كان " الفكرون " ( 1 ) يهرول حول الغدير كزورق مقلوب تدافعه الامواج ، يمد عنقه حينا كأنه يترقب طارقا ويثنيه حينا ليتفرس فى الارض كأنه يبحث عن ضالة .
قد اطردته زوجته الضفدعة الخضراء الجميلة من مخدعها منذ يوم وليلة ، ومنذ يوم وليلة لم يذق طعاما ولم يشرب شرابا ، وهو يقول لنفسه : تزوجتنى وكانت هى الراغبة ، ونبذتنى اليوم بعد طول المعاشرة . . . ولا ادرى لماذا . . .
وأطل اليوم الثانى على الغدير وانحدرت نسيمة من الربى الزرقاء المحيطة به فداعبت صفحة منه بدأت تلامسها أشعة الفجر اللينة الندية .
لقد طاف بالغدير جانبا من النهار وطول الليل آملا أن يراها ، ولكن بفى الغدير صامتا مملوءا ظلاما منذ ألقى بالفكرون أمس على جانبه طريدا منبوذا .
لم يفهم ما جرى له . يعيد نفس السؤال منذ يوم وليلة :
-" لماذا أطردتنى بغتة فى فجر يوم من الايام ؟ تزوجتنى عن رضا واسكنتني بيتها . وكنت معجبا بنشاطها وخفتها وسرورها الدائم وغنائها الرخيم المتواصل . وكنت أديم اليها النظر واصلى على رسول الله وأحمد الله على نعمته . وكانت لنا أيام وليال . ولم يبد منها نحوى أى جفاء حتى نزلت الكارثة أمس فجرا فوجدت نفسى طريحا على الارض اليابسة " .
وتمايلت الاعشاب على الغدير كأنها أهداب عين تفتحت باحثة عن الضياء . ووقف الفكرون وغرس سيقانه فى الارض ومد عنقه ينظر الى وسط الغدير عله براها أو يرى من يراها ولكن الغدير كان ظلاما .
وفجأة سمع نقيقا يصاعد فيعلو شيئا فشيئا . كانت اصوات جميعهن تتلاحم وتتحد فينبعث نغم موحد فيه عمق وكثافة وفيه زخرف وتلوين وفيه حنين وشوق وتوق وابتهال . فكأنها تحيتهن لليوم الجديد وكأنها استرجاع للامل بعد سخط ويأس وقنوط .
وكان يميز من بين الاصوات صوتا هو صوتها ، منه تنبعث جميعها رقرقة مياه وزخارف ووشيا واليه تعود لينة كبيرة فتبعث فيه قوة مجددة فيعلوها ويمتد امواجا زاخرة تروم عنان السماء .
واهتز " الفكرون " طربا وقوس ظهره ومد سيقانه وضرب بها الارض باحثا عن الايقاع وحرك رأسه منتشيا بالنغم . وأحس بأنه خف على الارض وزنه وتمنى لو نبت له جناحان فطار .
وانقلب النشيد لحنا خفيفا راقصا ساخرا كأنه ألف ضحكة . وانتفض الفكرون وانفتحت عيناه وادرك انهن يهزأن به تحت سطح الماء .
لا . لن ينفتح الغدير له . لقد انغلق على ما فيه ولفظه الى الساحل . وحزن " الفكرون " ودس رأسه بين كتفيه وسكن .
وقدم الديك مزهوا يحرك عرفه القانى وانتصب ورفع رأسه مسددا نظره الى عمود الفجر وحياه بصيحة مدوية اسكتت ضفادع الغدير . ثم قال فى. لهجة حازمة :
- " يا ضفدعة العنى الشيطان وأقلعى عن غيك وعودى الى زوجك . فهو بعلك وعماد بيتك " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " من يزعجنا هذا الازعاج فى فجر هذا اليوم فيبعث الوجل فى قلوب صبيتنا ؟ هو الديك . . . الا تستحى يا نقار الدجاج ؟ تسمع من اذن واحدة وتنتصب حكما تنهى وتأمر . كف عن ادعاءك وصلفك وانظر الى ابنائك المبعثرين فى كل المزابل " .
