الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

دراسات غربية, هيجو فى الحياة، ١٨٠٢ - ١٨٨٥ م

Share

كان (( لامارتين )) الشاعر الفرنسى المشهور فى أوج عزه ، وقوة شبابه متنعما بالشهرة الطائرة ، ومحتلا زعامة الادب الفرنسي حينما طلع نجم (( هيجو )) فى عالم الادب فنقش اسم (( هيجو )) فى سجل الآداب الفرنسية ، وصاحبه لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره ولم يعبأ به أحد فى بدأ امره ؛ ومن كان يتصور ان هذا الطفل سيزاحم كبار الادباء امثال (( لامارتين )) في مراكزهم ؟ ! ومن كان يخال انه سيناقشهم مناقشة حاسمة حتى يحتل أمكنتهم ويستولى على سلطانهم ؟ !

وفى الحق ان الادب الافرنسي يوم ظهر نجم " هيجو " كان يتخبط فى غياهب التقليلد القديم ، ويتضجر من آلام الضعف ، وببكى مادته التى يراها تلفظ آخر أنفاس الحياة ؛ فكان (( هيجو )) هو الطبيب المختص الذى عالج أمراض الأدب وكان هو البطل الوحيد الذي بعث الحياة فى هذا الادب ، وكان قد القحه من شبابه وغذاه بآماله ، فعاد ذلك الشيخ الهرم شابا قويا فى زهرة الحياة . . وكان هو الزعيم الفريد الذى نهض بالادب بعد النضال الشديد ، فاخرجه من ذلك العالم المظلم الى عالم آخر مشرقة انواره ، والبسه حلة قشيبة بديعة ، بدل تلك المرقعات البالية (( فهيجو )) أذن هو زعيم الادب الفرنسى فى القرن التاسع عشر غير مدافع !

ولادته ونشأته

ولد (( فيكتور هيجو )) (١) فى فرانسا سنة ١٨٠٢ م من ابوين من كبار الشعب واغنيائه . فقد كان ابوه من عظام قواد الامبراطورية الفرنسية إذ ذاك وكان

هيجو - وهو طفل - يتبعه فى غالب اسفاره الحربية ، فانتقل معه الى ايطاليا ثم الى أسبانيا فشاهد تلك المعارك الهائلة ونشأ بينها ، فجعلت منه رجلا يعرف قيمة الحياة ويعرف لماذا يعيش الانسان ،وأراد هيجو ان ينظم تلك المعارك واذا به يرسمها بقلمه الساحر رسما دقيقا وتصورها تصويرا رائعا ولا أنسي ذكر قصيدته الخالدة (( بعد المعركة )) تلك القصيدة التى جمعت بين تصوير الشجاعة والنبل ، والحماسة والحلم والتضحيه والرأفه بالضعيف حتى ولو كان عدوا لدودا ! واليك ملخصها : -

(( بعدما انتهت المعركة بين الاسبانيين والفرنسين تلك المعركة التى انتصر فيها الفرنسيون خرج القائد هيجو والد الاديب فيكتور هيجو ، يجول فى ميدان الحرب وبينما هو كذلك إذ سمع أنينا فتأمله واذا به أحد الاسبانيين الجرحى ملقى بين جثث الاموات ينادي بصوت خافت : (( اسقونى )) !! اسقونى !! ولما اقترب القائد منه ليسقيه صوب الجريح اليه بندقيته ورماه،فسقطت الطلقة أمام القائد ولم تصبه ، فالتفت فى تلك اللحظة لخادمه وقال له : (( اسق هذا المسكين على كل حال ؟ !

حياته الادبية

كان هيجو فى منتصف العقد الثانى من عمره حينما ظهرت ثمرة قريحته الاولى فى عالم الادب

وبرغم حداثة سنه اخذت فرائده تتري ، فالتفتت انظار الادباء اليه ، ومنحه (( شاتو بريان )) احد كبارهم لقب (( الطفل السامى )) وما كاد يتم عقده الثانى حتى ظهرت اشعاره مجموعة ، واعتبر خصما للامارتين ، واستمر فى التأليف ، فاصدر (( اوراق الخريف )) ثم )) المشرقيات )) ثم الاصوات الباطنية )) وغيرها من الدواوين الشعرية التى يقف الانسان مدهوشا امام متانة اسلوبها ، وتدفق

خيالها ، وجمال مناظرها ، واستطاع (( هيجو )) وهو لا يزال فى الخامسة والعشرين من سنه ان يلفت انظار الملأ حوله ، وفعلا كثر المعجبون ، به وتجمهرت أتباعه فاخذت حينذاك فى تجديد القديم وتقوية الضعيف ووضع الاوزان الجديدة فى الشعر التى لم تكن معروفة قبله واشتدت المعركة بينه وبين خصومه ، وحمى وطيسها ، وكان محورها (( الأدب المسرحي )) واخذ هيجو يظهر كل آن مسرحيات جديدة لم تكن عرفت فى الادب الفرنسي بعد . ودامت الخصومة بينهم وبينه عشر سنوات متوالية ، اى حتى انخرط هيجو فى سلك الاكاديمية وغاص فى بحور السياسة .

