الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

تجربتى الشعرية،

Share

ان يتكلم الشاعر على تجربته فى الكتابة الشعرية هو ان يكون الذات والآخر فى آن . هو ، بتعبير أدق ، أن يتخذ من ذاته آخر ليست الا هذه الذات نفسها ، وظني ان هذا مما يؤدى ، بحسب الحالة ، اما الى تجميد الذات واما الى الحياد عنها ، باسم موضوعية تصل فى النهاية الى ان تلغيها .

لذلك آثرت أن أسلك طريقا آخر : أن أتكلم ، انطلاقا من تجربتى ذاتها ، نظرا وكتابة ، لكن على القضايا الاساسية او ما أميل الى حسبانه أساسيا - القضايا التى تتقاطع فيها الذات الكاتبة مع الآخر القارىء / الناقد وتشكل فى الوقت ذاته مدار الاهتمام والجدل فى المرحلة الشعرية الراهنة . خصوصا انها مرحلة خلافية بامتياز ، فالخلاف لا يتناول التفريعات وحدها ، وانما يشمل الاوليات أو الاصول ، ولا تتجل الخلافية فى الكتابات الشعرية وحسب وانما تتجلى أيضا ، ويشكلها الأكثر حدة ، فى القراءات النقدية التى تدرس هذه الكتابات . فهناك مثلا نقد يرفض سلفا البحث فى امكان النظر الى قصيدة النثر ، شعريا ، أو يرفض أن يرى الشعرية خارج الوزن ويعني ذلك أنه متأصل فى قديم ما وانه بسبب من ذلك ، عاجز عن النظر الى الجديد الا بذائقة تقليدية . وهو اذن ، لا يفهم الجدة الشعرية ، بل انه فى احيان كثيرة يطمسها ويشوهها .

وهناك ، بالمقابل ، نقد ونوع من الممارسة الكتابية لا يجهلان اللغة العربية فى خصوصيتها التعبيرية - الجمالية وحسب ، بل انهما يجهلان أيضا مخزونها الابداعى ، فضلا عن أنهما يرفضان شعر الوزن . وهما ، لذلك ، عاجزان عن فهم الجدة ومعناها فى اللغة الشعرية ، خصوصا ان حداثة الكتابة فى لغة ما , لا يصح فهمها وتقويمها الا في سياق القديم الكتابي في هذه اللغة وانطلاقا منه .

وكثرا ما نرى بين من يصدرون عن هذين الموقفين اشخاصا يؤلفون كتبا أو يقومون بابحاث حول نصوص يعدونها شعرا تستلزم ، بادىء بدء سؤالا أوليا : هل هذه النصوص هى ، حقا ، شعر ؟

هكذا ليست المعرفة وحدها هى الغائبة فى هاتين الحالتين وانما هناك غائبا اخر هو الشعر . ومن هنا حرصي على أن يجيــىء بحثى كنوع من المشاركه في مناقشة المفهومات بغية توضيحها ، لمناقشة الاحكام التى تستند اليها أو تصدر عنها . فقبل ان نتداول فى الاحكام يجب ان ننظر فى المفهومات التى تولدت عنها .

ولعل القضايا التى اشرت اليها تتمثل فى ثلاث . أحب ان اصوغها فى الاسئلة الثلاثة التالية : ما علاقة الشاعر بتراثه ؟ ما علاقة الشعر بالحدث ؟ ما معنى الشعرية ؟

أولا : الابداع والتراث :

كل شاعر يشعر ويفكر ويكتب انطلاقا مما هو . وما هو ، كذات كاتبة ، مغاير ، بالضرورة ، لما هو غيره ، قديما ، او معاصرا . وهذا يعنى ان له طريقته المختلفة المتميزة ، فى استخدام اللغة . بهذه الطريقة ينتج كلامه الخاص ، المغاير من حيث انه ينطوى على أفق من الدلالة ، او يكشف عن فضاء شعري ، خاصين مغايرين . فكما ان الشاعر يكتب كلامه المتميز بين الكلام ، فمن الممكن القول ان كلامه يكتبه ، بدوره كشاعر متميز بين الشعراء .

ما تكون ، فى هذا المنظور ، علاقة الشاعر بتراثه ؟

لكن ، ينبغى اولا ان نسأل ماذا تعنى هنا كلمة "تراث" ؟ هل التراث الابداع ام المبدع ؟ هل هو اللغة ام المادة ؟ هل هو الذات ام الموضوع ؟ ام هل هو هذا كله وكيف ؟ انها اسئلة تدفعنا الى اخرى تفريعية لكى نحيط بالاشكالية التى تنطوى عليها مثلا ، هل التراث شاعر واحد ، محدد ؟ وحينذاك ، هل تعنى العلاقة بالتراث تقليد هذا الشاعر او اتباعه فى نهجه الشعرى ؟ ومن هذا الشاعر وكيف نحدده ؟

لنقل ، اذن ، ان التراث اكثر من شاعر . حسنا . لكن ، من هم وما معيار تحديدهم ؟ وكيف يمكن الارتباط بهم ، وهم افراد متباينون متباعدون ، تاريخيا

