الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

حول مفهوم الظرف

Share

لعل أجمع تعريف للظرف عند القدامى ( إن صح أن الظرف يعرف ) ، وأبينه دلالة على هذه الظاهرة المتعددة الوجوه ، البالغة التعقيد ما جاء فى (( الظراف والمتماجنين )) لابن الجوزي . قال :

(( الظرف يكون فى صباحة الوجه ورشاقة القد ونظافة الجسم والثوب ، وبلاغة السان وعذوبة المنطق وطيب الرائحة والتقزز من الاقذار والافعال المستهجنة . ويكون فى خفة الحركة وقوة الذهن وملاحة الفكاهة والمزاح . ويكون فى الكرم والجود والعفو وغير ذلك من الخصال اللطيفة . . . )) ( 1 ) .

فقد ألم فى هذه الفقرة التى جمعت بين الوضوح والبساطة ، وشئ من الايجاز والتركيز ، وإن أعوزها بعض الترتيب والتنسيق ، إلماما حسنا بمقومات الظرف الاساسية . . تك الخصائص التى لا بد من توفرها فى الشخص لكى يدعى ظريفا مكتمل الظرف . . . من حسن صورة ، ورشاقة جسم ، وأناقة زى ، وحب للزينة والجمال ، ونفور من القبح فى مختلف صورة وأنواعه - حسيا ومعنويا - وتوقد ذكاء ، وفصاحة وبلاغة ، وخفة حركة ، وحلاوة فكاهة ، وأخلاق فاضلة .

وكأنما استشعر ابن الجوزي حيرة القارئ إزاء هذه المعطيات الكثيرة الشديدة الاختلاف ، فعمد ، ليزيدنا بيانا وتدقيقا لمفهوم الظرف ، الى ابراز

الرابطة التى تؤلف بين هذه الخواص ، وتجعل منها وحدة متناسقة ، وإن تباينت عناصرها . وهذا التناسق ليس ثمرة الاتفاق والمصادفة ، ولا هو جمعا - مجرد جمع - ورصفا كما اتفق ، وإنما هو - الى حد كبير - وليد الانتقاء والتأليف على ضوء قاسم مشترك ومعيار لهذه الخصال والمزايا جميعا ، وهو اللطافة . كلمة متعددة الدلالات ، على ابهامها وعمومها ، ففيها معنى الرقة والرشاقة ، والخفة واللباقة ، والرفق والكياسة ، والبر والدماثة , والسمو والتهذيب ، سواء على مستوى المظهر والاخلاق ، أو الذوق والتفكير والتعبير . وفيها أيضا معنى الخفاء والغموض الذى يقترن بالظرف وبجميع الخصال العالية والمزايا النفسية النادرة النابعة رأسا من الطبيعة ، ثم تصقلها الصناعة ولكنها تعجز عن الاتيان بها ، فتقبى لغزا محيرا يستعصى على التفسير والتعليل . سرا ممتنعا هو سر الخلق والابداع  . .كل خلق وإبداع فى الحياة البشرية .

(( . . . وكأن الظريف مأخوذ من الظرف الذى هو الوعاء ، فكأنه وعاء لكل لطيف . . . )) ( 2 ) .

ويستدرك المؤلف ، بعد أن أعطى فكرة عن الظرف التام . صورة نموذجية منه لم تعرف ولم تكن واقعا معاشا الا فى عهد ازدهار الظرف ونضجه ( 3 ) ، ولم تتحقق الا عند فئة قليلة . . نخبة ممتازة من الناس . . صورة أقرب الى المثل الأعلى تطمح اليه أنظار الظرفاء ويسعون جهدهم فى الاقتراب منه , فيعرض لمفهوم ثان للظرف ضيق محدود ، ألصق بواقع الحياة وأكثر انطباقا عليه ، لأنه يرتبط بنماذج حية أكثر تداولا وشيوعا .

(( . . . وقد يقال ظريف لمن حصل فيه بعض هذه الخصال )) ( 4 )

ملاحظة جد صائبة تشهد بصحتها النصوص الموثوق بها من أمهات الأدب , ولكنها تثير اشكالات تضفى على هذا التعريف الملحق إبهاما كثيرا .

