مهداة الى المجاهد الاكبر بمناسبة مرور 24 عاما على 18 جانفى 1952 وقيام مظاهرة حمام الغزاز المسلحة فى 24 منه
نصبت الرحى وطوت رجلا ومدت أخرى ، وتهيأت لادارة الرحى ولكن زوجها رشاد على خلاف عادته يعود ومعه أدواته التى يقتلع بها الحجارة فيرميها فى ركن البيت ، وينفتل سريعا يبتغى الخروج فتتوقف فاطمة عن الطحن وتقول سائلة محتارة :
- رشاد فين ذاهب ؟ . ألم تقل انك ذاهب لقلع الحجارة .
غير ان رشاد يتصامم فتعيد عليه السؤال فيتوقف وظهره الى باب السقيفة ، والتفت متجهم الاسارير ليقول لها : - نعم . - ولكنك أعدت ( حرجك ) كله . - ( صاحبى عبد الله جاء ( بحرجه ) من دار علوش وهما أحسن مما عندنا ) وضحك ضحكة فيها اكثر من معنى ويفتح رشاد باب داره ويخطو خارجا ولكن صوت زوجته فاطمة يتردد ثانية ( رشاد رشاد ) فيتوقف قليلا ليقول لها بعد أن سمعها تؤكد عليه حضور الفطور فى الوقت المحدد .
- فهمت ياللا ومع هذا فقد اتأخر ولا حاجة بى الى العصيدة اليوم ، ولا تنسى اذا ما جاء احد يسأل عنى وخاصة عبد الله فأخبريه أنى هناك ( بالغويرفه ) أنتظره .
رجعت فاطمة الى رحاها تطحن (( درعها )) . وهبت ريح جانفى القاسية مصحوبة برشاش ثلجى أصاب رقعة الرحى فنظرت فاطمة الى السماء باكتئاب وهى تجمجم ( هذا الشتاء هم ) واغلقت فردة الشباك وعادت الى ما كانت فيه ، تدير رحاها وتتنغم كصوت مذياع اضطربت فيه ذبذباته .. كانت زائغة
العينين واحيانا ساهمة تفكر ، زوجها اليوم فى حالة غير عادية . خرج لعمله كما كان شأنه ولكنه عاد على غير انتظار ، وزعم لها أن صاحبه جاء بأدواته وهى أحسن مما عنده ، ثم ها هو يوصيها بان تخبر صاحبه ان جاء بان يلتمسه فى الغويرقة . وكانت تطمئن لولا انه أخبرها باحتمال تأخره . ترى زوجها اليوم تكاسل عن العمل ؟ هى تعلم أنه محب للدخان كثيرا ولا يستطيع ان يعمل بدون سجائر ولكنها سمعت منه البارحة أنه لم يعد يشتهى التدخين وأنه يتمنى ان لو كان الاضراب العام عن التدخين مدته الدهر كله فلا هم كالدخان يحطم الجسم ويخلى الجيوب ، وانه منذ قيام هذا الاضراب لم يعد يشعر بحاجة الى الدخان .
زوجها اذن لم يتكاسل عن العمل والاضراب عن التدخين لم يكن ليعوقه عن العمل فقد ذكر انه على العكس انبعث فيه نشاط وحيوية غير معهودة ، ومنح سعة من الحلم والصبر ما جعله متسامحا مع جاره الحاد الطبع وسميه فى هيأة الشعبة فقد كان محيى الدين عصبيا لا يقبل النقاش أبدا . ورغم كونهما جارين فكثيرا من الاحيان ينفض الاجتماع ، ويرجع كل واحد منهما منفردا من طريق غير طريق صاحبه . أما اليوم فقد رأتهما فاطمة متلازمين كتلازم الظل للظل . وانتهت من طحن درعها ورفعت رحاها ، وفيما كانت تمسحها من الدقيق اذ بصوت يناديها : ( فاطمة ... يا فاطمة ) . صوت كصوت التائه المذعور ولم تسرع فاطمة ولكنها أجابت :
- شكون ؟ - ايجه . - خير إن شاء الله . - أنت موش سامعه ؟ - سامعه الخير والبركه .. كنت أرحى ، وأسندت الرحى على حافة الافريز ، وخرجت لتجد عائشة مطلة عليها من فوق الجدار ، مكفهرة الوجه شاردة العينين : - اسمعى يا فاطمة ثم شئ اليوم . استمعى وأمالت فاطمة رأسها تحاول التقاط الاصوات ثم هزت رأسها : - أظنه نشيد (( حماة الحمى )) . وأجابت عائشة :
- هو صحيح ، ماذا ببلدتنا اليوم . وافترت شفتاها لتقول : - حكى لى سى محيى الدين أن الحالة غير طيبة . - كيف ؟ - يقول إن أهالى قليبية حاولوا منذ ستة أيام أن يقوموا بمظاهرة احتجاجا على سجن الرئيس ولكن الجندرمة منعتهم ...
