الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

حديث وصراحة

Share

أزمة الضمائر :

منذ غابر التاريخ والشعوب في أي مكان وزمان تتعرض لأزمات متعددة تختلف قوة وضعفا . . أزمات في السياسة حين يقهر - بضم الياء - شعب من قبل آخر فيستبيح سيادته ويحوله من سيد الى مسود . .

وأزمات فى الاقتصاد حين يتعرض شعب لهزات وقلة فى مصادر رزقه وحياته المعاشية فيعاني من الفقر والجوع ما يعرض أفراده للموت . . وازمات فى الروح حين يعرضه غيره لتفسخ روحى يبعده عن تعاليمه ومثله . . وأزمات فى الحضارة والفكر حين يتعرض نتاجه الفكرى وتراثه الثقافى الى غزو حضارى يمحو سماته الفكرية ويجرده من صفاته الثقافية المميزة .. أزمات كثيرة تتعرض لها الشعوب منها ما يكون شرسا ومنظما ومنها ما يكون بسيطا وآنيا .. تلك سنة الحياة . . صراع الاقوياء مع الضعفاء وخلاف الاغنياء مع الفقراء وتباين البسطاء مع العقلاء انه الانسان مهما تحضر وتمدن لا يتخلى عن جبروت القوة اذا كان يملكها

يتنازل عن طغيان السيطرة اذا كان يقدر عليها . . واذا كانت هذه سنة الحياة فانه بالمقابل يمكن مقاومة الازمات والانتصار عليها فالشعوب الضعيفة يمكن ان تصبح قوية وتنتزع سيادتها من مغتصبها وهو ما حصل حين انتزعت امريكا سيادتها من بريطانيا بقوة السلاح . والشعوب الفقيرة الضعيفة يمكن ان تصبح غنية وقوية، واليابان فى العصر الحديث مثال حى لذلك . والشعوب المغزوة روحيا يمكن ان تصد ذلك الغزو وتقومه وهو ما فعلته أمتنا العربية حين انتصرت على التتار والصليبيين. والامة،يمكن ان تتخلص من تبعيتها الادبية والثقافية وترجع الى جذور فكرها وثقافتها القومية وهو ما حدث فى الجزء الغربى من العالم العربى في علاقته مع الثقافة الاجنبية حيث عادت ثقافة العرب وفكرهم الى ذلك الجزء منهم .

لكن ثمة أزمات يبدو صدها والعراك معها صعبا وشاقا . . انها أزمات الضمائر والاخلاق فى شعب من الشعوب حيث هى أقوى وانكى جراح تطعنه وتمزقه . . أزمات الضمائر هى أصعب ما يمر به فى صراعه من أجل البقاء . . أزمات الضمائر لا تشل الفكر ولا تعطل طاقات العطاء فيه ولكنها تنتج فكرا مريضا يفسد المفاهيم وينكس المقاييس الصحيحة فهى غزو ولكنها فى النتيجة اقوى من الغزو الكاسح ..

ان أمراض الضمائر وسيلة الاعداء الاذكياء وعدنهم المؤدية الى الاكتساح ، فالعدو الذى يصوب سلاحه ويرى - بضم الياء - بالعين المجردة هو عدو بارز يمكن مقاومته واذا انهزم المغزو يمكن ان يضمد جراحه وبجمع قوته المشتتة ويهجم مرة اخرى ولو باسبابه . أظافره وهو يستطيع مغالبة

الهزيمة وينتصر اذا كانت القوة موجودة فى ذاته ، ولكن الخوف من هذه القوة يجعل الاعداء الاذكياء يحاربون وجود هذه القوة او عودتها الى ذات المهزوم فهم لا يشهرون السلاح الا بعد ان يكونوا قد أماتوها في ذات المغلوب وهم خلال المحاربة الخفية لقوة الذات يتسترون بثياب الانسانية الحانية يبكون على القتلى وهم القتلى ويلوحون بأغصان الزيتون وهم يحملون معاول التخريب والدمار وفي اعتقادى ان اقسى ما تواجهه الشعوب المهزومة ان ينزرع المرض فى ضمائرها . . فى ذاتها . . فى تفكيرها وأخلاقها والشعوب المدركة هى التى تعرف كيف تحرر ضمائرها من الازمات وتنقى أفكارها من الشوائب وما أخال ذلك يتحقق الا بعد جهاد عنيف يذهب فيه العديد من الضحايا . . وبمعنى الكلمة ومدلولاتها يستطيع المرء ان يتصور ان تحقيق النصر للشعوب المهزومة مرتبط بصلاح الضمائر والاخلاق فيها بغض النظر عما تملكه من سلاح مادى وفى الجانب الآخر يتصور المرء ان فساد الضمائر والاخلاق فيها ما هو الا مقدمات واسباب للهزائم وتعميقها مهما كانت قوة السلاح المادى الذى تملكه . .