فأى هذه الخصال المذكورة أعلاه يستحق بها صاحبها سمة الظرف ؟ وما عددها ؟ هل يكفي المرء مثلا ، أن يكون ذكيا فصيحا بليغ اللسان ، أو رشيق

القد نظيف الجسم والثوب ، أو كريما جوادا حليما . . . لكى يدعى ظريفا ؟ ألا يكون ذلك مدعاة الى التباس الذكاء والفصاحة والبلاغة ( وغيرها من الصفات ) بالظرف ، وهى إن كانت جزءا من الظرف ومن خصائصه ، فهى ليست إياه , والا كان كل ذكى ، وكل فصيح بليغ ، وكل صبيح الوجه ظريفا ، واختلطت هذه المدلولات ، وانتفت الفائدة منها ؟

أليس يشترط شىء آخر ينضاف الى هذه الصفات الجزئية . . عنصر آخر جوهرى ، بمثابة روح الظرف وكنهه ، نحس به وقد يصعب تحديده ، ولكنه قائم الذات ثابت موجود ، وبفضله يتميز الظرف عن جملة هذه الخصال ويبين ؟ ( 5 ) .

فلو قارنا مثلا - تأكيدا لما نقول - بين الظرف ومفهوم آخر من أشد المفاهيم قربا منه ، وأوثقها صلة به ، وهو الجمال ، لوجدنا ، على ذلك ، فرقا بينا ملحوظا ، على دقته وخفائه ، يستحيل معه أن نعد الجمال مرادفا للظرف . . صنوا له مطابقا تمام المطابقة ، فالجمال شئ والظرف شئ آخر ، وليس كل جميل ظريفا ناصع الظرف ، ولا كل ظريف جميلا ، ومصداق ذلك هذا الخبر من الأغانى .

(( . . قالت سكينة ( بنت الحسين ) لعائشة بنت طلحة : أنا أجمل منك . وقالت عائشة : بل أنا . فاختصمتا الى عمر بن أبى ربيعة . فقال : لاقضين

بينكما : أما انت ، يا سكينة فأملح ( أى أظرف ) منها ، وأما أنت ، يا عائشة فأجمل منها . فقالت سكينة : قضيت لى والله )) ( 6 ) .

وقريب من ذلك : (( وكان خالد ( بن صفوان ) جميلا ، ولم يكن بالطويل ، فقالت له امرأته : إنك لجميل يا أبا صفوان ! قال : وكيف تقولين هذا ، وما في عمود الجمال ، ولا رداؤه ، ولا برنسه ؟ فقيل له : ما عمود الجمال ؟ قال : الطول ، ولست بطويل ، ورداؤه البياض ولست بأبيض ، وبرنسه سواد الشعر وأنا أشمط ، ولكن قولى : انك لمليح ظريف )) ( 7 ) .

وعبثا تبحث عن هذه الخاصة التأليفية التى امتازت بها فقرة ابن الجوزي ، على بساطتها وسذاجتها ، فلن تجد لها اثرا عند أصحاب المعاجم ، وعند سائر المؤلفين والمنظرين .

)) فاللسان )) على ما عرف به من تدقيق واستقصاء واستيعاب ، لا يقدم لنا سوى جملة من المعطيات المنتثرة المفككة ( يرويها عن السلف من اللغويين ) حتى لقد يخيل الى القارئ أن المؤلف يتحدث عن أمور شتى ومعان متباينة متباعدة ، مع أنه لم يخرج عن موضوع بحثه ، ولم يتخط الحقل الدلالى الذى عمد الى استكشافه . . . ركام من المعلومات كلها صحيح مقبول ، ناقص قاصر فى الآن نفسه ، لا يعدو أن يكون فكرة باهتة مجردة ، لان كلا منها يمثل عنصرا من عناصر الظرف . . وجها من وجوهه المتعددة الكثيرة دون التفات الى مجموع الظاهرة فى وحدتها وتماسك تركيبها .

(( الظرف البراعة وذكاء القلب . . وقيل الظرف حسن العبارة وقيل حسن الهيأة وقيل الحذق بالشئ . . الاصمعى وابن الاعرابى : الظريف البليغ الجيد الكلام . وقالا : الظرف فى اللسان . . . وقال غيرهما : الظريف الحسن الوجه واللسان ، يقال : لسان ظريف ووجه ظريف . والظرف فى اللسان البلاغة ، وفى الوجه الحسن ، وفى القلب الذكاء . . . والظرف الكياسة . . . )) ( 8 ) .

فكان هؤلاء اللغويين ، باقتصارهم على وجهات نظرهم الخاصة ، وإعراضهم عن النظرة الكلية الشاملة ، قد تقسموا كيان الظرف الحى النابض بالحياة ,

يتداولونه تقطيعا وتشريحا ، كل يبحث فى ناحية عن سره وجوهره ، وقد فاتهم أنهم بأيديهم قتلوا السر وأعدموا الجوهر والحياة .

