فى الوقت الذى تحتل فيه القصة رغم اهتزازاتها واضطرابات اتجاهاتها ، مكان الصدارة فى الادب العالمى ، وفي الوقت الذى اخذ فيه نجم الشعر فى الافول وكثر التساؤل عن مصيره وعن احتمال موته شخوخة شانه فى ذلك شان كل مادة حية تولد وتنمو ثم تفنى ، نرى ان الشعر فى العالم العربى عموما وفي المغرب العربى خصوصا يتزايد الى حد التضخم .
هذا الوضع ينبغى ان يقلق وهو يقلق فعلا الكثير من المثقفين العرب الذين يرون فى ذلك دليلا على ان نمو الادب العربى يجرى بصورة غير طبيعية ، وعلى ان عددا كبيرا من الادباء العرب مازالوا يتجنبون التأليف الذي يحتاج إلى طول النفس ومعاناة الخلق ، وانه لما يزيد من شدة هذا القلق ان نلاحظ ان هذا الانتاج الشعرى الغزير يفتقر الى الجدة والطرافة ، ويكثر فيه الحشو واللغو ، فلا يفرض نفسه فى معظم الاحيان الا بالكم .
ويحق لنا اليوم ان نتساءل عما إذا كان الشعر هواية متاصلة فينا ام هو مجرد اتباع تقاليد عريقه فى القدم حولت اكثر الشعر الى نظم على مدى احقاب طويلة من التقليد والانحطاط .
ان هناك بلا ريب تقاليد بالية معقدة اثبتت فى تفكيرنا وسلوكنا جذورا عسيرة الاستئصال ، فمجتمعاتنا المحافظة الى حد التزمت لم تشرع الا منذ الاستقلال افي محاولة التخلص من كل الثقال الميتة الموروثة التى تعوقها عن السير . وهناك ايضا طبيعة اللغة العربية التى اشتهرت باعطائها كيمياء الكلم مادة ثرية ، شهرة اثرت فى كتابها فلا يكاد ينجو منهم الا القليل من اغراء الكلمة المنمقة والزركشة اللفظية ولو كانت على حساب الفكرة .
كل هذه العوامل من شانها ان لا تقدم للشاعر الناشئ نماذج وأمثلة خلق نتجاوز نطاق الشكل وتطلق خيال الشاعر وتعمق تاملاته وتجدد رؤياه الكونية .
لقد سمى القرن التاسع عشر عصر النهضة بالنسبة للعالم العربى . ولكننا
لو تاملنا من كل ما قيل من شعر منذ بدء النهضة الى فجر هذا القرن لما لمسنا سوى ضآلة النفس الشعرى فى ذلك النظم المتحذلق العتيق اذا ما قيس بالابعاد الشاسعة التى احاط بها الشعر الغربى مثلا فى ذلك الوقت . بل وقد راينا خلال الربع الاول من هذا القرن شعراء مجلبى الافكار بعباءات متحفية ، يتجولون دونما احساس بالغربة فى عالم يتاهب لتفجير الذرة وغزو الفضاء ، وخلال الحرب العالمية الاولى ، وعلى ايقاع قصف المدافع وازيز خفافيش القرن العشرين ، لم يكن من النادر سماع شعراء عرب يتغنون بمعارك الرماح والسيوف .
كانت هناك قصائد فى الطبيعة ولكنها خالية من كل اثر لاندهاش الشاعر ذلك الاندهاش الذي هو شرط اكتشافه اسرار الكون ومعانقته جوهر الحياة ، والجمال المطلق ، وكانت هناك قصائد فى الغزل والمراة ولكن جميع الحبيبات فيها نسخ واحدة من مثال واحد ، عيونهن دائما غزلانية ولحاظهن دائما رماح ، وخدودهن دائما وردية وشفاههن دائما قرمزية وابتساماتهن دائما لؤلوية . وكانت هناك قصائد فى المديح وفي الرثاء وفي غيرهما من المناسبات ولكنها محشوة فى الغالب " بكليشيات " ومبالغات مزرية .
لقد ظل الشعر في المغرب العرب بصفة اخص ، حتى الثلاثينيات تقريبا قصائد مفككة المعانى ، نظرة الشاعر فيها تفصيلية فكانه يرى الكون من خلال مجهر ، بينما الفن رؤيا كونية تاليفية شاملة تحيط بابعاد الموضوع وتكشف عن الروابط الخفية التى تصل الاشياء بعضها ببعض .