حديث المجانين :

قصة أحد المجانين تدل على قدرتهم في معرفة سلوك الانسان وتمييزه والحكم عليه .

انه مجنون يعيش في هذا الخضم من الحياة شبه شريد يتنقل بين الامكنة المسكونة ولكنه أبي وعفيف النفس يرفض كل المغريات اذا كانت مصحوبة بذل واهانة، وينبذ كل التسويات اذا كانت مربوطة بولاء كاذب يحارب النفاق فى كل صورة . ونظرياته لا

يهمه ان يعرض صراحة بشخص من الناس اذا كانت سيرته رديئة : يجسد وقائع الناس الحسنة والسيئة فى قوالب وأمثال محسوسة ويصورها فى أمثلة بسيطة قريبة من افهامهم ومداركهم . . هذا الجنون كان فى بداية حياته هادئا ورزينا ، ثم تحول الى مجنون صلف وقد تكون رزانته تلك بداية لاحتراقه في نفسه. .لعله كان ينتظر من الناس أن يعدلوا سلوكهم ويغيروا تفكيرهم .. كان

يلاطفهم ويباشرهم ثم أصبح لا يطيق السكوت فتكلم وزاد في كلامه . . هاج وماج حتى استقر به الجنون إلى حياة عفوية تعتمد البساطة وتبعد عن التعقيد وكان فى تردده على الاحياء المسكونة يسأل ويصف وفى ذات مرة سأل احد ((المتعلمين)) وكأنه يختبر عقله وفهمه: ((أخبرنى عن الرجل الذى يكون أسود وابيض )) فلم يعجب منه المسؤول ولم يأبه لسؤاله ولم يعاتبه لانه يعرفه ولكنه رد عليه ببساطة اللامعرفة :

(( هذا شئ لم نتعلمه ولم نجده فى الكتب )) فتعجب المجنون وغضب ثم سكت وسكت معه المسؤول والحاضرون . .

ترى ماذا كان يقصد هذا الجنون العفوى بسؤاله ؟ أهو يقصد شيئا معينا أم هو مجنون يقول ما لا يعقل . . لقد أجاب على سؤالى أحد الحاضرين بعد ان رحل عنهم بأن قصده ان الانسان الحقيقى لا يجمع بين ضدين من الصفات لا سيما إذا كان

تضادهما كبيرا ، او اذا كان من غير طينة الانسان الحقيقى . . فالانسان يمكن أن يكون فى سلوكه وفكره اسود ويعرفه الناس ويعاملونه على هذا الاساس ، لا ضير عليه إذا كانت طينته وجوهره من ذلك النوع . ويمكن أن يكون أبيض ويعامل على ذلك الاساس أما أن يكون أبيض الظاهر اسود الباطن جميل فى المظهر ورديئا فى المخبر فذاك أكثر خطرا من الأول، لأن الناس في معاملاتهم يفترسون في الغالب حسن النية . ان ذلك الذي يجمع فى نفسه بين ضدين متنافرين غاية التنافر هو من غير طينة الانسان . .

ترى قارئى العزيز أيكون كلام هذا الجنون صحيحا .. ؟

من قواعد التشريع :

ادرؤا الحدود بالشبهات . . حديث نبوى شريف يحوى هدف التشريع في أن لا يطال العقاب الا من يستحقه . . ينهى ان تكون المعاقبة مبنية على أساس من الظن والشبهة . ولا عجب فهذه القاعدة تنطلق من نظرة تشريعنا الجزائى العظيم بأن العقاب ما دام يمس الانسان فى شخصه وسلوكه فيجب ان لا يناله الا من ارتكب ما يوجبه . .

انها قاعدة عظيمة ترفض ان تكون الشبهة أساسا لايقاع الحدود . .

الرياض

اشترك في نشرتنا البريدية