الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

دراسات أدبية ممتعة :, طه حسين مع الشعراء :، شوقى - حافظ - نسيم

Share

( لنحب سقراط وأفلاطون ولكن لنحب الحقيقة أكثر منهما ) . . ما أعظمها كلمة وما أروعها حكمة ارسلها عبر التاريخ الانسانى منذ أكثر من الفى سنة الفيلسوف اليونانى العظيم (( أرسطو طاليس )) فوضع بذلك اللبنة الاولى فى صرح الاستقلال الفكرى والحرية العقلية وسما بالعقل الانسانى الى أسمى مراتب التحرر والانطلاق وأعطاه حق الحرية المقدس فى مناقشة حقائق العلم والادب مجردا من عبودية المحاكاة ووثنية التقليد - وقد قدمت هذه الكلمة بين يدى حديثى هذا لاقول كما قال (( أرسطو طاليس )) لنحب طه حسين ولكن لنحب الحقيقة أكثر منه ، هذه الحقيقة هى بحث مدى الصحة والصواب فى آرائه النقدية التى أرسلها فى ثلاث قصائد لشوقى وحافظ ونسيم .

ومن عجيب الاتفاق أن يكون صاحب هذه الكلمة الخالدة هو الفيلسوف اليونانى المذكور مؤلف كتاب الأخلاق الذى ترجمه الى العربية فيلسوف الجيل الاستاذ لطفى السيد فأثار به ضجة أدبية كبرى انتعش بها الادب واحتفلت بها الاقلام وانطلقت بها القرائح - وانا

لا يعنينى من هذا الموضوع الا ناحيته الادبية وجانبه الفنى فقد ترجم لطفى السيد كما أسلفت كتاب الاخلاق واستحق ثناء الكتاب واطراء الشعراء وكان فى مقدمة أولئك الشعراء شوقى وحافظ ونسيم الذين تعرضت قصائدهم لنقد الدكتور طه فى أحاديثه التى كان يكتبها فى جريدة السياسة الاسبوعية فى يوم الاربعاء من كل أسبوع والتى جمعها أخيرا فى كتابه القيم (( حديث الاربعاء )) ، أجل لقد ظفر (( ابولو )) بثلاث قصائد غراء عطرت الجو الادبى بنفحات العبقرية ونسمات الخدود ولكن الدكتور طه لا يعجبه العجب كما يقولون فهو لا يعلم أن كاتبا أو مؤلفا مصريا ظفر بمثل ما ظفر به الاستاذ لطفى السيد من هذا الثناء المتصل والاعجاب الذى لا حد له ، ولا يعلم أن كاتبا أو مؤلفا مصريا فى هذا العصر أكره خصومه وأصدقاءه على أن يحمدوا له عمله فى غير بخل ولا تقتير ، ولا يعلم أن كاتبا أو مؤلفا مصريا فى هذا العصر أجرى اقلام الكتاب وأطلع ألسنة الشعراء بمدحه واطرائه كما فعل الاستاذ لطفى حين أذاع فى الناس ترجمته لاخلاق (( ارسطو )) وليس يعنيه ما كتب

الكتاب من رسائل وفصول وانما الذى يعنيه هو هذا الشعر الذى أطلق به الاستاذ ألسنة الشعراء ، وأى الشعراء ؟ شوقى وحافظ ونسيم ! فاذا كان من الحق عليه ان يهنئ الاستاذ بهذا الثناء الطيب فان من الحق عليه أيضا أن يقف عند هذه القصائد وهو لذلك يستأذن هؤلاء الشعراء ان يكون حرا فى نقد هذه القصائد فقد تعود الحرية وحرص عليها وأكبرها ان يضحى بها فى سبيل انسان مهما تكن منزلته من الناس ، ولو كان هذا الانسان لطفى السيد أو شوقى أو حافظ أو نسيم . . وبعد جولة طويلة جدا فى دهاليز كلامية يشبه بعضها بعضا يصل الدكتور طه الى قصيدة شوقى فيختار بعض أبياتها هدفا للنقد وغرضا للتجريح فيقول : ( ربما كان شوقى أحق الشعراء الثلاثة بان يعاتب فى هذا الموضوع فهو من بينهم قد تعلق بارسطو وأراد أن يشيد بذكره ويرفع من شأنه وخص له من قصيدته أكثر مما خص للاستاذ المترجم ولعلك تدهش ولعل شوقى نفسه يدهش إذا قلت لك انه لم يمدح أرسطو وانما مدح أفلاطون . نعم أراد عمرا وأراد الله خارجة ، ولكنه أراد عمرا بالخير فانصرف هذا الخير الى خارجة ، لأن الشاعر لم يحسن تلمس السبيل الى عمرو ، ولولا أن نفوس الحكماء راضية بطبعها لكان من حق أرسطو أن يخاصم شوقيا وان ينفس على أفلاطون استاذه هذا المدح الذى جاءه من حيث لا يحتسب أراد شوقى (( أرسطو )) وأراد الله افلاطون ، ولست فى حاجة

