ليأذن لى القارئ الكريم فى استعمال كلمة ( الحبيبة ) قاصدا تونس . فقد سافرت من بلدى الحبيب مصر الى تونس الشقيقة . وطاب لى المقام رغم قصر المدة ، عل أرضها وبين ناسها الذين يستقبلون الحياة بوعى وفهم . وليس أدل من اسم ( الحبيبة ) نشير به الى تونس التى يرأس جمهوريتها المناضل الرئيس الحبيب بورقيبة ، كما أن اسم الحبيب معروف فى تونس ، وتتميز به عن سواها من البلدان . ومن الاسماء المشهورة الدكتور الحبيب تامر ، والحبيب بوقطفة وغيرهما . فلا أقل من استعارة الاسم ، ونقول ( الحبيبة تونس ) . والحب أقصده للبلاد الساحرة التى حباها الله طبيعة خلابة ، وتنفرد بموقعها الساحلى الفريد على البحر المتوسط . ان الخضرة تنتشر فى كل مكان . . على الروابى والتلال كل شئ أخضر ، الشوارع تصطف على جانبيها الاشجار . وتتوزع الحدائق العامة فى أرجاء متفرقة من تونس العاصمة . وأنا مفتون بكل شئ أخضر . فهل بعد ذلك يسأل سائل : لماذا تونس بلد محبوب ؟ . وللحب أسباب أخرى ، منها جامع الزيتونة وحي الزيتونة . يتشابه الجامع والمنطقة المحيطة به ، بالجامع الازهر وحي خان الخليلى فى مصر . أحببت فى تونس تراثها الاسلامى ، وما شعرت أنى غريب . لهذا كله ، يتوزع حبي بين الارض والتاريخ والناس .
قبيل سفرى الى تونس ، توقعت أن أجد اللهجة التونسية غير واضحة ، مما يخلق صعوبة فى البداية لأتاقلم على سماع كلمات جديدة وأضع ما يقابلها . لكن توقعاتى لم تكن فى محلها ، اذ اسمع المواطن التونسى يحدثنى ، فلا أجد ما يتعذر على فهمه ، فاقتراب اللهجتين المصرية والتونسية أمر لمسته ، وليس الا كلمات بسيطة يمكن للانسان أن يستوعب معانيها بسرعة ، مثل : ( نهج ) أى ( شارع ) ، و ( يعيشك ) أى ( تعيش ) و ( أهلا )
أى ( أهلين ) ، و ( باهى ) أى ( حلو ) ، و ( زربية ) أى ( سجادة ) وما الى ذلك . ويكاد يتقارب نطق الحروف فيما عدا القاف التى نقلبها نحن ألفا .
ولقد صادفت شعبا يعتز بأصالة ماضيه ، ويحتفى بأعلام مفكريه وقواده ، ويتطلع الى المستقبل بعين ملؤها الرضا والتفاؤل .
ومما توقعته أن أجد تونس قد شاه وجهها العربى بفعل رواسب الاستعمار الفرنسى القديم ، وكان استعمار ثقافيا ، على عكس الاستعمار البريطانى لمصر ، الذى كان استعمار اقتصاديا بالدرجة الاولى . وأرى أن الاستعمار الثقافى أسوأ أنواع الاستعمار ، فهو يبث قيما وتقاليد جديدة ، ويقوض أركان الثقافة والحضارة . هذا الاستعمار أخطر لانه يعمل على تغيير ما فى النفوس . إنه ينمى عقلية النشء بمفاهيم جديدة قد تسلخه عن واقع بلده ، و ان كانت رواسب الثقافة الفرنسية لم تنمح كلية حتى الآن ولمست هذا الاثر فى المطعم ، حيث يسهل التعامل بالفرنسية ، وقائمة الطعام لغتها فرنسية ، ولا توجد ترجمة عربية لها . كما أن لغة الادباء والشعراء والمفكرين هى الفرنسية . . بدأ بعضهم يكتب بها ثم تحول إلى العربية ، أو يكتب باللغتين ، أو ما زال يواصل الكتابة بالفرنسية .
وقد بذلت المحاولات لتعريب تونس ، لتحريرها من الفرنسية الطاغية على شتى مظاهر الحياة ، ان تعريب تونس نوع من الرغبة فى التحرر من التبعية بشتى صورها ، وهى قضية المفكرين والادباء التونسيين بالدرجه الاولى . مثلما شاءت تونس أن تتحرر من تبعيتها للباب العالى فى الاستانة ، فشاءت أن يكون لها علم تعرف به ، لكن اختيار شكل العلم جاء مشابها للعلم التركى . وحتى كتابة المصاحف ، كتبوا بالخط المغربى لتفريقه عن الخط الفارسى والكوفى
وبدأت تونس تتعرف على ملامح وجهها العربى ، فاستقطبت الكثير من المفكرين والادباء والفنانين فى مؤتمرات وندوات . ولعل ( مهرجان أيام قرطاج المسرحية ) خير مثال لهذا ، والاحتفال بألفية ابن الجزار ، والاعداد للاحتفال بخمسينية أبى القاسم الشابى ، فى مدينة ( توزر ) مسقط رأسه ، بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاته .
واذا ذهبت إلى جامع الزيتونة ، تعرفت أكثر على الوجه الاسلامى . ان تصميم الجامع شبيه بتصميم الجامع الازهر ، وملامح العصر الفاطمى واضحة فى كل من مصر وتونس . واذا سرت فى نهج جامع الزيتونه ، كانك تسير فى الموسكى وخان الخليلى والصاغة فى مصر . نفس الطرق الضيقة والمشربيات والمقاهى والقباب . . والاختلاف بسيط ، وخاصة فى المعروضات من المنسوجات والنقوش النحاسية ، وستجد محلات العطارة والمقاهى ، ان الوجوه المعتزة بانتمانها لهذا الحي الاسلامى القديم ، هى نفسها الوجوه التى نجدها فى مصر .
تصادف الروابى الخضر وأنت تنتقل من بلد الى بلد . الخضرة فى كل مكان ، والحدائق العامة تنتشر فى تونس العاصمة ، وهى متعة السائحين ، فقد حباها الله بموقع على البحر المتوسط يجعها بلدا يهفو اليه كل انسان وتحضرنى أبيات بليغة للشاعر جعفر ماجد :
بين بحرين استراحت مستحمه فأتاها العشق من هذا وذاك
أنت قطب كل من فى البحر أمه ليس يخشى حين يلقاه الهلاك
أنت عطر كل من فى الشرق شمه واشتهاه مثلما قلبى اشتهاك
تونس الخضراء والاشواق جمه لك من كل حبيب قبلتان
جسد الشاعر بلاده كامرأة يتزاحم العشاق حولها ، يخطبون ودها ، يستطيبون عطرها . فتونس بلد الروابى الخضر وأشجار الزيتون والبنايات البيضاء والالوان البهيحة الفاتحة الباعثة على السرور والانشراح . وتونس بلد الشعب الطيب الذى يشبه فى عاداته الى حد قريب عادات شعبنا المصرى ، وتونس بلد الحضارة الاسلامية والدولة الفاطمية ، التى امتدت الى مصر لتضع بصماتها ولمساتها الجمالية والمعمارية . وتونس بلد التحرر من التبعية بشتى مظاهرها . وتونس بلد سياحى بالدرجة الاولى ، تأخذ بأسباب الحضارة والتقدم ، قدر ما تسعفها الامكانيات والظروف .