وفى الوقت الذى كانت تقص عائشة على جارتها فاطمة ما سمعته من زوجها محيى الدين وما كانت عزمت عليه حمام الغزاز اليوم من تنظيم مظاهرة مسلحة . كان الطوار وعبد السلام وصاحبهما عبد الله ورشاد قد ألهبوا المواطنين حماسة ، واجتمع أهل البلدة شبابا وشيوخا عند مدخلها . وماجت الجماهير غاضبة كالبركان الهادر ، ودوى الفضاء بالاناشيد . وعلى مقربة من هيأة الشعبة بدا رجل أسمر طويل يحمل العلم وينحنى على رفيق له صارخا يريد منه أن يسرع فاندفع الرفيق راجعا الى البلدة حيث منزله ، ويفتحه بعنف تصيح على إثره عائشة مذعورة ( ما بك ؟ ) فينتهرها زوجها محيى الدين : (( خفت من فتح الباب ؟ ومثلك يضرب بالدبابات )) فقالت له غاضبة : لم أطلب منك أن تحدثنى عن النساء ، ماذا تريد ؟ فاطمة تقول ان زوجها يريدك بالغويرفه . فأجابها : كنا مع بعضنا . وتوجه من توه الى خزانة الملابس يقلب ما فيها وسألته زوجته : تبحث عماذا ؟
كان زوجها عندما وصلت اليه قد قلب الملابس أعاليها سافلها وهو يتمتم : - عجيب ! غير موجود أين وضعته . - تسأل عن أى شئ ؟ - عن الزميرة ألا تعرفين ؟ أبحث عن الفرد أين ؟ أين ؟ - أصبر ، يا رسول الله . وتتجه الى احدى الوسائد فتشقها لتخرج المسدس منها ويصرخ محيى الدين : أنت دائما لا تحافظين على حوائجى كلما وضعت شيئا فى مكان وجدته فى آخر . وأدار ظهره فقالت له عائشة : (( تريد أن أتركه فى المعرض يقول للداخل والخارج : هانى ! )) . قل لى الى أين ؟
- انقلبت الدنيا وانت تقولين الى أين ؟ اسمعى الاناشيد . نسيت ما قلته لك البارحة ؟
أقبل محيى الدين مسرعا ودس فى يد رشاد اليسرى مسدسا بينما راحت اليد اليمنى تمسك العلم من صاحبه ويجمجم مبتسما : ( عملا برأى سى حسين مقابل الفرد العلم ) .
وحرك رشاد رأسه وعيناه مركزتان على المسدس يقلبه معجبا : - هذا يا محيى الدين ألمانى ؟ - نعم ، إنها عشرة ستة أعوام . - هذه إذن أول نزهة له . - نعم طالما انتظرها وأرجو أن تكون دقتك المعروفة فى التسديد تثير إعجابه وتشبع فيه كبرياءه . - إن شاء الله يا محيى الدين . ودس رشاد المسدس فى جيب قشابيته والتفت الى رئيس الشعبة . - وصلت الهدية يا سى حسين . - طيب قريبا نتحرك . - نتكل على الله إذن ؟ - نتكل ولكن ... - ولكن ماذا ؟ - أين الطوار كان هنا ، طوار يا طوار . وارتفعت الاصوات ( طوار يا طوار أين الطوار ) .
واذا بصوت شاب نحيف الجسم خفيف التوثب يتوقف عن النشيد وينفصل عن التيار الهادر ساعيا نحو رئيس الشعبة كالسهم . - أيا جاء دورك الآن . - هات ، قل ما عندك .
- اصبر تمت حاجا ، كل شىء يجب أن يكون بحساب مضبوط . ولقد بدأنا ولا يمكن أن ننهار منذ الخطوة الاولى كما حصل للجماعة ... قبل ستة أيام ، أنظر أتعرف صاحب الكلب ؟
- أتسألنى عنه ما هو من الجماعة اللى تحركوا مساكين ولم يصنعوا شيئا .
