني بالعبارة المشرقة الواضحة .. واتجنب عجرفة اللغة ما استطعت .
هذه العجرفة التى وقع فيها الكثير من فحول شعرائنا قديما وحديثا ، والتي خيل اليهم ، وهم يركبون متنها ، انها لون من ألوان البلاغة والاعجاز فى الاداء وما هى فى رأيى الا حزونة تدمى الاقدام ، ولا تخدم الفن فى شىء .
ولقد نفر منها الاجداد قبلنا واطلقوا عليها مختلف النعوت السيئة كالتعقيد والمعاظلة ، والغرابة ، وحوشى الكلام .. الخ .
ولقد طالما تضايقت من لفظة فى بيت حفظته منذ الطفولة ، وتمنيت لو أن الشاعر تجنبها واستبدل بها كلمة سواها . اليست الكلمة هي الخلية الاولى التى تحمل سر الحياة فى التعبير ؟ وعلى سبيل الذكرى .. لكم نفرت فى طفولتى من هذه " الشبم " فى بيت استاذنا العظيم المتنبى :
" واحر قلباه .. ممن قلبه شبم "
والشبم التى استدعتها القافية هنا تعنى : البارد ..كما تعلمون .
أما الموسيقى فقد كنت ومازلت أراها أهم عنصر من عناصر الفن ، ولا سيما فى البيان العربى .. ( وان من البيان لسحرا ) .
الموسيقى " عصب " الكلام الجميل .. نثرا كان أو شعرا .. تبلغ ذروتها فى الشعر .
والذين لا يحسون هذه الموسيقى ، ولا يجيدونها ، لا يملكون " العصب " السليم ( 13 ) .
ولعل الشكل الذى انتهيت اليه فى قصائدى الاخيرة : أبى الطيب المتنبى " فى مهرجان المتنبى ببغداد و " دمك الطريق " فى ذكرى عمر المختار بمدينة بنغازى و " أضم ثراك يا خضراء " فى مهرجان قرطاج بتونس ، و من أين أبدأ ؟ " فى يوم فلسطين ببيروت ، لعل هذا الشكل الذى يستغل نغمة البحر الواحد ، فيلونها ويتصرف بها ، هو أقرب اشكال القصيدة ، وأحبها الى ذلك لانه يحاول ان يحقق المعادلة التى نبحث عنها : الاصالة والجدة ، الانفتاح على الجديد انطلاقا من الجذور ، من الاسس المتينة التى بنى عليها شعرنا وذوقنا العربى عبر التاريخ :
خذيني .. ليس من ورق اهابى
دم التاريخ .. ينبض فى ربابى
أغنى ..كل أنات السبايا
حروفى ..كل ملحمة العذاب
أقول قصيدة ..حلم جريح
يؤرق مقلة الدنيا كتابي
خذينى .. لست رجع صدى
ولا عددا ..
ولم آت المدينة كالغريب يدا
ووجها .. ليس فى مضارب أهله احدا
انا التاريخ والبلد
انا العدد ..
ونبض الارض ، والارض التى تلد
على ناب الافاعى ، والخناجر ، لم تزل تلد
وتحمل وجهها العربى عتقت المآسى فيه والاحزان والسهد
وصارا توأمين ، وهاديين ، الغى والرشد
أناتك .. أعرف الصحراء بيتي
وأعرف أى سر فى الباب
خذينى فى صميم القحط زرعى
جذورى فى شرايين التراب
خذينى .. ليس من ورق اهابى ( 14 )
8 - شعر الاطفال :
منذ ما يقرب من أربعة عشر عاما ، وبالتحديد من عام 1967 عام مأساة
حزيران السوداء فى تاريخ هذه الامة .. بدأت كتابه الشعر للأطفال .. وما
زلت أعطى هذه التجربة النصيب الاوفى ، والقسط الاكبر من جهدى واهتمامى .
فى مقدمة مجموعتى " غنوا يا اطفال" . . قلت :
" بالشمس والهواء والماء .. تتفتح أزهار الربيع .
وبالموسيقى والحركة ، والغناء ..
يتفتح الاطفال على كل جميل ورائع .
دعوا الطفل يغنى .. بل غنوا معه أيها الكبار ..
ان الكلمة الحلوة الجميلة التى نضعها على شفتيه
هي أثمن هدية تقدمها له .
لكى يحب الاطفال لغتهم ،
لكى يحبوا وطنهم ،
لكى يحبوا الناس ، والزهر ، والربيع ، والحياة
علموهم الاناشيد الحلوة ..
اكتبوا لهم شعرا جميلا ..
شعرا حقيقيا .. (15)
وتوالت كتاباتي الشعرية للصغار من سن السادسة الى سن الخامسة عشرة وقد تمتد الطفولة فى احدث نظريات التربية وعلم النفس الى سن الثامنة عشر موزعة على مراحل عدة بالطبع .
وحاولت فى العام الماضي ان اجمع ما كتبته من شعر الاطفال فاذا هو أربعة اجزاء يربو كل منها على ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط والقطع الكبير .. تصدر كلها تباعا عن " دار الآداب للصغار " و "دار الشورى" فى بيروت مزينة بالالوان والرسوم .
