تعودنا على وجود ابطال متميزين فى أغلب الروايات وهذا التميز يجعلنا عادة قادرين على عل تصنيفهم حيث يكون منهم المجسد للبطولة والرجولة والدفاع عن الحق والفضليلة وما الى ذلك من القيم السامية وفى الطرف المقابل نجد حاملى لواء الظلم والحبروت والكبد وما الى ذلك من أساليب المراوغة والانحطاط الى درجة الاسفاف أحيانا .
وبين هذين الطرفين المتقابلين يقوم الصراع الذى لا هوادة فيه ولا رحمة وحسب نوعية الرواية تكون الخاتمة . إما أن ينتصر الخير وهى العادة المألوفه أو أن تسقط الضحايا أمام تسلط الظلم وهو ما نجده فى المأساة .
إلا أننا فى رواية " عائشة " للاديب البشير بن سلامه أمام صراع من نوع جديد .أمام ثنائية للصراع لم نتعودها من قبل حيث لم نجد البطل الذى آلى على نفسه تغيير الاوضاع بعد التمرد عليها والثورة ضدها . كنت أتصور عند قراءتى لعنوان الرواية أننى سأجد نفسي مع " عائشة " البطلة القادرة على تغيير الاوضاع المتعفنة ، الثائرة على نمط الحياة فى أسرتها وبئاتها المختلفة إلا أن ذلك لم يقع ، وكان صراع جديد ، فيه واقعية وتغير ، تلميح وتصريح ، باطن وظاهر ، ارتفاع وانخفاض ، صمود وتخل ، مجابهة واستسلام .
وهذا التناقض لم يقع بين طرفين متقابلين متميزين ولكن فى طرف واحد وفى فقرات متقاربة لا يفصل بينها أحيانا الا بضع دقائق .
المعادلة الأولى :
الطاهر = البيئة القروية
يجابه الطاهر عقلية تمسك القرويين بالبقاء فى القرية ويرسم لنفسه هدفا يتمثل فى الهروب الى العاصمة .
وفى هذه المعادلة نجد الطاهر ابن الخامسة عشرة من العمر " متبرما ببلدته متشوقا إلى ما يقصه الناس عن تونس وعن الدراسة فى جامع الزيتونه وعن القصور الجميلة المنبثة حولها والحدائق والمقاهى والملاهى " .
الطاهر فى الطرف الاول متبرم ثائر تواق الى السفر (1) ، مستهين بالصعوبات ، متغلب على الاخطار ، محقق لهدفه المتمثل فى الوصول الى العاصمة رغم محبته الشديدة لأمه وعدم قدرته على مفارقتها .
وفى الطرف الثانى من المعادلة والده وأعمام صديفه " عبد الله " التسلط والتحكم والرضا بالدون والهوان وما فرضه المستعمر عليهم من عبودية وتبعية . معاملتهم القاسية للابناء . عدم افساح المجال لتقرير المصير . عدم القدرة على التربية السليمة " يا لتعس حظنا ! لقد جئنا يا " عبد الله " فى زمن اختلت فيه الامور وأصبح الكبار عاجزين عن تربيتنا متهربين من المسؤولية " (2) .
جيل مستسلم للعادات والتقاليد وجيل يريد أن يغير وضعيته بالهروب من البيئة التى يرى فيها التخلف والخنوع والمذلة .
المعادلة الثانية :
الطاهر البيئة فى القصر
الطاهر الذى درس ثلاث سنوات في جامع الزيتونة متشبت ببعض العادات القروية مع التعلق ببعض المبادئ الاخلاقية السامية وميل الى الظهور بمظهر المثقف .
وفى الطرف المقابل " الفرريك مصطفى " سيادة فى القصر ، عبودية أمام الباي .
" عادل " هو افراز لوضع حاشية البايات المتعفن . انحراف جنسى . تناول حشيش . لعب قمار . ادمان على الخمر . استخفاف بكل القيم مع ميل ظاهرى الى الادب .
انعدام التواهن فى ثنائى الصراع :
فى هذه البيئة الجديدة يبدأ اختلال توازن طرفى المعادلة ليصبح الامر كله متحركا ضمن شكل دائرى ليس فيه طرف مقابل للصراع حيث إن المواقف لا تعدو أن تكون وقتية ليجرفها التيار الى الاتجاه العام الموجود فى قصر " الفريك مصطفى " .