ولقد حاول الشعر الحديث ان يوسع من ابعاده وان يشمل برؤياه جوهر الوجود والعدم ، ولكن عاقه فى تطوره افتقاره الى حركة نقد عصرى مركز ، فقد ظل النقد العربى الى الامس القريب نقدا شكليا يجعل من الافكار والمعانى ملكا مشاعا للجميع يبرر سرقتها ان لم نقل يشجع عليها بشرط ان يصوغها الشاعر فى قالب جديد . ان عدم انبعاث مدرسة نقد حقيقى هو الذي جعل الشعر التقليدى المتزمت يتعايش الى اليوم مع الشعر الحديث فى جو يسوده سوء تفاهم ودى .
ولا يفوتنا ان نذكر ان مناهج التعليم الثانوى مسؤولة الى حد بعيد عما يتخبط فيه الشعر الآن من اضطراب وتقلقل وحيرة ففى مادة الشعر العربى لا تقدم برامج التعليم الا نماذج لم تعد لها اليوم الا قيمة تاريخية ، لذلك نجد كثيرا من الشباب المتعلم المزدوج الثقافة يكادون لا يستطيعون ان يذكروا لنا الى جانب بودلير ورمبو وابولينير سوى شعراء المعلقات ومن شابههم بدون ان يتفطنوا الى الهوة الزمنية والفكرية السحيقة التى تفصل بين اولئك وهؤلاء .
اما معرفتهم للشعر العربى الحديث فترجع فى معظم الاحيان الى صدف المطالعة والمجهود الخاص .
لذلك كان لا بد من اعادة النظر فى جميع هذه المسائل حتى يتجه النقد وبرامج التعليم نحو ابراز معالم الفكر الحديث وبيان حدوده وأبعاده . ثم ينبغى ان نتدارك امرا خطيرا نكتفى هنا بمجرد الاشارة اليه ، هو موضوع الاصالة والتفتح اللذين لا يمكن الفصل بينهما فى نظرتنا لتركيز شعرنا على اسس ودعائم عصرية ، اما من حيث الاصالة فانه ينبغى علينا ان نعطى شعرنا ملامح خاصة مستمدة من جميع مقومات شخصيتنا التاريخية والاجتماعية ونظرتنا الذاتية للكون ولكن بدون الانزواء فى نطاق القوميات الضيقة والاكتفاء الذاتى او تحويل الشعر الى مادة فلكلورية ، فكل تيار من تيارات الادب والفكر لا يكون متاصلا وصادقا الا اذا اتجه مهما اختلفت عيونه وتباعدت مناهله ، الى مصب واحد هو محيط الثقافة الانسانية الشاملة .
واما من حيث التفتح فانه من واجبنا ان نسرع بعملية ترقية ادبنا الى مستوى الادب العالمى وذلك بمقاومة نوع غريب من التخلف . فالدارس للتأثيرات الأجنبية فى الادب العربى يجد باستمرار ظاهرة البطء والتاخر . فالمدارس والحركات الادبية كالرومانطيقية والواقعية والرمزية التى اثرت فى ادبنا تاثيرا ملموسا لم تصل الينا فى ابان انبعاثها بل انها لا تصلنا عادة الا بعد ان يكون قد تهيات للانقراض فكانما هى تلجا الى الادب العربى لجوءا لتلفظ انفاسها الاخيرة بين ذراعيه .
ان من تتبع حركة الشعر فى العالم يجده يتطور بسرعة عجيبة ، وهو مع ذلك يجتاز ازمة لم يعرف لها مثيلا . ولقد قال احدهم : " من خصائص الحضارة الحديثة ان اية كلبة تضرب الرقم القياسى فى مباراة عدو مع الكلاب تحصل على شهرة تفوق شهرة اكبر شاعر " . ولهذه الازمة وجوه ومظاهر متعددة . فهناك من يتهم التعليم الذى يعطى الاولوية الى العلوم ويقلل من شان الشعر بطريقة مباشرة او غير مباشرة ، وهناك من يتهم النقد لانه لا يتعرض الى الشعر الا بصورة هامشية وهناك الناشر الذي يتمنع من طبع الدواوين الشعرية لانها لا تشكل عملية تجارية رابحة ، حتى قال بعضهم : ان من ينشر ديوانا شعريا يكون كمن القى بوردة فى اخدود ووقف ينتظر الصدى ، وهناك من يتهم الجمهور الذى اصبح يفضل المتع الرخيصة على المتع الجمالية ، وهناك من يتهم الشعر نفسه ويجعله المسؤول الاول عن قطع صلته بالجمهور لكثرة ما يلتصق به من زيف التجربة ، او لكثرة توغله فى الاغماض واعمال الفكر وتعمل الفن وهناك بالطبع طائفة من المتعلمين الذين يتصورون ان العلم وحده كفيل بالكشف عن اسرار الحياة واعطائها مفهوما حقيقيا . بينما الانسان لا يتمكن من
ادراك الحقيقة عن طريق العقل وحده ، بل لا يمكن ان يدرك الحقيقة ما لم يستنجد بعاطفته ووجدانه ولقد صدق من قال ان هناك اناسا قد بلغوا اعلى مراتب العلم والذكاء ولكنهم لم يزالوا من حيث العاطفة فى العهد الحجرى .