حياته السياسية

وفى سنة ١٨٤١ قبل هيجو عضوا فى الاكاديمية الفرنسية ، وخاض الحياة السياسية فعين عضوا فى المجلس الفرنسى الاعلى في ولاية (( لويس فيليب )) وعين نائب الشعب فى عهد الجمهورية الثانية ؛ وحقا لقد كان لسان حال الامة الفصيح يدافع عن حقوقها ويذود عن حريتها بكل اخلاص ، فهجر فى سبيلها الادب ، وانقطع عن الشعر والكتابة ولم يعد اليهما الا بعد مانفي الى البلجيك فى شهر ديسمبر سنة ١٨١٥ ومن منفاه اخرج تلك الاهاجي السياسيه والرسائل النقدية اللاذعه ، (( كالعقوبات )) (١)  التي نال فيها من نابليون الثالث ، ومن هناك ايضا اصدر تلك القصص الحزينة والمآسى المؤثرة كالبؤساء وعمال البحر وغيرهما . ولم يؤب الى بلاده الا بعد ان قضى تسعة عشر عاما فى المنفي تعد من اخصب ايامه الادبية . وفى سنة ١٨٧٠ هبط أرض فرانسا ولكنه لم يطق الحياة السياسية كما كان يظن بل جمع بين السياسة والادب وظل مستمسكا بزمام قيادة الفكر والامة محرجا للناس درره المثرية والنظمية .

اخلاقه ونهايته

كان هيجوا يحمل بين جنبيه نفسا عالية وكبرياء عظيمة ، غير ان حلمه ورزانته ومتانة اخلاقه هى التى كانت تغطى تلك الكبرياء ولكنها كثيرا ما تظهر فى خلال كتاباته التى حررها فى حالات الغضب والتأثر . وكتاب (( العقوبات )) يشير الى ماقلناه .

وكان هيجو يحب الاطفال الى حد الافراط ، وكانت له بنية كانت غرامه وبهجة حياته . وفي ذات يوم بينما كان يتجول معها على ضفاف (( السين )) اذ سقطت بغتة فى النهر فاختطفتها امواجه المتطلاطمة بسرعة جبارة ،فذهبت الى مقرها الاخير وتركت اباها يندبها ويبكيها صباح مساء ،بدموع عينه وعبرات قلمه وظل بقية حياته حزينا عليها . وقد كان احد الاساتذة الفرنسيين يؤكد لنا ان جميع كتابات هيجيو التى حررها بعد فقدان ابنته تتضمن حزنه عليها وكان يستدل بقصائد هيجو الكثيرة ، ومنها قصيدة يقول فيها :

(( انى كلما جلست على كرسى فى احد البساتين العمومية لا اشعر الا والاطفال تلتفت حولى ، ولما ادر لم ذا ؟ ! هل لأنهم يعلمون انى احب مثلهم الطيور والهواء والازهار ! ويعلمون انى مسرور مثلهم،واكثر منهم فيما سلف ؛ . فيؤكد هذا الاستاذ بان هيجو يعنى بقوله : ( فيما سلف ) قبل وفاة ابنته .

ومما يحكى عنه ايضا أنه كان يجمع أحيانا أطفال جيرانه فى مسكنه ، ويضع لهم عسلا فى صحن فوق منضدة مرتفعة ، فيحاول الاطفال اقتحام المنضدة والحصول على العسل ، ويظل هيجو على مقربة منهم يرمق بعين السرور حركاتهم وسكناتهم وبعد ما بلغ من العمر ثلاثا وثمانين سنة أفل نجمه وذلك فى سنه ١٨٨٥ ، بعد ما احتل مركزا عاليا فى قلوب الامة الفرنسية التى كانت تقدره . وقامت حكومته بدفنه فى موكب رهيب لم يسبق له مثيل .

اشترك في نشرتنا البريدية