هناك تفاعل داخلى للاحداث . عالم مستقل بذاته ، له قوانينه الخاصة ومساره العام الذى أصبح طبيعيا فى نظر أفراده ما دام سادرا فى طيات الكتمان والتستر فى حين أنه يعكس صورة قاتمة لوضع متعفن لا يسعى القائمون عليه الى تغييره لان فى ذلك التغيير نسفا لمصالحهم وقضاء على أهدافهم الشخصية وقد كانت المرأة فى مسرح الاحداث الضحية أحبت أو كرهت ، انساقت أو تمنعت ، رضيت أو تبرمت .
وفى تفاعل الاحداث تكون المرأة هى محط السهام والنبال ، لا يهم العمر واللون والعلاقة والقرابة . تداس الحرمات . يعتدى على الكرامة ، تذبح الفضيلة دون شعور بالندم أو الحسرة .
كان فى البداية طرفان للمعادلة ، مستنكر للدناءة وسادر فى الفساد ، متشبت بالقيم ودائس لها ثم تلاش هذه الظاهرة واندمج الطرفان الى حد الفناء فى اتجاه دائرى واحد ، مسرحه القصر وحدوده السياج الخارجى لذلك القصر الذى نستنتج انه امتداد لقصور البايات فى ذلك الحين ليمتد الى العاصمة ثم الى القرية .
" الطاهر " يمانع فى البداية الى حد الثورة ثم يتخذ من " دوجة " خدينة ، " فجذبها اليه فلم تمانع بل أزاحت الغطاء واندسست تحته " .
" زبيدة " عنوان الطهارة فى البداية ثم تنساق مع عادل فى أمور (3) كانت تأباها وتترفع عنها .
" عائشة "لم تصمد بعد خروجها من القصر ووجودها فى البيئة القروية التى فر منها أبوها فى مقتبل عمره بل انزلقت عن غير دراية فى متاهات الفحش والابتذال بعد أن كانت رمز البراءة والطهارة لانها إفراز لبيئات لم تجد أصالتها وإنما عاشت فى الزيف المطلق الذى هو حصيلة النظام السياسى القائم فى ذلك الحين .
تغير ثنائى الصراع :
تكاد تكون البيئة هى المنتصرة فى كل الاحوال حيث إن أبطال الرواية يجرفهم التيار الذى يكونون ضده فى البداية . وبذلك فان طرف الكبح والمعارضة والثورة يصبح فى ما بعد منساقا مع التيار الذى كان يعارضه إن لم يكن هو مصدر القضايا والمشاكل التى كان يحاربها بالموقف والرأى والفعل ويعمل على تحاشيها إن لم نقل القضاء عليها .
" عائشة " وهى فى السادسة عشرة من العمر مرت بأطوار عديدة ، " فطور قضته فى قصر " الفريك " تحف بها النعمة من كل جانب ويغمرها جو من الفن والسمو والرفعة والتقوى جعل ملامحها تتربى على الرقه والنظرة المليئة حنانا وذكاء . وطور قضته فى حي قرب نهج الباشا تشهد وهي صامته شريط الحياة اليومية الشعبية بحلوها ومرها ، بمفرحها ومحزنها ، بسفاسفها وعميقها وتعيش سير الزمن فى " العلو " بين مجالس العجائز وهيعات والدها ونزغات أخيها الناصر . . . وها هى اليوم تدخل طورا آخر من حياتها لا ترى فيه الحياة الحضرية . . . فهى مسجونة فى هذه الدار لا خروج ولا دخول اللهم الا المتنفس الوحيد " باب الجنان . . ." (4) .
إلى حد الآن ليس هناك ما يشير الى أى تحول فى المنهج السليم وليس هناك ما يخيف على هذه البنت " عائشة " ما عدا عدم خبرتها فى الحياة وعدم تهيئتها لخوض غمار الدنيا بحلوها ومرها ويسرها وعسرها واشراقها وعبوسها .
الى حد الآن " عائشة " لا حول لها ولا قوة ، ولا اختيار لها ولا قرار لها . تحركها بأمر من أبيها . وسلوكها رهن اشارته . وهى بدون شك حالة البنت فى ذلك الحين " لقد علمتها الحياة أن تسكت ولا تنبس بكلمة مما يدور بخلدها " (5) .
فكيف كانت بداية التحول ؟
التعرف على " سالم " الانيق ، الطيب ظاهريا ، المتميز بحب الكتب .
وقد مر هذا التعرف بمراحل متعددة الى أن أفضى الى ما لا تحمد عقباه بالنسبة ل " عائشة " التى هدتها المصيبة " ولم تقرأ حسابا لعاقبة ما انساقت اليه " (6) .