وفنيا ؟ وكيف نوحدهم ، - نجعل منهم " هوية " واحدة وبأى معيار وبأى معنى ؟

لعل كلمة تراث تعنى مرحلة شعرية معينة ، أو مراحل معينة ، أو تعنى نصوصا شعرية معينة . لكن ، ايضا ، كيف يكون ارتباط الشاعر به فى هذه الحالة ؟ بخصائص " جوهرية " للمرحلة أو للمراحل ، او النصوص وكيف نحدد هذه الخصائص ؟

ام لعل "التراث" روح ما ؟ لكن هنا ايضا نسأل : ما هذا الروح " وكيف نتعرف عليه ، وما مقاييس التعرف ؟ وهل هو ثابت ، وكيف ؟ ام هو متغير، وكيف ؟

ينبغي ان نطرح ، فى هذا الصدد ، اسئلة اكثر تحديدا . مثلا ، ما الذي " يوحد " شعريا بين الشنفرى وعروة ( هما موحد ان الصعلكة وفي المرحلة وفي الوزن والقافية ) ؟ انهما ، شعريا ، عالمان مختلفان كذلك الامر فى ما يتعلق بامرىء القيس وزهير ، بطرفة وعمرو بن كلثوم ... الخ . هكذا نرى ان ما نسميه بــ "الاصل" الجاهلي " الواحد " انما هو ، شعريا ، كثيرا وليس واحدا .

واذا تجاوزنا العهد الاسلامى الاول الذى لا ارى فيه شعرا مهما ، الى العهد الاموي ، فسوف نرى انه هو الآخر كثير وليس واحدا . ما الذى يوحد بين عمر بن أبى ربيعة وجميل بثينة او قيس بن الملوح ، بين ذى الرمة والكميت ، بين شعراء الخلافة الاموية - الاخطل والفرزدق وجرير ، والشعراء الخوارج ، أو شعراء الصعلكة - الهامشيين ، اللصوص ، والمنبوذين ؟

الشأن هو نفسه بالنسبة الى الشعر فى العهد العباسي . ان الافق الشعرى الذى يفتحه أبو نواس غير الافق الذي يتحرك فيه على بن الجهم او البحترى ، وشعر ابى تمام مغاير ، جوهريا ، لشعر ابى العتاهية او ابن الرومى . وابو العلاء المعرى عالم آخر غير المتنبى.

هكذا يبدو ان التراث الشعرى العربى شأن كل تراث حى ، ليست له ابداعيا هوية واحدة - هوية التشابه والتآلف وانما هو متنوع ، متمايز الى درجة التناقض . واذا صح الكلام على هوية او وحدة ، فى هذا المستوى ، فانها هوية المتعدد المتباين ، ووحدة المختلف ، الكثير .

غير ان " الخطاب التراثى " السائد يقوم ، فى منطلقاته وفى منظوراته على ارادة توحيد التراث ووحدته ، فى "هوية" متميزة ، متواصلة هي هوية " الواحد "

ولا نجد فى التراث ، كمادة شعرية ما يمكن ان يعطيه مثل هذه الهوية الا الوزن والقافية ، استنادا الى التحديد الموروث : " الشعر هو الكلام الموزون المقفي" لكن التعمق البسيط فى الابداعية الشعرية جدير بأن يكشف عن ان مثل هذه الوحدة سطحية شكلية ، عدا انها تبسيطية اختزالية . فلا يتضمن التراث ، تحت هذه الوحدة الظاهرية غير التنوع والتناقض . وفي هذا التنوع التناقض تكمن ، على العكس ، أهمية التراث وعظمته ، وعليه كذلك تنهض وحدته الابداعية . ان "هويته" بعبارة ثانية ليست فى مجرد كونه موزونا مقفى ، وانما هى فى العالم الذى يؤسسه ، والرؤى التى يكشف عنها ، والآفاق التى يفتحها للحساسية وللفكر .

أما عن الوزن والقافية ، فأود أن أقدم الاشارات التالية :

أ - الوزن / القافية ظاهرة ، ايقاعية - تشكيلية ليست خاصة بالشعر العربى وحده وانما هى ظاهرة عامة ، فى الشعر الذي كتب ويكتب بلغات اخرى ، لكن على تنوع وتمايز . الزعم اذن ، بان هذه الظاهرة خصوصة نوعية لا تقوم اللغة الشعرية العربية الا بها ، ولا تقوم الا بدءا منها واستنادا اليها ، انما هو زعم واه جدا ، وباطل .

ب - الوزن / القافية عمل تنظيري لاحق لتشكيل شعري سابق . ولا شك انه عمل بارع ، لكنه ، فى الوقت نفسه ، محدود ، ذلك انه لا يستنفد امكانات الايقاع او امكانيات التشكيل الموسيقى فى اللغة العربية . وانما يمثل منها ما استخدم واستقر . وما يستخدم ويستقر ليس مطلقا ، وانما قد يتغير او يتعدل او تضاف اليه استخدامات أخرى ، او ربما يزول ، وذلك بحسب التطور ومقتضياته .

