مررت بك فى المقال الاول مرورا خاطفا وسريعا واتضح لنا من البحث أن المدن والقرى التى مررنا بها هى مدن وقرى تأريخية ، وقد رأينا كيف سكنها طائفة من العرب الأزد وكنانة وبنو حرام ومذجح ، ومن آل المهلب ، بيد أن الاغلبية من سكانها فى الناحية الشمالية من تهامة كأهالى حلى بن يعقوب وأهالى القحمة وبيش، وما جاورها من القرى ، أقول أن هؤلاء القبائل أغلبهم من كنانة وهم بطن من قريش فخذ قصى عشيرة عبد مناف (١) ولهذه الصلة الوطيدة طلبت قريش من كنانة تهامة الاشتراك معهم يوم أحد فى الحملة على صاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حيث أرسلت صفوان بن أمية فقالت يا أبا عزة انك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك واخرج معنا فقال أبو عزة ان محمدا قد من على وذلك يوم بدر فما زالوا يغرونه بالمال مرة وبالامانى مرة أخرى ، فخرج أبو عزة يسير فى تهامة ويدعو بنى كنانة بأشعاره الحماسية فخرجت قريش بأحابيشها ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة (٢) أما أهالى درب بنى شعبة الواقع فى الجهة الشمالية
والذى يبعد عن مدينة جازان بحوالى ( ٩٤ ) من الكيلومترات .
فقد اختلف المؤرخون فى نسبهم فمنهم من يقول انهم من قيس ومنهم من يقول انهم من وادى الدواسر شرق وادى الحجاز .
ويقول صاحب كتاب ( قلب الجزيرة ) انهم من قحطان من أصل سودانى ومن القبائل الرحل وليس لهذا الرأى شاهد . وقال بعض المؤرخين انهم من بلاد شهران وبلاد بيشة وان محلا هناك يسمى شعبة نسبوا اليه وانهم جاءوا الى الدرب وتغلبوا عليه .
أما أحد مؤرخى تهامة وهو صاحب كتاب ( نفح العود ) فانه قال تحت عنوان ( درب بنى شعبة ) ما يأتى :
درب بنى شعبة ويعرف قديما بدرب ملوح سماه هكذا أهل السير عند الكلام على غزوة المهدى أحمد بن محمد الى الحجاز إلى سرح من آل حب ابن أنمار حين سبا نساءهم فى أيام المتوكل على الله اسماعيل ، وان بنى شعبة هؤلاء اختلف الناس فى تسميتهم ، فمنهم من يزعم انهم من تغلب بن وائل بن قاسط بن هيت بن قصى بن عمرو بن اسد بن ربيعة بن
نزار . ومنهم من يرى غير ذلك ، وانما هم يسمون بنى شعبة تغليبا ، وفهمت من بعض رؤسائهم انهم من أكلب،وأكلب من خثعم يمانية وليست نزارية على أصح الاقوال لاننى رأيت محمد بن قيبة ذكر من ولد ربيعة أكلب نزار ، وربيعة منهم أناس دخلوا فى خثعم وهم قبائل وبطون ليست الى خثعم .
وتسمى تهامة الغور ذكر ذلك الهمدانى بصحيفة ( ٤٨ ) ولا أجد أى تعليل لهذه التسمية اللهم الا تعليلا واحدا وهو ان تهامة جازان أشبه ما تكون بوحدة تحت جبال السراة منصوبة إلى البحر قد حفرتها السيول الموسمية مما جعلتها من أخصب أراضى تهامة تربة ، حيث تنحدر اليها أودية عديدة وبسقية واحدة يأتى محصولها ثلاث مرات بين كل فصل وآخر زهاء تسعين يوما ، وهى لا تعرف التسميد وقد قال أحد الاختصاصيين العالميين ( جايلورد هاونرد ) ان الحبوب والفواكه التى تنبت فى تربة خصبة غنية غنى طبيعيا لا عن طريق التسميد الصناعى فالمواد الغذائية تحتوى من الفيتامينات والاملاح المعدنية على أربعة أو خمسة أضعاف عن غيرها وهكذا أرض تهامة لا تعرف التسميد الصناعى مطلقا .