- إذن نحن ما دمنا تحركنا يجب أن نصنع شيئا ، المجاهد الاكبر أمر بأن تراق الدماء فلترق الدماء . - والآن يا سى حسين ؟ الآن يا طوار ، تنفيذ الخطة المتفق عليها وقبل كل شئ هل حضرت الدروع كلهم ؟ - نعم يا سى حسين الصادق ومحمد وأحمد وعبد الله حتى آخر السورة ...
وابتسم الطوار بن حمودة . فقال رئيس الشعبة : - اسمع يا طوار أنت الآن تخرج على رأس الشبيبة المسلحة فى غير ضجيج ويكون طريقك الكياس وعند وادى الشيوة يكون انتظارك للاشارة . وفى عصبية التفت رشاد ومحيى الدين بلهجة واحدة : - ونحن ماذا نصنع ؟
التفت رئيس الشعبة مفاكها رشادا : - اصبر أنت تمت حاجا مثل أخيك ( ويشير الى الطوار ) يا هادى يا طوار هيا سر بأصحابك على بركة الله . أما أنتما ( مشيرا الى رشاد ومحيى الدين ) فمعنا ضمن المظاهرة السلمية التى ستقدم احتجاجها للخليفة بنادى شيخ قليبية معلنين لهما أننا راجعون الى بلدتنا . وعندئذ ...
وقاطعه رشاد : - وعندئذ تكون ( الحضرة ) قد نصبت عند مراكز الجندرمة والبوليس وفى دار رومى الدخان .
- هو هذا يا رشاد ، يجب أن نوهم الخليفة بأن حمام الغزاز قدمت احتجاجها السلمى ورجعت حتى لا تقع فى الفخ الذى نصبوه لنا أخواننا عام 1938 سامحهم الله .
هيا بصوت واحد : ( حماة الحمى يا حماة الحمى ... ) ودوى صوت الجماهير الزاحفة على قليبية واشتبك الاعلام التونسيه فى الفضاء فبدا الطريق المعبد ينوء بخضم من البشر ، تظلله سماء من الأهلة والنجوم .
بدت حمام الغزاز بشوارعها الخاوية جزيرة مهجورة فالدور خالية والشوارع خاوية ، والنساء اللواتى كن فوق السطوح ابتلعتهن البيوت بعد ابتعاد المظاهرة ، والصبيان المختلطون بالجموع انحسروا عند الحلقوم راجعين الى مدخل البلدة ، ولم تعد ترى غير بعض العجائز والشيوخ يتدحررجون من هذه الدار الى تلك ومن هذا الشارع الى ذاك ؛ فهذه عجوز خارجة الى دار حارتها وفى يدها مغزل أو غربال ، وهذا شيخ كبير زاحف يجر وراءه شطبة حطب ترنحه ويرنحها ، وتكاد تجره . والناظر الطارىء على هذه البلدة يستشعر ان الحياة بها متوقفة غير هذه الارض التى يسميها أهل البلدة بالغويفه ؛ فانك قد تسمع فيها بين الحين والحين بعض المطارق تفعل فعلها ،
وقد يلوح بين حين وآخر رأس تشده برنيطة رمادية ، إنه المهندس الايطالى عهد اليه بالاشراف على بناء نواة مدرسة ابتدائية ويتبعه ثلة من العملة تدل سحناتهم على أنهم ليسوا من أهل البلد ، ومن دوران عيونهم تعلم أنهم خائفون واجفون . وكأن القدر حريص على أن لا تبقى هذه البلدة تعيش سكوتها الصامد ، فانبعثت فى سمائها الصغيرة طائرات الاستكشاف ذاهبة عائدة ( كنزق النساج ) وسريعا ما ترى الاطفال بين الفينة والفينة ينقطعون عن العابهم ليتسلقوا الجدران ويركبوا السطوح متفرجين على هذه الطائرات المزدوجة الجوانح متعجبين ثم خائفين نازلين . وارتفع النهار والطائرات ما نزال كما كانت ، وأصوات الحيوانات المحتبسة بالدور جائعة تتعالى أصواتها وتتزايد كلما تقدم النهار . وعلى مقربة من دكان القرية للنسيج ، أسند العم أحمد ظهره الى جدار سقيفته وراح يتابع طائرات الاستكشاف ولكن أشعة شمس جانفى الباهتة راحت تعكس عينيه فتغرورق بالدموع فيضع يديه فوق جبهته حتى اذا غابت الطائرة أسبل يده فاذا عاودت الطائرة عاود العم أحمد من جديد . وفيما هو كذلك ، اذ بصوت امرأة يقطع عليه اهتمامه :
- صباح الخير يا عم أحمد . ويلتفت العم أحمد ثم يبتسم : هو أنت يا عائشة نهارك سعيد يا بنتى . وتنظر عائشة فترى عينى العم أحمد ترشحان دموعا فتتضاحك قائلة : - تتفرج يا عم أحمد . - فرجة الهم يا بنتى هاهى تقيد علينا فى الاحوال مازهمش الارض ، الله يهلكهم .