ج - ثمة خطأ أول فى النظر السائد الى الوزن / القافية ، يكمن فى التوحيد بين الاصل والممارسة الاولى لهذا الاصل . فهو يوحد بين موسيقية اللسان العربى وهذا مما أدى ، بقوة الممارسة والقسر الايديلوجى ، الى تقليص الطاقة الموسيقية اللغوية فى الوزن الخليلي ، والى تحويل اوزان الخليل الى قوالب مطلقة تتجاوز التاريخ ، مع أنها وليدته ، وتتجاوز موسيقى اللغة العربية مع انها ليست الا تشكيلات محددة ، من مادة ايقاعية تشكيلية غير محددة .

د - لعل المعنيين عميقا بالشعر العربى ومسيرته التاريخية يعرفون جميعا ان تحديده بمجرد الوزن / القافية اخذ يضطرب منذ القرن العاشر ، خصوصا في الدفاع النقدى الذى قام به الصولى انتصارا لشعرية ابى تمام ، وفى آراء

الجرجانى فقد نشأ ميل الى التشكيك فى ان يكون مجرد الوزن والقافية مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر والى جعل اللغة الشعرية ، او طريقة استخدام اللغة ، مقياسا فى هذا التمييز . وتقسيم المعنى عند الجرجانى الى نوعين : تخييل وعقلي دليل بارز . فحيث يكون النص قائما على المعنى الاول يكون ، فى رأيه ، شعرا، وحيث يكون قائما على المعنى الثاني لا يكون شعرا ، وان جاء موزونا مقفى .

غير ان هذا لا يعنى ، بالضرورة ، رفض الوزن / القافية ،او التخلى عنهما ، وانما يعنى انهما لا يمثلان وحدهما حصرا ، الشعرية ولا يستنفدانها ، وان هناك عناصر شعرية ، غيرهما ، ومن حق الشاعر ان يستخدمها للخلاق ، تحديدا ، جديد دائما - حتى حين يكتب باشكال سابقة . فاذا كان الشكل بنيه حركية ، فان المهم هو النسغ الذى يجرى فى هذه الحركة ويجريها . ولهذا ليس الشكل هدفا او غاية . الهدف هو توليد فعالية جمالية جديدة . كان أبو تمام وأبو نواس جديدين ، بالقياس الى الشعر الجاهلى ، مع انهما استخدما اشكاله الوزنية . والجدة هنا كامنة في انهما خلقا في شعرهما فعالية جمالية مغايرة ، واضافا الى الجمالية الشعرية العربية ابعادا جديدة . والاساسى ، اذن هو ان ننظر فى تقويم الشعر ، الى هذه الفعالية ، لا الى الجدة الشكلية فى ذاتها ولذاتها ، سواء كانت وزنا او نثرا .

وفى هذا ما يشير الى ان المسألة ، فى الكتابة الشعرية ، لم تعد مسألة وزن وقافية ، حصرا ، بل اصبحت مسألة شعر او لا شعر ، والى ان هذه المسألة تضعنا ، تبعا لذلك ، امام امكان الكتابة الشعرية . فى أفق آخر غير الافق الموزون المقفي . وهو امكان يتيح لنا ان نعدل التحديد الموروث للشعر ، وان نضيف اليه ، وان نؤسس مفهومات أخرى للشعر . وفي ظني ان المعنى الاعمق والاغنى فى الثورة الشعرية العربية الجديدة انما يكمن هنا لا في مجرد تعديل النسق الوزنى وتحويره ، ولا فى مجرد الخروج على الوزن والقافية ، كما تواضع اكثر النقاد المعاصرين على قوله وتكراره .

نحن اذن فى مرحلة انتقال من واحدية المفهوم ، الى كثاريته ، او من الواحد الشعرى الى المتعدد الشعرى . وربما كان الالتباس النقدى فى دراسة النتاج الشعرى العربى ، فى الربع القرن الاخير ، عائدا الى التباس التجربة الكتابية ذاتها - اى الى تعدديتها . لكن هذه التعددية هي فى الوقت نفسه ، شاهد على

حيوية اللغة الشعرية العربية ، وحيوية الشاعر . وهي كذلك دليل على التجدد فى الرؤيا ، وفي الحساسية الفنية ، وفي طرائق التعبير .

ان فى هذا كله ما يكشف عن أن قضية التراث ، كما تطرح في النقد الشعرى العربى السائد ، ليست قضية شعرية - فنية ، بحصر المعنى ، وانما هي قضية ايديلوجيه . والكلام النقدى هنا يحل اللغة الايديلوجية محل اللغة الفنية ، - اى انه يتحدث عن الشعر بأدوات من خارج الشعر وهو بهذه الادوات ، يخلق استيهام الهوية الشعرية الواحدة ، للأمة الواحدة ، بحيث يكون الخروج عنها خروجا عن هوية الامة ذاتها . وهو استيهام نجد اصوله العميقة فى البنية الدينية ، ميتافيزيقيا وفى البنية القياسية تاريخيا .