الى أن أطيل القول فى أن شوقيا لم يمدح أرسطو فيكفى أن تقرأ قصيدة شوقى لترى أنه يصف أرسطو بأنه سبق الى التوحيد وبانه كان قدسى الروح وبان لطفى صدى صوته الرخيم وبان رسائله كالسلاف اذا جرت فى جسم النديم ، واذا كان بين فلاسفة اليونان من سبق الى اعلان التوحيد فليس هو أرسطو ولم يكن أفلاطون بل ربما لم يكن هو سقراط أيضا فقد سبق فلاسفة اليونان الى التوحيد فى القرن الخامس قبل المسيح ، ولكن الشئ الذى يستحق العناية هو أن هناك فيلسوفا يونانيا يقرن الى المسيح وتعتبر فلسفته أصلا من أصول الديانة المسيحية ومصدرا من مصادرها وليس هذا الفيلسوف أرسطو وانما هو أفلاطون ، أفلاطون صاحب المثل ، أفلاطون الذى أمعن فى طلب المثل الاعلى والذى استطاع ان يرقى بالنفس الانسانية والفكرة الالهية الى حيث لم يسبقه ولم يدركه فيلسوف بعده )) وأخيرا يختم طه كلمته هذه قائلا لو عرف شوقى اله أرسطو لما استطاع أن يقول :

من كان فى هدى المسيح

        وكان فى رشد الكليم

ولكن الشئ المؤلم حقا هو أن يقول

شوقى عن أرسطو :

ورسائل مثل السلاف

      إذا تمشت فى النديم

قدسية النفحات تســــ

     ـكر بالمذاق وبالشميم

يا لطف أنت هو الصدى

   من ذلك الصوت الرخيم

أى الرسائل يريد ومن الذى يستطيع أن يزعم أن آثار أرسطو تشبه السلاف من قرب أو بعد ؟ ومن الذى يستطيع أن يزعم أن فى رسائل أرسطو شيئا قليلا أو كثيرا من هذه النفحات القدسية ؟ ومن الذى يستطيع أن يزعم أن صوت ارسطو كان رخيما ؟ )) .

الله الله يا دكتور طه ما هذا التجنى؟ وما هذا الاسراف ؟ وما عرفناك الا أديبا مصقول الذوق شفاف الشعور تطربه الكلمة الرشيقة ، والمعنى البديع ، وطالما رأيناك تقف عند القطعة الشعرية الخلابة وقفة الفنان الطروب والاديب الذواق ، فما لك وقفت هذه المرة تجاه هذا اللوح الفنى الرائع وقفة الحطاب من الشجرة لا يرى منها الا موضع فأسه من كعوبها ومفاصلها ، أما اخضرارها اللامع، وجمالها البارع، وفروعها المهدلة ، وزهورها المتفتحة، فذلك شئ آخر لا يهمه ولا يلتفت اليه ؟ أجل ما لك يا دكتور تقف ازاء هذه الوردة الباسمة بالنضارة والرواء المتألقة بالنور ، والعطر ، لتضعها بين أصبعيك وتوسعها تقليبا وفحصا ، لتعرف مما ذا يتكون نسيجها ؟ وكيف تتألف خلاياها النباتية ؟ ثم تلقيها من يديك فتاتا وجذاذا فى ضجر وتذمر ، لتقول انها لا شئ ؟.