كل هذه المشاكل التى يعانيها الشعر الغربى يعانيها الشعر العربي ايضا مع اختلافات جزئية من حيث الحدة ولكن الشعر العربى يقاسى علاوة على ذلك علة ولد بها إذا جاز هذا التعبير .
يقول المستشرق " وايل " «Weil» : هى اللغة السامية الوحيدة التى نجد فيها علم عروض حقيقي ولقد انفق النحاة كنوزا من المهارة والمنطق لاحداث نظام عروض فى منتهى الدقة " . وفي زعمنا ان مأساة الشعر العربي متأتية من هذه الدقة العروضية المتناهية .
فصرامة البحور ، وقوالب التفعيلات الجامدة التى لا تلينها الزحافات الجائزة الا لماما ، تجعل الشكل يتفوق على المضمون الامر الذى يوفر صياغة كثير من الكليشيات والتعابير الجاهزة توضع تحت تصرف الجميع ، فكان الشعر لم يكن سوى حقل تجرى فيه مباريات واسعة لرياضات كلامية .
لقد حاول كثير من الشعراء العرب عبر القرون والعصور ان يعبروا عن افكار سامية وان ينهضوا بالشعر الى مستوى الفن الانسانى الاول . وان يسمحوا لخيالهم الخلاق بالتدفق ، ولكنهم اصطدموا كل مرة بصعوبة داخلة فى تركيب التفعيلة العربية تضطرهم الى الالتواء فى التعبير ، والى تنقيح افكارهم ومسخها عند اللزوم واستعمال كلمات من ارخص الحشو والترقيع وبالرغم من تطور محتوى القصيد العمودى الموحد القافية فقد ظل الشغل الشاغل عند الشاعر هو القافية ، قافية طيعة طورا وعصية متكلفة اطوارا حتى اننا لو اخذنا قصيدا عموديا مطولا قافيته الف وحاء ، لا بد ان نجد فيه : صباح ، رياح ، جراح رواح ، سواء كان القصيد مدحا او هجاء ، غزلا او تاملا فلسفيا .
بيد ان ما دخل من تنقيحات وتجديد على الاوزان الشعرية منذ ابتداع الموشحات الى التجربة المهجرية قد قضى على كثير من التعمل والتكلف ومجانية القافية . ولكن المشكل الاساسى لم يحل . فقد بقيت حركة التجديد تخبط فى مكانها مدة طويلة وتولدت عنها كليشيات وتعابير جاهزة جديدة ظل يجترها الاتباع والمريدون . فظهرت من جديد ضرورة تحرير الشعر العربي من تضييقات البحور وتمخضت التجارب الاخيرة عن ميلاد الشعر الحر .
ولعله من المفيد ان نذكر بان ما يتميز به الاسلوب الجديد هو رفض البحور والتمسك بالتفعيلة يستعملها الشاعر حسب مشيئته فوقع تعويض البيت
القديم ذى المصراعين ببيت غير مضبوط الطول اذ يتمطط فيه عدد التفعيلات ويتقلص حسبما يتطلبه المعنى المراد التعبير عنه . فالصورة او الفكرة التى تحتاج الى تفعيله واحدة نقف بها عند حدود تلك التفعيلة ونشكل بها بيتا محتملا يجوز ان تعقبه ابيات ذات تفعيلتين او ثلاث او اكثر وفقا لمتطلبات المعانى . وهدا الشعر يستعمل القوافى كذلك ، ولكنه يستعملها بمرونة كبيرة نهى تتنوع وتتعدد وقد تتلاحق وقد تتباعد فى غير نظام مسطر . والملاحظ يصا ان الشعر الحر بحكم تقيده بالتفعيلة لا يستعمل الا تفعيلات البحور الموحدة التفعيلة وهى سبعة : الرمل ، الهزج ، الرجز ، الكامل ، المتقارب ، الوافر ، والمتدارك .