والحق هو ان هوية الشاعر العربى لا تتحدد بالشكل الكلامي الذي نطق به أسلافه الشعراء وانما تتحدد بخصوصية اللسان العربى نفسه . وهذه الخصوصية اللسانية هي التى تؤسس هوية شعب ما ، وتحدد موقعه فى العالم واذا كان لابد ، هنا ، من الكلام على وحدة ما ، أو هوية واحدة ما ، فانما هي وحدة اللسان ، لا وحدة الكلام . ان كلام كل شاعر انما هو نتاج هويته الواحدة بلسان واحد ، ومع ذلك فان كلامه كثير ، وليس واحدا . واذا صح هذا في الهوية الواحدة ، فبالاحرى ان يصح فى الهويات المتغايرة .

هنا يحسن أن نشير الى خطأ فى المنطلق وقع فيه ولا يزال يرعاه ويتابعه هو التوحيد بين الاصل والممارسة الاولى لهذا الاصل . فكما انه وحد بين موسيقية اللسان ووزنية الشعر ، وحد بين اللسان وممارسته الشعرية الاولى فى الجاهلية ، من حيث ان كلامها هو الاكثر تطابقا مع اللسان والاكثر تطابقا مع اللسان والاكثر قربا اليه ، والاكثر كمالا . وهناك فرق بين اللسان والكلام اللسان هو المنظومة الرمزية - المعجمية التى تتيح التعبير والتواصل اما الكلام فهو الاستخدام الشخصى الحر المتميز للسان . (ف . دوسوسور) . لا يقال عن القرآن الكريم ، مثلا ، انه لغة الله بل كلامه ، وذلك تمييزا له عن غيره . وليس الشعر الجاهلى اللغة العربية ، وانما هو كلام خاص بشعراء الجاهلية . وهو من حيث انه كلام ، ليس واحدا متشابها ، وانما هو كثير ، متنوع . وكما أن كلام أمرئ القيس لا ينبع من كلام طرفه مثلا ، والعكس صحيح بل ينبع من اللسان العربى ، فان كلام كل شاعر حقيقي لاحق لا ينبع من كلام شاعر سابق ، وانما ينبع من اللسان العربى ، وفقا لاستخدامه الخلاق الحر . وهو استخدام لابد من ان يكون ابتداء ، إذا اراد ان يكون خلاقا ، فالكلام الشعرى كلام الذات المبدعة

هو ، دائما ، بمثابة وليد جديد يخرج من رحم اللسان ومثل هذا الكلام الناشئ والمنشئ معا يشوش الكلام السائد ، ويزلزل سلطته الايديلوجية . بل انه اختراق دائم للثقافة السائدة ، ولايديلوجيتها . وهو من هنا يتجاوز " وحدة " الكلام السائد ، الموروث ، أى انه يلغي وحدة السطح ، لكن من أجل ان يرسي وحدة العمق وحدة التنوع ، والاختلاف ، والتناقض .

وفي هذا المنظور ، تصبح  مسألة الوزن / القافية ، مسألة تاريخية ومسالة كلامية لا لسانية ، ومسألة ترتبط بجانب محدود من الابداع الشعرى ، لا بشموليته أو به كرؤيا كلية . اذن ، من البداهة ولصحة القول ان بامكان اللسان العربى أن يتجسد شعرا في بنية كلامية غير بنية الوزن والقافية ، أو الى جانبها . وهذا مما يوسع فى الممارسة ، حدود الشعر فى اللسان العربى ، وحدود الحساسية الشعرية ، وحدود الفنية او الشعرية .

هكذا يبدو ان ما نراه من الالحاح النقدى الايديلوجى على الواحد ، على النموذجية الوزنية المبسطة ، على عالم مؤتلف متشابه ، يحيل الانسان والشعر والعالم الى مجرد قوالب وقواعد ، والى مسلمات ويقينيات جاهزة . وفي هذا ما يلغي التاريخ ، ويلغي الذات معا ، ويحول الممارسة الى نوع من التدين ، منظم ومنظم . وليس هذا نقيضا للابداع والشعر وحسب ، وانما هو نقيض للانسان أيضا .

ربما نقدر الآن ان نرسم تخطيطا اوليا للعلاقة بين الشاعر العربى الحديث وتراثه . يقوم هذا التخطيط ، من وجهة نظري على ثلاثة أسس :

لاول ، هو ان الشاعر العربي الحديث ، ايا كان كلامه او اسلوبه ، وايا كان اتجاهه انما هو تموج فى ماء التراث ، اى جزء عضوى منه ، وذلك لسبب بدهى هو ان هويته الشعرية ، كشاعر عربي ، لا تتحدد بكلام اسلافه ، مهما كان عظيما وانما تتحدد بكونه يصدر عن اللسان العربى ، مفصحا عن هذه الهوية بكلام عربى . لهذا حين نسمع مثلا قولا يصف هذا الشاعر العربى او ذاك بأنه يهدم التراث او بأنه خارج على التراث ، فان هذا القول يعنى أولا ان الشاعر المعنى لا يهدم التراث ككل او انه خارجه ككل ، وانما يعنى انه يهدم فكرة او صورة محددة للتراث في ذهن اصحاب هذا القول ، وبأنه خارج هذه الفكرة او هذه الصورة . ويعني ثانيا انه قول ايديولوجى محض - اى انه حاجب ومشوه ، وانه هراء وباطل .