وقع التحول وضاع مستقبل " عائشة " ولكنها أصبحت مصدر استقطاب حيث داست قيما اجتماعية واخلاقية حيث تعمدت ربط صلة لا يقرها الشرع والقانون بأحد أبناء أخ زوجها الثانى ، ذلك الزوج الذى ناهز السبعين وسيقت اليه سوقا بعد أن فقدت الحياة فى نظرها كل قيمة " ويأتى الازهر الى " عائشة " فتحتضنه . . . " (7) .
لقد تعمد الكاتب جعل " عائشة " هى الراغبة فى هذا المسلك الجديد من حياتها ، وبذلك وقع التحول الكلى من الطرف الاول للمعادلة الى الطرف الثانى .
وهذا ما يمكن أن نجده عند أغلب الشخصيات فى الرواية حيث يقع التحول من حالة الى حالة ولذلك فالصراع ليس بين جبهتين وانما هو صراع داخلى يفضى الى الفناء والضياع بصور متعددة .
العلاقة الكيفية بين الاحداث :
إن العلاقة الكيفية بين الاحداث فى رواية " عائشة " هى علاقة تكاد تكون
واحدة فهى إما تولد الانهيار من الضعف ، أو التدرج بالقوة الى الضعف ، وبالضعف الى الانهيار ، وبالانهيار إلى الفناء بصور مختلفة ، قد تكون ناتجة عن التقدم فى السن بعد ضياع السطوة والجاه والقدرة على اتخاذ القرار ، أو تكون ناتجة عن تكاثف المشاكل وسلوك مسلك اللذة وتلبية رغبات الجسم المادية دون مراعاة الناحية الروحية فى غالب الاحيان .
كأن الواقع الاجتماعى والسياسى فى ذلك الحين طاحونة لم يسلم من رحيها أحد ، بصورة بطيئة تفضى الى الاضمحلال والضياع وبذلك كان التشابه فى مجرى الاحداث مع تنوع الصور .
ف " زبيدة " قوية الشخصية فى البداية لم يتمكن " عادل " من استدراجها " شكته الى سيدتها ونبهت أمه عليه تنبيها صارما . . " (8) . بل كان يخشاها رغم مكانته فى القصر الى درجة أنه طلب من " طاهر " أن يتوسط له عندها .
هذه الفتاة التى كانت رمزا للطهارة والاباء هى التى تخون زوجها مع " عادل " ويمكن أن يكون " ناصر " ابنها نتيجة حتمية لعلاقتها به . ولم يقف الامر عند ذلك الحد بل تصبح يوما ما فى نظر طاهر لا قيمة لها حيث يتزوج امرأة ثانية ويحيلها هى على " التقاعد " " وقد أصبحت لا يهمها من الامر شئ اذ هى تعتبر نفسها منذ زمان متاعا ، أو شيئا يتصرف فيه الطاهر من دون مشاورة أو أخذ الرأى " (9) .
العلاقة الكمية بين الاحداث :
وتتزايد الاحداث الى درجة التزاحم فى بعض الاحيان الا أن تزايدها يوسع دائرة الصراع ويقوى جبهة المواجهة بين الاطراف الذين تتغاير نفسياتهم وتتباين أهدافهم . وهو صراع فيه حدة وهدوء ، شدة وفتور ، بروز وخفاء ، نلميح وتصريح ، رمز ووضوح .
وهذا التنوع أضفى على الاحداث رغم كثرتها طرافة وجدة فهى أحيانا
مترابطة حيث يعتبر بعضها نتيجة حتمية لما سبقها من أسباب وهى طورا آخر فجئية تفاجئنا بعدم تماشيها مع تسلسل الاحداث وهى مع ذلك منعرج جديد لاحداث الرواية .
إن كثافة الاحداث وتنوعها جعل شخصيات الرواية فى صراع دائم مع الواقع الذى لا يتغير الا من سئ الى أسوأ رغم فترات الانفراج التى تلوح من حين لآخر . إن تحسن الاحوال يكون عادة على حساب التغاضى عن بعض القيم والمبادىء فالعطاء بمقابل . والرفع من المستوى لا بد من ثمن له . فالانسان فى رواية " عائشة " حائر الى حد التذبذب أحيانا . تائه فى متاهات الحياة لان الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى ذلك الحين اعتراها الوهن وتحكمت فيها المحسوبية والوشاية والاطماع والتسلط والجبروت .
إن الاحداث فى علاقاتها الكمية لا تهادن ولا ترحم ، واثر هدوئها النسبى زوبعة وانفجار لان أرضية الحياة غير مستقرة فى ذلك الحين والبلاد لا يتحكم فيها أبناؤها بل هى نهب للاجانب ومن لف لفهم من البايات وحاشيتهم وأتباعهم وأعوانهم .
