الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

خطبة حمارنا

Share

باتت أمى ساهرة . كانت عيناها محمرتين تدمعان من طول السهر... استبد التفكير بها استبدادا فنحل جسم أمى . كانت تفكر فى الغد المجهول ، وثقل الغد يقلقها . القحط الذى أصاب شياهنا ملأها ذعرا . . . فكانت نظراتها نحوى يملؤها الغيظ ، ويملؤها البغض أحيانا . أمى تكرهنى ، لأننى وقفت منها موقفا سلبيا ، عرفت أمى أننى مريض بآفة الجبن ، فحرضت ذات يوم كلب الجيران على وأنا غافل . مزق الكلب شفتى فتركنى أضحك للريح . وقطع لسانى فآزددت صمتا . لم أستطع منذ ذلك اليوم أن أخاطب الناس الا بسبابتى أو بايماءة من رأسى . كنت أشير خلسة لأننى أخاف ، ومن كثر صمتى أصبح الخوف جبلة فى نفسى . . لذلك كانت أمى تمقتنى ..

طالما انتصب خيال الغد أمام أمى . فرأته ثقيلا ثقيلا . . . شبهت أمى ثقل الغد بخطبة حمارنا ، عندما انتصب ذات يوم خطيبا بين شياهنا ، وهي تعانى الانتظار وسط حقلنا المجدب ...

كان حمارنا يخطب معجبا بخياله الطويل ، كاعجاب ديكنا (( شهلول )) بنفسه كل صباح عندما يواقع إحدى زوجاته . وهو معجب بذلاقة لسانه ، فدفعه هذا التيه الى أن يطمئن نعاجنا وهى خماص فى حقلنا يترصدها الجو ع موتا ، متفوها نهيقا : بأن هذا القحط الحائق بها ، هو خير وأى خير ، لأنه مملوء بالأمل - أمل الانتظار ... وضرب مثلا ببطنه الكبير الذى كان خاويا عندما كان جحشا لا يعرف السير مع القطيع ، وقبل أن يصاب بمرض الجشع .

أشار حمارنا بأذنه اليسرى الى جمع من الضباع كان يستمع الى خطبته ، رهمس فى صوت منكر بأن آستماع عدوه إلى خطبته واقتناعه بقوله هو خير دليل على حسن نيته .

كان كل ضبع ينظر الى حمارنا فيكشر ضحكا . . ويعرج عرجا بخطو يشبه الرقص ، أو برقص يشبه النديب فى المآتم . . فيتعالى عند ذلك نهيق حمارنا فيملأ الجو بأصداء منكرة . .

كانت شياهنا تنظر تارة الى بطنه الكبير المتضخم شبعا ، وتنظر تارة اخرى الى بطونها الخماص ، فيتعالى ثغاؤها توجعا .

أتم حمارنا خطبته التى بدت لشياهنا المتألمة جوعا طويلة ممله ، فأحاطت به الضباع تلاطفه وتحاوره ، وعيونها مسامير مغروزة فى بطنه ، وآنست منه غفلة فأنقضت عليه تشبعه نهشا وعضا وتمزيقا .

بطن حمارنا منتفخ شحما ، وملآن حشيشا ، لقد أكل كل ما جادت به أرض حقلنا المجدب . . .

حقلنا يسكنه ذئبان ماردان . . كانا يدخلان الرعب على قطيعنا بأمر من حمارنا . . كان القطيع كلما أراد التقوت من الحشائش الصغيرة التى جاد بها القحط ، أدخل الذئبان الرعب عليه ، فتروح النعاج خماصا كما غدت . وكان الربيع خيالا يراود شياهنا بلا ربيع ...

لما بطشت الضباع بحمارنا لم يتحرك قطيعنا ، لأن الخوف والمسكنة والسكوت صارت جبلة فيه . . عيون شياهنا تنظر تارة الى بطن حمارنا المبقور ، متشهية نصيبا مما حواه من حشائش صغيرة ، . . شياهنا من جوعها وخوفها تعودت أكل العفن من المزبلة التى (( يتبول )) فيها كلابنا .

الذئبان الماردان يسكنان حقلنا ، كان كلاهما فى جحره يكشر ضحكا يوم ممات حمارنا . . . لم يعد حمارنا منذ ذلك اليوم يدوس مع القطيع الحقل بحوافره ، فمماته جعله لا يوفى بديونه (( حملانا )) للذئبين ، مقابل حراستهما الحقل . و خرجا ذات صباح يدفعهما الجوع وخزا ، ولم يجدا حمارنا بل وجدا القطيع مستأنسا يقضم الحشائش القليلة ومطمئنا الى حقلنا الذى بدأ يحبل خصبا . ارتاعت شاهنا ، وآنضمت حزمة . . طالب الذئبان بدينهما الذى وعدهما به حمارنا ، فازداد القطيع انضماما ، ولم تستطع شياهنا حتى الثغاء . . .

وآنقض الذئبان على قطيعنا تمزيقا . . فنى قطيعنا . الا من بعض الحملان الجرحى التى فرت الى حضيرتنا المتداعية . . . عرفت أمى القصة كاملة عندما رأت حملاننا مجروحة فطار شبح الأمل الذى راود نفسها . . . بقيت أمى تنظر الى بعيد . . وقد آزدادت حمرة عينيها . . . وترسب الحزن فى اعماقها . . . كانت أمى تنظر الى الضباب ... تنظر الى اللاشئ ...

اشترك في نشرتنا البريدية