أما هواؤها فهو رطب وبليل وبالاخص فى أيام الربيع حينما يتعطر النسيم بشذى الزهر والرياحين وقد قال الشاعر :
هبت لنا من رياح الفور رائحة
عند الرقاد عرفناها برياك وقال آخر :
هب نشر الصبا بنفحة عود يا ليالى الوصال بالله عودى وقبل الشروع فى بحث آخر علينا أن نعرف معا لماذا أطلق على تهامة جازان ، تهامة عسير ؟ ومتى كانت هذه التسمية ؟ وفى أى عصر كان ذلك ؟ وما هو اسمها التأريخى القديم ؟ فأقول :
أجمع المؤرخون بأن هذا الاقليم كان يعرف سابقا فى عصر الحميريين بالمخلاف السابع من مخاليف اليمن وبعد عصر الحميريين عرف بمخلاف عثر ، ذكر ذلك الهمدانى ص (١١٩) فقال : ومخلاف عثر وعثر ساحل جليل وعرف أيضا بالمخلاف السليمانى نسبة الى سليمان بن طرف الحكمى الذى كان حاكما فى هذا القطر فى أوائل القرن الرابع الهجرى ، ولا زال من أبنائها من يسمية بهذا الاسم حتى الآن .
وقد كان المؤرخون يطلقون على تهامة ، الغور ، ذكر ذلك الهمدانى وغيره من المؤرخين . أما عسير التى أضيفت اليها تهامة جازان فهى تقع فى الاتجاه الشرقى الشمالى ، ولا تمتد منازلهم اليها ، وليس لهم ميناء بحرى فى تهامة ، ولم يسبق لهم الاستيلاء عليها ، اللهم سوى فترة وجيزة كان منهم بعض أمراء باسم الحكومة السعودية وذلك فى عصر الامام سعود الكبير ، وحتى هذه المدة الوجيزة كانت هى أيضا مثار الاضطراب مما أدى بالامام سعود الى
فصل تهامة عن عسير ، ومن حق الباحث أن يعرف متى وقعت هذه التسمية ؟ وفى أى عصر كانت ؟ فقد انتهى بنا البحث بأنها وقعت فى عصر الحكومة التركية وذلك فى عام ١٢٨٥ هجرية وكانت تهدف من وراء ذلك الى تغير معالم الحدود التاريخية أو انها كانت تهدف لمصالح مالية أخرى .
وفى عرف المؤرخين القائلين أن فى أرض تهامة تهائم تنسب الى المدن المنصوبة الى البحر ، ولما كانت مدينة جازان هى الميناء الوحيدة لها بعد ميناء عسير التى قد دثرت والتى قد أشرنا اليها غير مرة ، فوجه التسمية التى تنطبق مع الحقيقة ومع التاريخ وكما هو مشاهد ومعروف انها تهامة جازان لا تهامة عسير ، أما تهامة عسير التى أشار اليها المؤرخون فهى تأتى مباشرة من شمال حلى بن يعقوب وتمتد حتى تتصل بتهامة الحجاز .