" عادل " كان فى البداية لا هم له الا أموره الجنسية " فهو يرتع بين ثالوث من النساء . . " (10) . ثم واجه قضية ثانية تتمثل فى تمنع " زبيدة " . لكن يظهر أن ذلك هو وسيلة للهروب من واقع يراه الناس مشرقا فى حين أنه واقع أليم بالنسبة اليه . حاول أن يخفف من أزمته النفسية عن طريق إشباع ميوله الجسدية الا أن ذلك لم ينفع ولم يفد " أنا يا طاهر ضحية المجتمع الذى أضاع قيمه الانسانية ولم يقدر على الايمان بقيم هؤلاء القوم الاجانب الذين يحكموننا اليومة . . . أنا الذبذبة بعينها والخذلان المجسم " (11) .
ويزداد الامر تأزما بالنسبة الى " عادل " حين أظهر ميوله الوطنية ليشارك فى الحركة التى يقودها المثقفون للحصول على بعض الاصلاحات الاجتماعية إلا أن الطبقة الشعبية رفضته ولم تقبله لانها ترى فيه وفى عائلته صنيعة من صنائع الباى المرتبطة كليا بالنفوذ الاستعمارى " قصره كقدر الحلزون اذ يأكل
بعضه بعضا : الكبير من الخدم يظلم الصغير ، ويتعدى عليه فى ماله وبدنه وشرفه ، والاسياد يعيثون فى مال الفريك بالتبذير والعبث والاسراف وهذه العجائز الرائحات الغاديات على القصر يسلبن الاموال . . . وينهشن الاعراض ويحكن الدسائس والمؤامرات . . . " (12) .
ثم إن " طاهر " نفسه الذى كان يعتبره " عادل " صنيعة له ولأبيه لأنه انتشل من وهدة الفقر عن طريق القصر ، تآمر ضده وتعمد إهانته وإدانته ولكنه جابهه قائلا : " أنتم الوصوليون الفقراء الذين تعتزون بقدرتهم على اقتحام الحياة بجرأة ، ورقاعة لتقويم الناس وتأديبهم وإشاعة العدل نقمة على ذوي اليسار الضاربين فى الحضارة والمدنية أخطر الناس على البشرية وعلى الفقراء مثلكم " (13) .
وتزيد الاحداث اظهار أزماته النفسية وما يعانيه من تمزق وما يأكل روحه من نقمة وثورة على أقرب الناس اليه . فهو لا يعرف مفهوم العطف والحنان ، ولا وجود للاحترام والتقدير فى طيات نفسه لانه يستنقص حالة زبيدة ويراها كغيرها من النساء لا فضل لها ولا سمو ولا رفعة . هذا منتهى التأزم النفسى والضياع الروحى " ولهذا فانى أكرهها لانقد أنها كانت تقع فى حبائلى مثل غيرها . وهى لا تمماثلهم الا لانها عني وعن غيرى فى حصن من الآفات " ( 14 ) .
وتشمل هذه النقمة والده " الفريك مصفى " بل هى نقمة أشد ضراوة واكثر حدة " هذا والدى وهذا بيته . . سياسته سياسة النعامة . . سلوكه سلوك الغاشمين " ( 15 ) .
ولم يتوقف الامر عند هذا الحد بل نعداه الى النقمة على الدنيا كلها " أنا أكره هذه الدنيا وهذا المجتمع وهذا القصر . . . لو كانت في جرأة . ورجولة لنسفت هذا القصر وقوضته بما فيه . . . إننى أكرهكم كلكم " (16) .
هذه عينات من العلاقة الكمية بين الاحداث فى رواية " عائشة " وهى الاحداث التى تقلب دوما طرفي المعادلة لتجعل الامور تسير فى اتجاه واحد نتدرج من السيء إلى الأسوأ فينعم طرفا الصراع ليصيرا طرفا واحدا نتفاعل فيه التيارات ، وتنحته العوامل الداخلية والخارجية حتى يقع الانهيار التدريجى للشخصية مهما كانت قوتها أو ترفعها فى البداية .
نهايات ثنائى الصراع :
ليس هناك قوي قوة مطلقة فى شخصيات رواية " عائشة " فكلها قوية ضعيفة وضعيفة قوية ، تتأرجح دوما بين العلو والانخفاض والصعود والهبوط والسمو والاسفاف .
الحركة دائرية تفضى الى الذوبان والاضمحلال ، تنسد المنافذ فتترك ترسبات ، تلك الترسبات تنحت الشخصية وتضعف مقاومتها حتى تنهار كليا أمام الضربات التى تتلقاها من الناس ومن المجتمع .