الثاني ، هو ان الشاعر العربى الحديث ، من حيث انه تموج ، تواصل فى المد الشعرى العربى ، حتى حين يكون ضديا .

الثالث ، لا يمكن هذا التواصل ان يكون فعالا يغنى الابداع الشعرى العربى الا اذا كان ، كلحظة خاصة من الممارسة الابداعية ، انقطاعا عن كلام الشعراء الذين سبقوه . ذلك ان هذا الانقطاع هو الذي يحول دون ان يصبح الشعر تقليدا ، اى دون ان تتحول الفاعلية الانسانية الى مجرد تكرار واستعادة . فالشعر لا ينمو الا فى نوع من الجدلية الضدية او التناقضية . وعلى هذا يقوم التراث الابداعى الفعال ، وهو ما سميته " بالمتحول " (راجع : الثابت والمتحول ، بحث فى الاتباع والابداع عند العرب ، دار العودة ، بيروت ) ، وعنيت بذلك شعريا ، النصوص التى يمكن وصفها بأنها لا تستنفذ ، أى التى تكون سبب من فعاليتها المشعة حية دائما ، حاضرة دائما فى اشكالية الابداع الفنى .

ان فى ما قدمناه ما يضيئنا فى مسألة تقويم التراث . فهذا التقويم يظل قائما ، ومفتوحا . ومعنى ذلك ان معرفتنا بالماضى تظل هى أيضا مفتوحة ، تغتنى بابحاث مستمرة قد تكشف عناصر جديدة لم نعرفها ، وتقيم علاقات لم نقمها ومن هذه الشرفة نفهم معنى التأثير الذى يمارسه الشاعر . فالشاعر المؤثر فى التاريخ هو الذى يحور او يعدل في أفق الحساسية والتعبير ، الذي ارتسم فى هذا التاريخ . هكذا نقول ان ابا نواس ، مثلا ، مؤثر . وكذلك أبو تمام . لكننا لا نقول ذلك عن جرير او الفرزدق او البحترى ، لان هؤلاء كتبوا ضمن افق الحساسية والتعبير ، الذى كان سائدا . ولهذا كان دورهم الشعرى ، بالقياس ثانويا .

لكن تجدر الاشارة هنا الى ان كل شاعر مؤثر ، اى خلاق ، يشكل عالما خاصا لا يقارن بغيره مقارنة أفضلية ، خصوصا إذا كانت هذه المقارنة تستند الى الاسبقية الزمنية . فلا يمكن النظر الى المسافة التاريخية التى تفصل بين الشعراء على أنها تتابع متدرج فى التقدم او التطور الشعرى . يتعذر القول مثلا ان امرأ القيس افضل من المتنبى ، او ان ابا نواس افضل من ابي العلاء . والعكس صحيح .

انما يجب ان نلحظ فى الوقت ذاته ان من الممكن القول ان نتاج هذا الشاعر يتيح لنا ان ندخل فى حقل من الكشف اوسع من الحقل الذي يتيحه لنا ذلك الشاعر وان لدى هذا الآخر فتوحات تعبيرية غير متوفرة عند غيره ، وان فى نتاج

ذلك الشاعر تعديلا او تحويرا فى المبادئ التى كانت توجه الكتابة الشعرية عند أسلافه ، تفتقدها فى نتاج غيره . لكن هذا كله لا يعنى ، بالضرورة ، الافضلية او التقدم . ذلك ان الشعر - حين يكون ابداعيا ، اى ، باختصار شعرا تكون قيمته فى ذاته ، لا بالمقارنة ولا بالقياس ، ولا بالنسبة .

ثانيا : الشعر والحدث :

ماذا بقى من الشعر الذي كتب حول الاحداث الوطنية العربية فى النصف القرن الاخير ؟ بقى الشعر الذي اخترق الحدث محولا اياه الى رمز - وهذا الذى بقى ضئيلا جدا بالقياس الى الكم الضخم الذي كتب .

يخترق الحدث محولا اياه الى رمز : يعنى ان الحدث ، ايا كان ، لا يمكن ابداعيا ، ان يكون غاية تخدمها اداة هي الشعر . الحدث ، على العكس ، هو وسيلة الشعر ، أعني الابداع بعامة ، - الابداع الذي هو ، من جهة ، استقصاء للكائن وطاقاته وكشف عنها ، ومن جهة ثانية ، ترميز للتاريخ .