ونلاحظ نفس العيب فى كتاب (( الموشى )) للوشاء الذى أفرد للظرف والظرفاء ، فقد انتهج صاحبه نفس الطريقة ، ولا فرق من حيث المضمون , إجمالا ، سوى ميزة تتمثل فى تأكيده وابرازه لجانب من أهم جوانب الظرف , وهو البعد الأخلاقى ( 9 )

وقد أشار الوشاء ، فى هذا الصدد ، الى ما بين الظرف والادب والمروءة من صلة وثيقة بحيث تتداخل هذه المعانى وتتمازج وتوشك أن تتحد فيعسر , لذلك ، الفصل والتمييز بينهما .

(( . . . يجب على المتأدب اللبيب ، والمتظرف الأريب ، المتخلق بأخلاق الأدباء ، والمتحلى بحلية الظرفاء أن يعرف ، قبل هجومه على ما لا يعلمه ، وقبل تعاطيه ما لا يفهمه ، تبيين الظرف ، وشرائع المروءة ، وحدود الادب ، فانه لا أدب لمن لا مروءة له ، ولا مروءة لمن لا ظرف له ، ولا ظرف لمن لا أدب له )) ( 10 ) .

والتوحيدي نفسه ، ذلك المفكر الألمعى والبحاثة المدققق الثبت ، لا يفيدنا ، حينما يعرض فى (( البصائر والذخائر )) لتعريف الظرف ، شيئا يستحق

الذكر . . . نفس النظرة المعنية بالجزئيات والتفاصيل ، المتجافية عن الاجمال والشمول ( 11 ) .

ولم نجد بين المحدثين من اهتم بظاهرة الظرف ، وعني بالقاء الضوء عليها سوى صاحب كتاب (( الظرفاء والشحاذون فى بغداد وباريس )) .

يقول صلاح الدين المنجد : (( . . . وإنما الذى يميز هذه العصابة ( أى الظرفاء ) من الناس هو ما تفردت به من صفات لا تجدها عند الناس جميعا . فقد كان لها عناصر بسيكولوجية خاصة ميزتها عن غيرها ، كرهافة فى العواطف ، واضطرام فى الاهواء ولطافة فى الشمائل ، وتتبع الجمال , والتأنق فى اللباس والطيب والزينة ، والهيام بالرياض والازهار ، والولوع بالطريف الذى لم تعرفه العوام ، واللباقة فى التعبير عن الاحساس والافكار , وزهو حلو يشتد عند المتظرفات ، وعناية بالشعر الغنائى الغزلى الذى يترجم عن العواطف والخواطر ، واحتفال بالحب والهوى ، وهيمان فى إثر اللذاذات والمجون )) ( 12 ) .

نلاحظ فى محاولته للتعريف بالظرف نزعة الى الربط والتأليف بين مظاهره وميزاته بغية إعطاء صورة وافية مكتملة منه ، إلا أنه يؤخذ عليه ، كما يؤخذ على ابن الجوزي نفسه انتهاج المنحى الوصفى فى التعريف ، دون التحليل والتجريد ، ثم التركيب والتأليف الذى من شأنه أن يكشف عن خصوصية الظرف الكامنة وراء الخصال المكونة له ، والمتمثلة فى طبيعة الظريف ، وفى النزعات الاساسية لشخصيته . . تلك النزعات التى تكسب الظرف لونه

وطابعه الفريد وطرافته وامتيازه ، كما تتمثل فى نوعية النظرة . . نظرة الظرفاء الى الحياة وموقفهم المتميز من المجتمع .

فالظرف أساسا نظرة خاصة الى الحياة وموقف خاص منها ، ومن الناس والأشياء . . موقف يلتقى فيه الحس الجمالى الحاد بالوعى الخلقى العميق ، فاذا مما وحدة لا تنفصم تحفز الظريف الى تجاوز ذاته على جميع المستويات ، فلا يستطاع لذلك تبين طبيعة هذا الدافع وتمييز عناصره لانه فكر وخلق وفن . . حاسة مشتركة التكوين ، واحدة الهدف والمفعول . فالظرف ليس علما ولا فنا ولا خلقا فحسب ، هو كل ذلك وفوق ذلك .

ولعله فى وسعنا ، على ضوء ما تقدم ، أن نحاول تقريب معنى الظرف , وتسليط مزيد من النور على حقيقته لا تعريفه ، لان الظرف ككل ظاهرة حية يتعذر تعريفه ، فالظرف صياغة فنية للحياة ، والظريف هو ذلك الذكى الخفيف الروح الرقيق الشعور يسعى جهده ليصوغ حياته - ذوقا وتفكيرا وبيانا وسلوكا - صياغة ممتازة ( 13 ) تنأى بها عن السخف والابتذال ، مع حرص على الأصالة والابتكار ، فالظرف كالفن تماما . . إنه خلق وإبداع أو لا يكون .

اشترك في نشرتنا البريدية