فغضب الديك وصفق بجناحيه ثم انصرف .
واخرج "الفكرون" رأسه من مخبئه وطأطأه وجالت فى نفسه خواطر : - " ماذا صنعت حتى أجازى هذا الجزاء ؟ رضيت بالضفدعة زوجة لى فنزلت منزلا غير منزلى واستوطنت موطنا غير موطنى وانقلبت حيوانا مائيا أحاول السباحة بعد أن كانت الارض لى مستقرا ومرتعا . وكانت تكبرنى وتحظينى وتأتينى باشهى الحشرات تقتنيها لى فآكلها وهى تنظر الى فى عطف وحنان . وكانت لا ترضى ان تسخر الضفادع من حركاتى فتنهرها وتبعدها عنى .
هل عمل الزمان عمله ففطنت يوما انها لا تستطيع العيش مع زوج لا يحسن الساحة ؟ " .
واقبل الثعلب منزلقا على الارض متسللا بين الاعشاب يسترق النظر والسمع حتى وصل الى الغدير . فغمس فمه فى الماء ودفع برأسه دفعة واحدة فتكونت فى الغدير تجاعيد أخذت تبتعد شيئا فشيئا . وأخرج رأسه وحركه فنزلت من ارنبته قطرات . وتكلم همسا فقال :
-" ضفدعتى الحبيبة ! ماذا صنع بك حتى اطردته هكذا دون رجعة ؟ لقد ملأ " الفكرون " قلبي غما . يطوف دون انقطاع حول الغدير منذ يوم وليلة . لو لم يكن أبكم لفزع لصياحه جميع حيوان الغاب . ارحميه . ألم تتزوجيه عن رضا وطواعية ؟ " .
فأجابته الضفدعة الخضراء الجميلة كذلك همسا فقالت : - " يا عمى الثعلب ! تريد أن تستهوينى بمعسول كلامك ؟ نعم . تزوجته . طائعة ولم يرغمني أحد . واليوم ابعده عنى طائعة ولتحى الحرية ! " .
قال لها : - " اعطفى عليه . أتذكرين يوم أرسلتنا اليه خاطبين فامتنع معتذرا بكبر سنه . كان يقول لنا : لقد اشرفت على الثمانين فثقلت حركاتى وقصر بصرى فكيف لى بشابة نشطة ! وكنا نقول له : لا تكن جزوعا . انها فيك راغبة رأتك دون ان تراها وتتبعت حركاتك أياما عديدة واشتهت أن تكون سندا لها فى الحياة وبعلا . وسقناه اليك . وكان يسير متعثرا فى مشيته خجلان يود لو ابتلعته الارض . واستقبلته ورحبت به . وتعالت اصوات الضفادع مبتهجة بالعروس وغصتن به . ولم نسمع عنكما خبرا مدة سنين . فظنناها السعادة . وفى يوم امس رأينا " الفكرون " يطوف مهتزا فى مشيته مضطربا فى
حركاته . لا اكاد افهم ما جرى وليس لما جرى مبرر . أليس هذا من كيدكن ان كيدكن عظيم " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " اخرس يا خناق الدجاج . بانت مراوغتك واتضح تحاملك . لست اهلا للوساطة . هل سمعت كلاب الصيد تنبح ؟ انها آتية لا ريب . عثرت على اثرك. اذهب . اجر . واغمس رأسك فى غارك وعفره فى التراب . اذهب دون عودة " .
وأحس الثعلب برعدة فقفز فى الهواء قفزة ثم انطلق ماسحا آثاره بذيله .