غير ان لعلاقة الشعر بالحدث تنظيرا شائقا اسمه " الواقعية " ويمارس تأثيرا واسعا على الكتابة الشعرية العربية ، وقد انتج هذا التنظير شعرا سمى بــــ " الشعر الواقعي " . ومع أن كلمة " واقع " تبدو واضحة جدا ، للوهلة الاولى ، فانها ، على العكس ، من الكلمات الاكثر غموضا ، خصوصا فى ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والواقع . غير اننا اذا درسنا هذا النتاج نرى انه يتمحور حول واقع الحدث ، يقوله ، خاضعا له ، متكيفا معه . انه هنا بدئيا ، وسيلة وهو ، كوسيلة ، يقوم ، بدئيا أيضا ، بفائدته العملية : لا يقرأ لشعريتة او لجماليته بل لمنفعيته - اعلاما ، او تربية ، او تحريضا . انه " سلاح " فى الساحة ، بالنسبة الى اصحاب البسار ، " وزينة " فى البيت بالنسبة الى اصحاب اليمين . وسواء كان" قوميا" او "طبقيا" ،"تقدميا" او " رجعيا " فان دوره هو دوه الاداة وهو فى هذا ، ليس الا تنويعا على الشعر العربى القديم - لكن فى مستوياته الدنيا ، فنيا - عنيت شعر السياسة الخلافية او الخليفية ، والشعر الحكمي - الاخلاقي التعليمي . ومعنى ذلك ان لغته الشعرية تقليدية ، على مستوى الماضي وشائعة على مستوى الحاضر . ومن الشروط التى يجب ان يحققها النص ، لكى يكون شعريا ، شرطان : الخروج على الكلام الشعرى التقليدى ، والخروج على الكلام الشائع ، السائد . وطبيعي ان هذا الخروج ، بما هو فنى ، لا يتحقق على مستوى النظرية او الفكرة او المضمون ، وانما يتحقق على مستوى شكل التعبير -

اى بنية الكلام ، ومن هنا لا يعد ذلك النتاج الشعرى شعرا ، بالمعنى الحقيقى وانما هو نصوص سياسية او اجتماعية . وقيمته ، من هذه الناحية في وظيفيته ، اى انه ينتهى حينما تنتهى وظيفته . وذلك على النقيض من النصوص الشعرية . ان ملحمة جلقامش ، تمثيلا لا حصرا ، انقطعت كلية عن "وظيفتها " - فى اطارها الاجتماعى ، التاريخي ، الاصلى - ، ومع ذلك لا تزال نصا فعالا ، عظيما . والسر في ذلك ان الابداع لا يحدد بوظيفيته المنفعية او بتعبير آخر : لا وظيفة للابداع الا الابداع .

لا يعنى هذا ان الشاعر"حيادى" او يجب ان يكون"حيادى " بل يعنى انه لا يجوز أن يخضع كتابته للمقتضيات الايديلوجية والسياسية ولمستلزمات الايصال والعادة السائدة فى طرق الكلام فليس الانحياز فى الشعر ان يسوغ او يدافع ، ان يمدح او يهجو ، ان يعلم ويبشر ، وانما هو ان يغير الطريقة السائدة فى رؤية الحياة والعالم ، والتى عبر تغييرها ، مجازيا ، تنشأ صور وطاقات لتغير العالم ، ماديا . دون ذلك لا يكون الشاعر كاتب - اى يمارس التعبير عن طاقة خلاقة وفعالة وانما يكون مستكتبا يقوم بوظيفة محددة . او دور الشعر فى شعريته ذاتها ، فى كونه خرقا مستمرا للمعطى السائد . واذا كان لابد من الكلام على انحياز ما أو التزام ، في هذا الصدد ، فانه الانحياز الى الحرية الكاملة في ابداع هذا الخرق . هنا تكمن اختلافية الشاعر ، اى فرادته ، وهنا تكمن فاعليته وفاعلية الشعر .

ما يكون ، فى هذا المنظور ، معنى " الواقع" او"الواقعى " ؟ لكن لنسأل أولا : ما العلاقة بين اللغة وما نسميه " الواقع ؟ حين أقول ، مثلا " شجرة " فان هذه اللفظة ، كاسم ، لا تشبه فى شئ مسماها - الشجرة " الواقعية " الموجودة في الطبيعة . والعلاقة ، اذن ، بين " الشجرة " كلغة و" الشجرة " كشئ "واقعى " - مادى ، كيفية ، اصطلاحية . فليس هناك اى تشابه بين اللغة والواقع . بتعبير آخر ، لا يمكن اللغة ان تقول "الواقع " وانما تقول ما تتوهمه او تتخيله اى انها عميقا تقول ذاتها . فالكلام ، جوهريا ، يقول الكلام . وبهذا المعنى تحديدا ، يصح القول ان العالم لغة ، والانسان لغة ، ومن هنا لا تمكن ، فى التقويم ، مقايسة الشعر بالواقع . فهذه المقايسة يمليها الهاجس التحليلي ، العقلي - المنطقي ، الهاجس الذي يصر على ان يرى "الواقع " او "الحقيقة " او"الصواب " فى العمل الشعرى . وهذه مفهومات ايديلوجية تقتضى ، قبل الكلام عليها كمسلمات أسئلة : ما الواقعية ؟ ما الحقيقة ؟ ما الصواب ؟ ودلالة ذلك ان مرجع العمل الشعرى ومقياس تقويمه ليس في " الواقع  " او" الحقيقة " او "الصواب " بل