- هم مهلوكون بحول الله يا عم أحمد . - العلامات التى أشار لها سيدى بوبكر كلها موجودة فرنسا قرب رحيلها ، كلام سيد ى بوبكر لا يطيح فى أرض ، يا عائشة . - إمالى المظاهرة اليوم مبروكة اليوم ؟ وابتسم العم أحمد وهو ينظر فى وجه عائشة المتدفق ثقة وبهجة . - فين محيى الدين تو . - فى قلبها يا عم أحمد وربى يستر من القوادة .
- آش باش يعملو ؟ - أوه يا عم أحمد ، ما انظاهرلى نعمل حاجة اذا كان ما علمناش على تنظيف أنفسنا وبلادنا أولا من القوادة . - اسمعيني يا بنتى اذا بقينا ننتظر تنظيف أنفسنا لنقاوم الاستعمار يجب أن نبقى هكذا حتى مجئ سيدنا عيسى لينقذنا . يجب أن نعمل والعمل هو اللى ينظف يا بنتى .
إمالا أنت مؤيد المظاهرة اليوم ؟ والتفت العم أحمد خلفه فوجد عتقة طابية محنية فجلس عليها وأجاب : (( آه يا بنتى يحرق الكبر والله لو كنت فى قوة عام 1938 لرأيتنى أول الضاربين على رأس (( بابونا )) و (( فارينا )) أترى هذا يفرح حين تشاهد الفرنسيين يفيشون على إخواننا بقليبية بعدما منعوهم من تنظيم مظاهرة 18
جانفى لهذا الشهر واجبروهم على فتح دكاكينهم بالقوة مغتنمين قلة الدستوريين بها . والله يا بنتى ليكونن هذا اليوم له ما بعده على رؤوس جندرمة قلبية آه ليتنى كنت أستطيع لأرى كيف يطارد ابناؤنا فئران فرنسا من جحر الى جحر )) .
وفتحت العمة خدوجة باب السقيفة لتطل وهى تقول : (( من فمك الى السماء يا سى حمد )) .
ويتسم العم أحمد ليقول : (( كنت وراء الباب تتسمعين يا خدوجة البية ؟ )) - (( صباح الخير أولا ، الدار أصبحت فارغة يا سى أحمد والاولاد كلهم انصبوا فى المظاهرة الله ينصرنا الله ينصر بورفيبة )) .
- (( منصورين إن شاء الله بورفيبة علمنا فى 1938 كيف نكون دستوريين والبقة التى حكى لنا عنها ، فرنسا ما تتنحى إلا بدمها )) .
عائشة : وهى تضحك (( تتنح بدمها ونفقسوها بحول الله )) .
العم أحمد : (( نعم ، نعم أولادنا اليوم مسلحين اللى ما عندوش فرد عندو مكحلة واللى ما عندش مكحلة عندو عصبانة يخلف على بريطانيا فى السفينة اللى خلاتها لنا معبيه بالقنابل )) .
وتضحك عائشة : (( العصبان يسخن فى الشتاء يا عم أحمد ولكن يحرحر الفرنسوين ما يساعدهومش )) . خدوجة : (( ما هى ليلتهم ليله ويومهم يوم )) . وأمال العم أحمد رأسه متسمعا فسألته عائشة : (( ما بك يا عم أحمد ؟ ))
- ألم تسمعى ، كلامى تحقق يا بنتى ها هو الضرب ايكح . تتسمع عائشة والعمة خدوجة ومعا (( صحيح بدأ . هذا ضرب قنابل )) . رمى العم أحمد يده على عكازه . فقالت له عائشة الى اين يا عم أحمد ؟ - الى الغويرفه اذا أعجزنى الكبر على المشاركة فلا يعجزنى عن تسمع أخبار الاولاد والمشاركة فى الافراح .