وقال " الفكرون " لنفسه لما رأى الثعلب يفر فزعا : - " ما ابها وما اذكاها ! لم يخدعها بزوره ومعسول كلامه . حبيبة قلبي ! ماذا جنيت حتى اعامل هكذا ؟ هل أسأت اليك يوما عن غير قصد فكظمت غيظك حتى استفحل الداء بكتمانه ؟
انزلتنى بيتك المربع فى قعر الغدير وتراقصت الضفادع حول جدرانه السائلة مرحا وترحابا . فكنت اراهن ينزلن ويصعدن حول الحمى يحركن سيقانهن الاربع سابحات وهن تارة متآلفات وتارة متنافرات . وكانت الاعشاب المائية الخضراء تتلوى حولها متبعة حركاتها . وكانت تندلع من حين لآخر فى قعر الغدير زهور زرقاء لماعة او حمراء داكنة وتنساب صاعدة تجر سيقانها كانها النجوم الزاهرة او الشموس الوهاجة فتبهرنا وهى مارة ببيتنا ثم تنفجر متفتحة على سطح الغدير .
وطاف بى ابناؤك من الزوج الاول وقفزوا على ظهرى واخذوا يرقصون . فلم أجسر يوم الزفاف على ردعهم لانى كنت خجلان ولانى ما لاحظت منك أى بادرة لنهيهم . ثم تمادى الصبية فى القفز على ظهرى والرقص فوق ترسى . فغضبت يوما وانتفضت فسقطوا وابتعدوا عنى فزعين . فتأثرت وقلت لى ان أباهم الفقيد كان يحملهم على ظهره ويلاعبهم . ونهيتهم فما عادوا الى صنيعهم .
هل بقى فى النفس شئ لم يمح على مر الايام ؟ ولكن هل ترضين بزوج يضيع وقاره حتى يصبح لعبة بين ايدى الصبيان ؟ " .
واتى الحمار يمشى مشية الاعيان فى ترنح ووقار . وينظر يمينا وشمالا الى الربى المحيطة بالغدير والى الاشجار المتمايلة على سفحها كانت تهب عليها ريح رخاء والى نتف الضباب الابيض الممزق تتساب فى السماء فيتبعها ظلها متسلقا الربى او ملامسا سطح الغدير .
وكان النحل والذباب يثور من العشب واكمام الزهور اسرابا قاصدة خياشيمه وعينيه وداخل اذنيه . وكان الحمار يدفع رأسه بعنف حتى يرد نمائلتها فتبتعد عنه مذعورة فى صيحة عالية منغمة كانها شرار اندلع من قبس .
وكان الحمار يقف احيانا وينحنى برأسه ويمد لسانه ويلف به ملء فمه من العشب ويدسه ويواصل السير . لكأن الحمار قد غادر الزريبة ومضى يتنزه . كان ذلك باديا فى مسالكه الملتوية ومشيته البطيئة . ولكن ها هو يقترب من الغدير ويقف عنده ويتماسك بعد ان كان مسترخيا ويحرك أذنيه بعنف فتصفق كلاتاهما على الاخرى فيسمع منهما صوت كانه خبط على طبل لم يسخن جلده وقال :
- " ايتها الضفدعة ! هجرت زوجك . وهذا عمل لا يرضاه الله ولا عباده ولا حيوانه ولا جماده . يحق للذكور ان يهجروا الاناث اما العكس فلا . لان الانثى ضاعت اذا فقدت الذكر . ما اللبؤة بدون أسد وما الدجاجة بدون ديك وما القردة بدون قرد ؟ مضيعة وخسارة . لقد حنكتنى التجارب وخبرت صروف الدهر . فاتبعى نصيحتى واعيديه الى بيتك حتى يلم شعثك ويكون لك درعا .
هو ذا قابع قريبا من الماء ينتظر منك الصفح . العنى الشيطان ! " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " وتوسل أيضا بالحمار ! ما اضيعه ! . . . من اين نزلت عليك الحكمة يا حمار ؟ وأى التجارب نفعتك فصلح عيشك بها يا حمار ؟ شاهدتك مقبلا منذ حين متثاقل الخطى تستنشق الهواء ملتذا بحرية اخذتها اليوم اختلاسا . ألم تفك قيدك ؟ ألم تخرج من الزريبة لتقبل علينا ؟ رأيتك تأكل العشب المبلل بالندى فى لذة وتلمظ شفاه لان صاحبك لا يدعك ترعى فى المروج . حياتك نقل الماء والحطب وجرش الشعير فى مخلاة تغمس فيها رأسك فتضيق بها انفاسك . هل عرفت يوما متعة الزواج وانت اذا فككت عقالك وانفلت فى البرية لاحقت جميع الاتن لا يهمك اى اتان تواقع ؟ انصرف لطف الله بك ".