وقبل أن نختتم هذا البحث نقف لحظة مع بعض شعراء تهامة لنرى هل سجلوا لنا فى أشعارهم بعض مواقع تاريخية كما سجل اسلافهم ذلك من قبل ؟ وهل لهم عواطف مشبوبة يحسنون براعة التصوير عنها ؟ وهل لهم مقدرة على الابتكار والاختراع ؟ وهذا ما سنقرأه فى أشعارهم العربية ولكن لا ندرى من أين نبدأ هل من القريض الذى لا يعبر غالبا عن الهدف المقصود ؟ أم من المراثى التفجعية والتى تشعرنا بفداحة الخطب وعظم المصاب؟ أم نطرق باب النسيب الموجود حاليا أو كاد ان يوجد ؟ ولا بد ان نتسلل
من باب منها لنأخذ مقياسا كاملا عن شاعريتهم المرهفة ، اما المواقع التاريخية المذكورة فى أشعارهم فهى قليلة بالنسبة لكثرتها ووفرة الشعراء فنجد مثلا عمارة اليمن وهو من شعراء تهامة وقد توفى سنة (٥٦٩ ه) ذكر جبلى عكاد والعكوتين بقوله :
والقصيا أرض لا بلد تقع بجهه لعريش بلدة السيد أحمد الفتاح ، قد كنت وزملائى فى الشهر المنصرم نجوس خلال مزارعها النضرة ، ومنهم من ينسب البيت للشاعر ابن هتيمل أحد شعراء تهامة بيد ان المسودات التى قدمها الى أحد الاخوان تشير بان البيت لاحد القصاد لنوال الامير لقاسم بن على كما قلت آنفا واعتقد انه منحول على الشاعر ابن هتيمل لأن فيه ركاكة لتكرار لفظة هذا ثلاث
اذا رأيت جبلى عكاد والعكوتين من محل باد فأبشرى يا عين بالرقاد وجبلا عكاد هما فى درب بنى شعبة والعكوتان شرق وادى صيباه ونجد الامير القاسم بن على الذروى يقول :
لم يزل يشتاق نخلان وان
قدم العهد ويهوى الطنبا
ونخلان يقع فى الشمال الشرقى
المدينة صبيا .
ونجد احد القصاد لنوال القاسم
ابن على الذروى يقول :
الحمد لله هذا منتهى أملى
هذى القصيا وهذا القاسم بن على
مرات فى بيت واحد والادباء يعدونه عيبا فقد عيب على من قال وهو من أروع ما قيل :
لم يطل ليلى ولكن لم أنم
ونفى عنى الكرى طيف ألم
وابن هتيمل شاعر بمعنى الكلمة
استمع اليه فى بعض أشعاره حيث يقول فى قطعة فنية :
أنا من ناظرى عليك أغار
وارعنى ما زال عنه الخمار
يا قضيبا من فضة يقطف النر
جس من وجنتيه والجلنار
ومنها :
ورأت مفرقى فأفزعها ليل
تمشى فى حافتيه نهار
وسواد الشباب اشهى الى النفس
وان كان فى المشيب الوقار
إلى أن قال :
من معيرى قلبا صحيحا ولو
طرفت عين ان كان قلب يعار
لا الزمان الزمان فيما عهدناه
قديما ولا الديار الديار
ومن قوله من قصيدة قد أوردت
بعض أبياتها سابقا لمجلة المنهل وهو
من السهل الممتنع ومما يتردد على
ألسنة المواطنين :
أخى رد السلام عليك عار
ومن حق التحية ان تردا
فهذه الابيات وتلك لا تنسجم مع البيت المنحول ، وقد جاء ذكر القعيسا أيضا فى شعر الامير القاسم بن على في قصيدة قد أشرت اليها قبلا تحت عنوان ( اعرف بلادك ) يقول الشاعر : حبذا أرض القعيسا - وطنى ولييلاتى بها ما أطيبا
أما الموضوع الذى أردت أن أطرقه من الشعر فهو باب النسيب الذى قد وصد أو كاد أن يوصد كما قلت قبلا ، وان فيه متعة روحية ، والقافية التى اخترناها هى أيضا من المخمسات والتى يقال عنها ( مركب العاجز ) لنرى العجز أم نرى الجمال والفن والذوق السليم والمسودات أو الكراس الذى تحت يدى أورد القصيدة كاملة مع اختلاف فى الترتيب تقول للشاعر الصبيانى ولكن زميلى الاستاذ محمد أحمد عيسى يقول : انه الجراح بن شاجر الصبيانى الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى حيث توافرت له بعض المراجع التى لم تتوفر لدى ، واليك مقتطفات من القصيدة :