عفوا يا دكتور اذا نحن خالفناك فى هذا ، ورأينا لانفسنا رأيا آخر ، وقلنا ان الشعر فن ، والفن يعتمد

على اللفتة البارعة واللمحة الخاطفة ، وهو لذلك لا يحمل كل هذه الحذلقة، ولا يتسع لكل هذا التطويل ، وقديما ضاق البحترى بمثل هذه الصفة فى نقاد عصره ، ممن يطلب ان تكون القصيدة كتابا ، والبيت خطابا فزجرهم بهذه الابيات الجميلة : كلفتمونا حدود منطقكم

والشعر يكفى عن صدقه كذبه

ولم يكن ذو القروح يلهج بالمنط

    ق  ما  نوعه  ما  سببه

والشعر لمح تكفى اشارته

     وليس بالهذر طولت خطبه

وبعد فهل كان شوقى مخطئا فى

قوله :

يا لطف أنت لنا الصدى

     من ذلك الصوت الرخيم

فيحق لطه حسين أن يزعم أن

صوت أرسطو لم يكن رخيما - معذرة يا دكتور اذا أنا قلت انك جانبت الصواب جدا وارتكبت أشد أنواع الشطط فى تفسير هذا البيت والا فما معنى قولك أن صوت ارسطو لم يكن رخيما ، هل كان شوقى يمدح مغنيا حتى تتعمد محاسبته على ظاهر اللفظ فى غير روية ولا أناة ؟ أم كان شوقى يمدح فيلسوفا استعمل فى الثناء عليه وسائله الادبية من الاستعمارة والمجاز ليبرز ذلك المعنى الرائع من خياله المجنح فى أبرز وأجمل صوره من صور البيان العربى وقديما قال الشاعر (( فانك ماء الورد ان ذهب الورد )) .

ثم يمضى الدكتور طه فى جولة من جولاته النقدية المبنية على

أصول النقاش العلمى بعيدا كل البعد عن روح النقاش الفنى ويلفت نظرنا آخر الامر الى هذه الابيات :

وسريت من شعب الألمب

         به الى وادى الصريم

فتجاور اللغتان فى الغــ

       ــايات فى الحب الصميم

لغة من الأغريق قيمــ

       ـة وأخرى من تميم

فاذا الدكتور يقول : (( ألاحظ قبل كل شئ انى لو كنت مكان شوقى لما ذكرت الالمب بعد أن زعمت أن أرسطو كان على نهج المسيح وفى رشد الكليم فالالمب مستقر الوثنية ، وألاحظ بعد هذا أن القافية قد عبثت بهذه الابيات عبثا غير قليل - فما وادى الصريم هذا ؟ وما صلة لطفى السيد بوادى الصريم هذا وهو انما نقل أرسطو الى وادى النيل؟ وما شأن تميم؟ وهل من الحق ان اللغة التى ترجم الكتاب اليها هى لغة تميم ؟ وهل نعرف لغة تميم حقا ؟ )) .

هل هذا نقد ؟ اللهم لا - أجل ان النقد الفنى لا يخضع ولن يخضع لهذه المقاييس الجامدة التى استعملها الدكتور طه وهو عميد الادب العربى، وأنا أحب أن أسئل العميد : هل كان شوقى يقصد هذه الالفاظ لظواهرها الحرفية ومدلولاتها الاصلية بمعنى هل كان يقصد بكلمة ( الالمب ) ناحيته الدينية ؟ وهل كان يقصد بوادى الصريم حرفيته بالذات ؟ وهل كان يقصد بكلمة تميم هذه القبيلة المعروفة ؟ أم هو استعمل هذه الاعلام رموزا وايحاءات للمعانى الشعرية التى وثبت بها عبقريته الى أسمى مجالات التصوير الفنى والأداء الخلاب - اللهم ان هذا نقد جائر لا يعترف به الادب ولا تقره الاصول الفنية . . وبنفس هذه المسطرة والبركار نقد الدكتور طه قصيدتى حافظ ونسيم اللتين نرجو أن نتحدث عنهما فى فصل آخر ؟؟؟

اشترك في نشرتنا البريدية