وتنوعت هذه الكتابات الشعرية من النشيد القصير المركز الذي يتناول حياة الطفل فى البيت ، والمدرسة ، والشارع ، والطبيعة الخ . الى القصة الشعرية الصغيرة ..الى المسرحية الشعرية التى تكتب لتلحن ، وتمثل ، الى المسلسلات الشعرية التى تتألف من حلقات عدة بلغ بعضها ، احدى وعشرين حلقة : ( ملحمة القطار الاخضر) (16)
ولقد حرصت ما استطعت على أن تتوافر في النشيد الذي اكتبه للصغار العناصر التالية :
1- اللفظة الرشيقة الموحية ، الخفيفة الظل ، البعيدة الهدف ، التى تلقى وراءها ظلالا والوانا ، وتترك أثرا عميقا فى النفس .
2 - الصورة الشعرية الجميلة التى تبقى مع الطفل .. مرة التقطها من واقع الاطفال وحياتهم ، ومرة استمدها من احلامهم وامانيهم البعيدة .
3- الفكرة النبيلة الخيرة التى يحملها الصغير زاد فى طريقه . وكنزا صغيرا يشع ويضىء .
4 - الوزن الموسيقى الخفيف الرشيق الذي لا يتجاوز ثلاث كلمات او اربعا فى كل بيت من ابيات النشيد .
اننى أحرص على أن يتشابك فى النشيد الذى اكتبه للصغار الوضوح والغموض ، الواقع والحلم ، المحسوس ، والمعقول الحقيقة والخيال . كل ذلك فى كلمات مدروسة بعناية ويبقى الغناء الهدف الاول من كل نشيد .
ولقد كانت دهشتى - وما تزال - اكبر من كل ما توقعت حين وجدت الاطفال في شورية ، وفي غيرها من الاقطار العربية ، يقبلون على هذه الاناشيد ويحفظونها ويغنونها ، ويتجاوبون معها فى حماسة ولذة لم تخطر لى على بال . انهم يلحنون الاناشيد لانفسهم . ويبدعون لها الايقاع الذي يروقهم ، قبل ان تصل اليهم ملحنة من قبل الموسيقيين الذين اتعاون معهم منذ البداية لتلحين كل كلمة شعرية اكتبها للصغار ، وتقديمها اليهم فى عمل فنى تربوى قومى متكامل .
بقى على أن أورد فى هذه الدراسة بعض الاناشيد التى يرددها أطفالنا فى كل مكان ، وللقارىء ان يحكم بنفسه لها أو عليها :
فلسطين
فلسطين دارى ودرب انتصارى
تظل بلادى هوى فى فؤادى
ولحنا أبيا على شفتيا
وجوه غريبة بأرضى السليبة
تبيع ثمارى وتحتل دارى
وأعرف دربي ويرجع شعبى
الى بيت جدى الى دفء مهدى
فلسطين دارى ودرب انتصارى ( 17 )
النجار
عمى منصور نجار
يضحك فى يده المنشار
يعمل يعمل وهو يغني
فى فمه دوما أشعار
قلت لعمى : عندى لعبه
اصنع لى بيتا للعبة
هز الرأس وقال :
انا أهوى الاطفال
بعد قليل رحت اليه
شىء حلو بين يديه
تتواة عمي منصور
احلى من بيت العصفور
عمى منصور نجار
يبدع فى يده المنشار ( 18 )
الرسام الصغير
أرسم ماما أرسم بابا بالالوان
أرسم علمى فوق القمم أنا فنان
انا صياد اللون الساحر
أرض بلادى كنز مناظر
دعنى أرسم ضوء النجم
دعنى أرسم لون الكرم
اكتب شعرا بالالوان
أحيا حرا انا فنان (19)
وأخيرا ... لماذا شعر الاطفال ؟ لماذا تكتب للصغار ؟
سؤال طرح على مرارا . والجواب :
لان الصغار فرح الحياة ، ومجدها الحقيقي . لانهم المستقبل ..
لانهم ثروتنا القومية الاولى ...
لانهم الشباب الذي سيملأ الساحة غدا أو بعد غد ..
لانهم امتدادى وامتدادك فى هذه الارض ..
الا يكفى هذا ليشدنى الى أصدقائى الصغار ..
ويربطني بهم يوما بعد يوم ؟
انى لا اكتب للصغار لاسليهم ..
ربما كانت أية لعبة او كرة صغيرة أجدى وأنفع فى هذا المجال .
انى انقل اليهم تجربتى القومية ..
تجربتى الانسانية ..
تجربتى الفنية ..
انقل اليهم همومي وأحلامى ..
غنوا معى اذن .. أيها الملايين من الاطفال الذين حرموا الضوء ، والفرح ،
والنشيد الجميل ..
كما حرموا الثوب ، والدفء والحذاء الجميل .
غنوا للحرية ، وللحب ، والحياة ..
يا أمل الحرية ، وينبوع الحب ، وفرح الحياة .