" أبى محمد " : صمد فى البداية وحول مجرى حياة ابنه طاهر ولكنه انهار فى الاخير وأكلته الحسرة على مستوى الدناءة التى تردى فيها ابنه " الطاهر " .
" الطااهر " : أضاع شخصيته وبقي يتعاطى الحشيش رغم تقدمه فى السن ، مع عدم القدرة على تسيير شؤون أسرته .
" الناصر " : تقلب بين الانحراف والسجن ، أتى من الفواحش ما جعله فى أسفل درجات الحضيض .
" عادل " : نهايته السجن لانه مورط فى قضايا أخلاقية بعد أن رحل العز الذى كان يرتع فيه .
" عائشة " بعدما كانت عنوان الطهارة أصبحت المبتذلة المنحرفة المريضة الى أن قضت نحبها بمرض السل .
" الأزهر " : فقد أصيب فى يده اليمنى التى " دقت دقا " . فقد أصبح مشوه الجسم بعد أن كان شابا يافعا يتقد حيوية وقوة .
" خالد " : أصيب بشلل نصفى وأصبح غير قادر على النطق المفهوم بعد أن كان حرا طليق يرتع فى ربوع أوربا .
" سالم " نهايته فى حرب الهند الصينية وقد يفلت من الموت وقد يكون هدفا لاحدى الرصاصات دون أن يكون مدافعا عن قضية تهمه .
" زبيدة " : التقاعد الزوجى الى درجة أن الطاهر أصبح يناديها " يا أمي " .
تبرز لنا هذه النهايات المفعول السئ للأوضاع السياسية والاجتماعية التى تردى فيها المجتمع التونسى من بداية العشرينات تقريبا الى الحرب العالمية الثانية .
الخاتمة :
إن الانسان هو صانع مصيره الا أن مأساته تتمثل فى وجوده فى بيئة لا تساهم فى توفير المعطيات الضرورية لتأمين سلامة المسير .
ولهذا فرواية " عائشة " للاستاذ البشير بن سلامه أظهرت الانسان فى تلك الفترة من التاريخ على حقيقته بصورة فيها عمق وتشويق ، وتسلسل ومفاجأة
فهو ينطلق من الواقع المعيش فى البيئات المختلفة ويحدث بينها خطأ رابطا فلا تشعر بالانقطاع والتكلف .
فالبيئة القروية ربطها بالبيئة المتحضرة وبالبيئة الموغلة فى التقدم والتمدن رغم زيفها وبريقها الخادع .
إن رواية " عائشة " نبع ثري للاستخلاصات والاستنتاجات فهى من القلوب قريبة ، ومن الارواح أشد التصاقا ومن النفوس أكثر احتكاكا ، تفتح النوافذ على أوضاع قد تدخل البهجة على النفوس وقد تدخل عليها الكدر وقد تصدمها الى درجة الاستنكاف . ولكن الواقعية هى التى تحتم أن يبرز الاديب أدق الجزئيات مهما كان نوعها عن طريق التصريح أو التلميح أو الرمز .
إن رواية " عائشة " تحمل القارئ على التفكير فى مصير الانسان التونسى أيام الاستعمار . وتجعله يقدر ضراوة النتائج التى أصابت الشعب بكل طبقاته وفئاته ومستوياته . هى نتائج بشعة قذرة دنيئة ، ساحقة ماحقة لم
يسلم منها ضعيف ولا قوي ، كانت الاوضاع كالنار التى تأتى على الاخضر واليابس والحي والجماد لان البلاد ليست فى يد أبنائها .
إن " رواية عائشة " منبع ثري بالتأملات والايحاءات التى يمكن للانسان أن يجد فيها زادا لتحليل أوضاع عاشها الشعب التونسى وتضررت منها المرأة التونسية خاصة .
وفى " رواية عائشة " جدلية بين الحاكم والمحكوم ذهب الجميع ضحيتها لأن الحاكم فى ذلك الحين عبد لنظام استعمارى والمحكوم أسير أوضاع فرضت عليه بالقوة ومع ذلك فهناك قلوب نابضة وعيون ساهرة شعرنا بوجودها ويمكن أن تبرز فى الاجزاء اللاحقة من رباعية " العابرون " التى تعتبر " رواية عائشة " جزءا منها .
ويقينى أن فى الرواية جوانب أخرى يمكن ابرازها بعد التروي والتمحيص لانها ناتجة عن معاناة وعن تفاعل حقيقى مع واقع أصبح أثرا بعد عين ، وذكرى فى الخيال تدمي العيون وتقض المضاجع . ولكنها الحياة بتجاربها والدنيا بمرها وحلوها .