في شعريته ذاتها . فليس هو الذي يحول الكلام الى شعر ، بل "الفن" هو الذي يحول الواقع الى شعر ، اى الى لغة ، فليس الشعر الواقع ، بل الوعد ومعنى ذلك أن قيمة العمل الشعرى لا تكمن فى مدى كونه " واقعيا " او "حقيقيا" اى فى مدى كونه او "يمثل" او "يعكس" وانما تكمن فى مدى قدرته على جعل اللغة تقول اكثر مما تقوله عادة ، اى على خلق علاقات جديدة بين اللغة والعالم ، وبين الانسان والعالم . ومن هنا لا يمكن فهم العمل الشعرى ، الفهم الحق ، بالعودة او بالاستناد الى " الواقع " بل بالعودة او بالاستناد الى الطاقة التى يختزنها لتنكوين مثل تلك العلاقات .

ثالثا : فى الشعرية :

لتوضح ما أعنيه بــــــ " الشعرية " أشير الى أن هناك ، من الناحية " الكمية " طريقتين في التعبير الادبي : الوزن والنثر ، ومن الناحية النوعية أربع طرق :

أ - التعبير نثريا بالنثر (1) ب - التعبير نثريا بالوزن (2)

ج - التعبير شعريا بالنثر (3) د - التعبير شعريا بالوزن (4)

لنحاول ، مثلا ، أن ننثر المثال الثاني (زهير / المتنبى) . سوف يتضح أن التوتر الدلالى يبقى كما هو فى الوزن ، وان المعنى بالتالي لا يتغير . اذن ، هذا الكلام ليس الا نثرا صيغ فى قالب وزني :

شعر = نثر + وزن

الوزن هنا خارجى ، اضافة . انه كمى ، لا نوعى . أى انه ليس عنصرا شعريا . هذا المثال اذن ، على صعيد اللغة الشعرية ، تشبيه تماما بالمثال الاول انه نثر ، وان كان موزونا .

أما حين ننثر أبيات المثال الرابع ، فان توترها الدلالي يخف او يقل لكنها ، مع ذلك لا تصبح نثرا ، وانما تبقى شعرا . الكلام الموزون هنا هو اذن :

شعر من نثر ( شعر نقيض النثر ) وهذا المثال يتلاقى ، شعريا ، مع المثال الثالث .

هكذا نرى ان الوزن فى المثال الثاني تكأة ، شئ زائد ، مجرد قالب . وما عبر عنه بوساطته ، يمكن التعبير عنه بالنثر دون أن ينقص شئ منه . ونرى ايضا ان " المعنى" فيه شأنه النثر : واضح ، مباشر ، عقلي . ثم ان هذا الممثال ينقل " فكرة " أو " مفهوما " ، وذلك على النقيض من المثالين الثالث والرابع اللذين ينقلان " حالة " او " تخيلا " . وهذا يوصلنا إلى القول ان الفرق بين الشعر والنثر ليس فى الوزن ، بل فى طريقة استعمال اللغة .

النثر يستخدم النظام العادي للغة ، اى يستخدم الكلمة لما وضعت له ، أصلا أما الشعر فيغتصب أو يفجر هذا النظام ، أى انه يحيد بالكلمات عما وضعت له ، أصلا .

لمزيد من الايضاح ، آخذ مثلا تبسيطيا :

أ - الليل نصف اليوم . ب - الليل موج ( أو جمل ) ( أمرؤ القيس )

الجملتان هنا عن الليل ، كموضوع واحد ، لكنهما يثيران طريقتين مختلفتين لادراكه والاحساس به . عدا ان لهما معنيين مختلفين . المعنى فى الجملة الاولى نثرى ، منقول بكلام نثرى ، والمعنى فى الجملة الثانية شعري منقول بكلام شعري . الكلام في المستوى الاول اعلامي ، اخبارى ، يقدم معلومات حول الاشياء ، وبدور فى اطار المحدود ، المنتهى . اما الكلام ، فى المستوى الثاني ، ويخيل ، يشير الى ما يمكن ان يكتنز به الشىء ، ويوحى بصور أخرى عنه ، أى بامكان تغيره ، وهو يدور فى المنفتح ، وغير المحدود .

ونخلص من ذلك الى القول ان الوزن ليس مقياسا وافيا او حاسما للتمييز بين النثر والشعر ، وان هذا المقياس كامن ، بالاحرى ، فى طريقة التعبير ، او كيفية استخدام اللغة . أى فى الشعرية .