حدث عن الحى بذاك الحما
ففرقة اليوم لنوحى حما
وعن دمى فيه سفكن الدما
وعن فريق ياللوى عندما
فارقت أجرى مدمعى عندما
وهات يا سعد عن الابرقين
والعلم الشرقى والمغربين
ففى فؤادى حرق لوعتين
وكل عين قد افاضت بعينى
كالوابل الهامى لما طمى
بالله حقق لى وزدنى نبا
وهات لى عن أهل تلك الربا
ومن بهم قلبى المعنى حبا
وكل ما هب نسيم الصبا
بت عميدا هائما مغرما
ثم يصور لنا دنوه من حبيبه
وكأنك تشاهده وهو يقترب منه شيئا فشيئا :
وكم وقد نامت عيون الرقيب
طرقت بالجرعاء ذاك الحبيب
فى الحلة الوسطى التى فى الكثيب
فحين جاوزت الحجاب الرقيب
من داخل الستر لثمت الغما
فريع اذ قبلته وانتفض
وحاد عن مضجعه وانقبض
وقال من ايقظ جفنا غمض ؟
قلت الذى سن الهوا وافترض
وصير الحب له مغرما
وبت احسو من لماها المدام
وفزت منها ببلوغ المرام
حتى انجلى وانجاب جنح الظلام
وجرد الصبح علينا حسام
تغيبت منه نجوم السما
ونكتفى بهذا القدر اليسير من
هذه القصيدة ، وهذا النوع من الشعر
فى تهامة يتطور بتطور الزمان بيد انه يعطينا فكرة صحيحة عن الاحاسيس المرهفة والافتنان فى التصوير وبين يدى باقة شذية أخرى قالها أحد الشعراء أو أحد قضاة العصر الادريسى فنراه يلف ويدور فيها بل ويغالط مغالطة طريفة حين يقول :
وتنزهت أن أقول وان
أطر بنى الشعر خصره ونهوده
بينما قال الخصر وقال النهود
واليك بعض أبياتها :
لطلى الرمل مقلتاه وجيده
والى الجلنار تنمى خدوده
ذو قوام كأنه غصن بأن
يتثنى مع الصبا أملوده
وجبين كأنه القمر الزاهـــ
ـر فى الصحو قارنته سعوده
طيب الثغر تحسب الخمرة قد شجت
بثلج عذب الرضاب بروده
فاتر الطرف وافر الظرف أقنى
الأنف الى الشفاه طلع نضيده
زاد تلك العقود حسنا إذا
زانت سواه من الحسان عقوده
وتنزهت أن أقول وان
اطربنى الشعر خصره ونهوده
لامنى عذلى عليه ولكن
قول من قال حامض عنقوده
حسدونى فخاب حاسدى اللائم
فيه وقد أطيع حسوده
فعرفت الصدود والميل منه
فبرا الجسم ميله وصدوده
وكأنى فى ليلة فزت فيها
منه بالوصل والتجنى يذوده
حين برد الشباب منى قشيب
ذو طراز لم يبل بعد جدوده
لست أنسى وقد أتت تتهادى
سحرا حولها من الحى غيده
كشموس على غصون على أحـــ
ـقاق رمل لم يمس غيث يجوده
وتمتعت ساعة وحيائى
ثم والدين لم تحل بروده
غير ضم ورشف ثغر وتقبيـــ
ل خديد يروقنى توريده الى أن قال :
فنعى الديك ليلنا وسرورى
ناعقا والصباح لاح عموده
ففؤادى يذوب وجدا ودمعى
فوق خدى بين أخدوده
من يكن سالم الفؤاد فانى
بسهام من اللحاظ عميده
هذه لمحة خاطفة طرحتها بين
يديك حققت لك فيها مدنا وقرى
تاريخية فى تهامة وما طرأ على
أسمائها من تغير وتحريف والتى لا
يزال بعضها تحتفظ باسمائها القديمة
مستمدين البحث من مراجع تاريخيه
مع الاشارة إلى كل كتاب منها لتكون
الفائدة أعم وأشمل ولم أغفل أيضا
بعض عادات وتقاليد قبلية استدعى
المقام ايرادها ، وأخيرا ختمتها بباقة
من الشعر ، وعندما تسنح الفرصة
سأقدم بحثا أحسن ان شاء الله .
والى اللقــ جازان
(( تم البحث ))