وعلى ضوء هذه الاعتبارات فان الشعر الحر ليس حرا باتم معنى الكلمة . وبالرغم من ذلك فان عددا كبيرا من الادباء العرب شنوا عليه حملة شعواء وذهب بعضهم الى اتهام انصار الشعر الحر بانهم من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون عملاء لتيارات مذهبية خارجية ترمي الى النيل من روح العربية بمسخ ملامح شعرها الذي هو اعز ما يعتز به أدبها .
ان نقل الماضى لم يضغط على حظوظ أمة بقدر ما ضغط على حظوظ الامة العربيه ، وبالرغم من ان المثقفين العرب قد عاشوا فى قرارة انفسهم انهيار ثم الجدود تحت صدمه واقع جديد تفجر فى وجهها فجاة بعد سبات القرون فان كثيرا منهم قد جعل الحنين قيمة تعويضية .
هناك من يدافع عن الشعر التقليدى فيفخر بكون بحوره مركبة من عشر نفعيلات متنوعة ، فى حين يقوم الشعر الغربى مثلا على مفردات ابقاعية واحدة هى " الارجل " او المقاطع ، نعم ان اوزان الشعر العربى اثرى نغما واحكم ايقاعا من سواها ولكنها تدفع ثمن هذا الاحكام غاليا اذ من المعلوم ان التفعيلة لا تتسع لجميع الصيغ اللغوية .
ويدافع عن الشعر الحر انصاره فيقولون هل هناك قصيدة تقليدية بامكانها ان تكون كالشعر الحر مرونة فى ايقاعها وموسيقاها فى لهاثها ونفسها المتقطع حينا المتمدد المنساب حينا آخر على نسق ما يجول باخيلتنا من صور ورؤى واندفاعات وانطباعات مختلفة تتطلب ايقاعات مختلفة . انه من البديهى ان الشعر الحر هو وحده الذي يعطى النغم المناسب والحركة الملائمة لما نريد التعبير عنه ، فهو يجرنا ، يأخذنا ، او يهدهدنا دون رتابة متى اراد وكيفما اراد وبذلك اصبح الشاعر يحس بأنه قد سيطر على الشكل واخضع اللغة وتجنب الحشو وبأنه يستطيع ان يتفرغ الى معانقة الوجود واعادة النظر في القيم والأشياء حتى يكون الشعر تجربة انسانية فى اشمل مدلولات الكلمة لا تجربة لفظية مفرغة .
والى جانب المعارضين للشعر الحر والمتحمسين له ، يوجد المترددون ، من يقولون : " نعم ولكن " من يخشون ان يصبح الشعر الحر ملاذا للشعر بعرين الذين اطردهم سدنة المعبد القديم لعجزهم عن اتباع الطقوس . والواقع يثبت ان صرامة القواعد لم تكن فى يوم من الايام حائلا دون تضخم عدد النظام النظامين الذين ليسوا من الشعر فى شئ .
وهناك طائفة اخرى من الادباء أو الذين لهم صلة وثيقة بالادب كالاساتذة والمدرسين لا يريدون اتخاذ موقف ، بل يرغبون فى التوفيق بين مختلف النظريات والاتجاهات افيقولون ان القصيد الجيد سواء كان عموديا او حرا هو الذي يوفر لنا متعة جمالية ويبعث فينا الحماس اكثر من غيره . ومن الواضح ان هذه القاعدة ترتكز على خطا منطقي اذ لا ينبغى ان نوازن الا بين الاشياء التى هى من جنس واحد ، فلا يجوز ان نقارن بين قصيد فى الغزل واخرى فى السياسة ، كما لا يجوز ان تقارن من الوجهة الشكلية بين جرس قصيد عمودى وجرس قصيد حر . وعلاوة على ذلك فان الاحكام التى اساسها التأثر الشخصى لا يمكن قبولها الا من بسطاء القراء ومستهلكى الادب . اما النقد الجدير بهذه التسمية فلا يجوز له ذلك .
ان مواقف الهجوم والدفاع ومواقف الحذر " والاعتدال المتقلقل ، لا تفيد اية قضية مطروحة على بساط الدرس ان دور النقد قد يكون فى تحليل الوضع وتقدير النتائج بدون تحيز عاطفى ، ولعل السؤال المهم الذى يبغى ان يطرحه النقد وان يحاول الاجابة عنه هو هل الشعر الحر دواء ام مسكن بالنسبة لما يشكوه الشعر العربى من صداع وتصدع ، هل هو حل حاسم ، ام حل وسط لا يمنع ظهور المشكلة من جديد ؟
ونحن لا نعتقد ان الشعر الحر حل نهائى ما دام يعتمد التفعيلة التقليدية وهى التى ترفض كما اشرنا اليه انفا عددا من التركيب والصيغ نذكر منها على سبيل المثال اسم الفاعل من الثلاثي المجرد المضاعف ، وذلك لالتقاء الساكنين فيه . فلا نستطيع مثلا ان نقول فى الشعر الموزون : " نظرات حادة " .