أود ، ختاما ، أن أقدم الاشارات التالية التى توجز أو تضيىء ما سبق :

أ - التراث أفق معرفي ، ينبغى استقصاؤه باستمرار ، لكن مفهوماته وطرائق تعبيره غير ملزمة ابدا . والشاعر الخلاق هو الذي يبدو ، فى نتاجه كأنه طالع من كل نبضة حية فى الماضى ، وكأنه ، فى الوقت نفسه ، شئ يغاير كل ما عرفه هذا الماضى .

ب - اللسان ، لا الواقع ، هو المادة المباشرة فى عمل الشاعر . باللسان وفيه برى العالم وشكله . هذه الممارسة المادية للسان تفرض عليه ان يكون عارفا المعرفة العليا به ، ومتقنا الاتقان الاكبر لتاريخية الكلام الشعرى ، ولكيفية الكتابة شعريا . فاذا كان الانسان حيوانا ناطقا ، فان الاكثر معرفة باللسان هو الاكثر انسانية . والحد الادنى ، اذن ، الذي يجب ان يتوفر لمن يكتب الشعر هو ان يكون ، بعد هذه المعرفة ، متميزا بطريقة استخدامه اللسان ، اى ان يكون له كلام شعري متميز . اى ان تكون له تجربة خاصة في الكلام . وهذه التجربة تفرض بدورها على القارىء / الناقد المعرفة العليا ذاتها . ان عطاء الابداع يفترض ، بل يشترط ابداعية التلقى .

ج - بيانيا ، او فنيا ، يمكن القول بأن المجاز التعبيري هو الطابع العام للكلام الشعرى السائد . ويقوم هذا المجاز ، اجمالا ، على وصف ظاهرى ليس له ما ورائية . فوظيفته زخرفية : تزيين أول بمعنى ثان .

ان بيانية الابداع الشعرى العظيم تقوم على ما أسميه بـــ المجاز التوليدي فهو بما يتضمنه من البعد الاسطورى - الترميزى ، وبقدرته على جعل اللسان يقول اكثر مما يقوله عادة ، أى على جعله يتجاوز نفسه ، بكشف عن الجوانب الاكثر خفاء فى التجربة الانسانية ، مما لا يستطيع الكلام التعبيري - العادي ان يكشف عنه ، وهو يدفع ، تبعا لذلك ، الى رؤية العالم بشكل جديد ، والى اعادة النظر فيه . انه يدخل الى مجال التصور الانسانى ابعادا تقود الانسان نحو ابعاد أخرى ، نحو فضاء آخر .

وفى هذا المستوى ، يصح القول ان هزال عالمنا عائد ، فى المقال الاول ، الى الهزال فى طريقة استخدام لساننا العربي . ذلك اننا ، اذا درسنا هذا الاستخدام السائد ، من حيث هو دال او حقل دلالى ، يتضح لنا ان العلاقات التى يقيمها او

يكشف عنها - انما هي علاقة ترتبط بما هو سائد وهو ، اذن ، استخدام يقوم عالما يموت ، لا عالما يولد .

ومن الطبيعي ان يتجلى الشعر الذي يقوم على المجاز التوليدى ، غريبا مفاجئا غامضا ، وسط ذلك السائد . ذلك انه يفجر الجوانب الاكثر غنى وعمقا في كياننا ، الحوانب التى جهلناها او تجاهلناها وكبتناها لاسباب كثيرة اجتماعية وثفافية وسياسية . وفي هذا المستوى يكون الشعر خلقا ، يكشف عن الاجزاء الخفية او المنتظرة او الغائبة من وجودنا ومن مصيرنا على السواء .

د - ان الكلام على ارتباط الشعر بما يسمى "الواقع" ليس له فى التحليل الاخير ، على الصعيد الابداعى ، أية قيمة - عدا أنه كلام ايديلوجى محض

ولذلك ليست المسألة ، شعريا ، وبخاصة على صعيد التواصل ، مسألة العلاقة بحمهور "جماهيرى" أى بجمهور ايديلوجى مسيس او متسيس ، وانما هى مسألة العلاقة مع مجموع المجال البشرى القارىء الذى يوفره المجتمع . والكتابة الشعرية اذن ، ممارسة باللسان ، فى حقل لسانى - اجتماعى ، ثقافى متناقض ، معقد ، متنوع . وهي تحدد وتقوم فى هذا المستوى ، لا فى مستوى " الحزب " او " المجمهور " او " المنظومة الايديلوجية " .

ه - لا يزال المكان الثقافي - المادى فى قبضة القديم التقليدى وتحت هيمنته هكذا يبدو النص العربي الابداعى ، نص المستقبل ، كأنه يتحرك فى مكان متخيل فى هذا المكان تذوب الحدود التقليدية التى ارتسمت كحدود فاصلة بين الانواع الادبية ، ولا يعود ثمة نوع صاف ، وانما ينشأ النص / المزيج ، النص / الكل . لهذا يبدو المكان ، ماديا وشعريا ، تفتتا فاجعا ، عائما فى سديم يتموج بين " المحيط والخليج " ويبدو كأن المكان الوحيد لكل خلاق هو هذا اللامكان .

اشترك في نشرتنا البريدية