هذا ومن جهة اخرى فان الفاصلة الصغرى المتكونة من سبب ثقيل وسبب خفيف في تفعيلتى الكامل والوافر ( متفاعلن ومفاعلتن ) كما ان الزحاف الخبن الذي يحول تفعيلة الرمل فاعلاتن الى فعلاتن لا يقبل كلمة او مقطعا يدخل فى تركيبه اكثر من ثلاثة احرف متحركة متلاحقة كقولنا " عربة " فصيغة " فعلة " لا يمكن صبها الا فى الفاصلة الكبرى المتاتية من زحافى الخبن والطى الداخلين على تفعيلة الرجز فتتحول " مستفعلن " الى " متعلن " ومن اجل هذه المرونة يبالغ الشعر الحر فى استعمال تفعيلة الرجز الى درجة الاضجار . ومن الملاحظ
انه لا يوجد بيت عربى واحد قديم او حديث ، تقليدى او حر يحوى تركيبا نتلاحق فيه خمسة احرف متحركة مثل " عربتك " . واعتقادنا انه ما دامت مثل هذه التضييقات مستمرة فان الفيض الشعرى يظل الى حد ما مختنقا .
وهنا يحق لنا ان نتساءل عما اذا كانت هناك امكانية ايجاد حل حاسم وهناك بالطبع الشعر المنثور وهو الشعر الحر باتم معنى الكلمة اذ هو متخلص من جميع القيود منساب مع كل تموجات الحلم الشعرى ، ولكن ليس اعسر من انتاج قصيد منثور ناجح ، اعراضه عن الايقاع يفقده عنصرا اساسيا من عناصر التاثير . ولقد قال نيتشة : " يركب الشاعر أفكاره عربة الايقاع لانها لا تستطيع ان تسير راجلة " . لكن بامكان الشعر المنثور ان يعوض نغم الايقاع بتنسيق الصور وباختيار الالفاظ التى تحمل في ذاتها شحنتها الغنائية . ولكن معظم الشعراء العرب لا ينزلون هذا الضرب من التعبير منزلة الشعر الحقيقى ، لا لنزعة المحافظة التى يتميزون بها فحسب بل ولكون التجارب التى وقع القيام بها فى هذا الميدان - فى مجلة شعر - مثلا ليست مقنعة .
فهل تتحتم محاولة خلق اوزان جديدة ؟ قد يكون ذلك امرا ميسورا ومفيدا للغاية . ولكننا نشك فى ان تسمح عبقرية العربية باعداد نظام عروضى مختلف في جوهره مع النظام الحالى .
فى انتظار الجديد ، لا بد من ان نلاحظ ان الشعر الحر لا يفتا يزاحم الشعر التقليدى ويستمر فى توسعه . ولكن يبدو ان فتوحاته هى التى ستعجل بهزيمته ، اذ ليس من الصعب ان نرى انه يحمل فى طيات نموه بذور فنائه . فاتباعه الصغار وهم الاغلبية من بين مريدية الا يفكرون البتة فى دراسة العروض والاوزان بوصفها خير اداة لامتلاك روح الايقاع وخير منطلق للبحث عن جرس جديد . وليس من باب الصدف ان يكون احسن ما قيل من شعر حر الى الآن هو من انتاج الشعراء الذين برعوا وأبدعوا في الشعر التقليدى .
هذه جملة ملاحظات واستنتاجات استخلصناها من البحث والدرس ومن التجربة الشخصية نبسطها فى هذا المؤتمر الذى نامل ان يكون مبعثا لشخصية ادبية مغربية لها خصائصها ومميزاتها ولها وزنها فى تطور الادب العربى والمساهمة الفعالة فى النهوض به وتعصيره . لقد ظل المغرب العربى زمانا طويلا لاحقا لا سابقا فى اتجاهاته واختياراته وقد آن له ان يرفض التبعة وان يبحث عن اصالته وطرافته وان يحاول ان يلعب دورا طلائعيا . وفي اعتقادنا انه يمتلك اليوم الامكانيات والمواهب الكافية للاضطلاع بهذه المسؤولية .
ع. ق.