واكب الحمار برأسه وبأذنيه وانصرف يجر سيقانه .
وقال الفكرون لنفسه : - " ما اشد بغضها واحتقارها ! اكتشفت اسرارا واشرفت على اغوار ما كانت لى فى الحسبان ! عشت معها سنين عديدة ولم افطن باحتقارها لانى كنت منهمكا فى ارضائها جاهدا فى ازالة الغرابة عن هيئتى وسلوكى حريصا على ان اكون فى حركاتى وسكناتى ضفدعا من بين الضفادع . وكان احتقارها لى يسرى كالنهر الخفى يشق طريقه فى انفاق بعيدة الغور تضخمه الروافد . احتقرتنى وفركتنى وما كنت واعيا . فما الذى دعاها الى هذا ؟ ما هى الشرارة التى اضرمت النار الدفينة ؟
هل بدر مني دون قصد ما فيه نيل من حبها الاول ؟ نعم . لم اكن اول من احبت . كانت تحدثنى عن زوجها الاول الضفدع الذى داسه البعير وتذكر خصاله . كان سباحا مغوارا تهابه الضفادع جميعها ويأتى بالرزق . وكنت - عندما تحدثني عنه - أجاريها فأتخيل بدورى الفقيد واعثر له على خصال ما عثرت هى عليها لما كان بقيد الحياة حتى اصبحت ملما بصورته اكثر منها .
هل قارنت بيننا فتقلصت صورتى وذبل وجودى واحلت مكانى صورة الفقيد ؟ " .
واتى الثعبان ينساب بين الخمائل والاعشاب حتى انتهى الى الغدير فانتصب رافعا اعلى بدنه محركا ذنبه يضرب به الارض وحدق فى الفضاء وسدد منقاره ونفخ اوداجه وصفر صفيرا خافتا متواصلا منغما فتجمد الغدير وسكن وابدى سطحيا كانه صفيحة من فولاذ .
قال الثعبان : - " ضفدعتى ! ضفدعتى ! يا شهية الملمس والمذاق . تعلمين ان " الفكرون " بن عمى لحا منذ بدء الخليقة ؟ خلقنا من نفس الطينة وانبثقنا من نفس الارومة وفصلتنا صروف الدهور المتعاقبة . ونهج كلانا منهاجه . وبقيت - مع ذلك - اعطف عليه واتتبع خطاه . وغاظنى ما دهاه . فاقبلت لنصرته " .
فصاحت الضفادع جميعها :
- " مولانا ! مولانا ! نحن فى حماك ! نحن فى حماك ! " . قال الثعبان :
- " صه ! صه ! لم لا اسمع صوتها . هى التى اطردته . انه لافك مبين وبتر للعهد والميثاق . لقد عرفت منكن اجيالا متوالية واكلت جدودكن وجدود جدودكن " .
فصاحت الضفادع جميعها : - " مولانا ! مولانا ! نحن اهل ذمتك . قطعنا عليك عهدا . فلا تكن له ناقضا " .
قال الثعبان : - " انتتن المتمردات وللعهد ناقضات . وهى التى دفعت بكن الى ذلك .
قلد تموها امركن ولم تكن خيركن . نعم . كانت لا تلتفت اليها الانظار وهى فى عصمة زوج غليظ مغوار داسه يوما بعير او حمار . لا ادرى . وامست ارملة . فعلقت " الفكرون " وارادت ان يكون لها زوجا . فرفضتن وقلتن : ما ابعد " الفكرون " عنا ! هل تتآلف الاجناس المتضادة ؟ الارض موطنه وموطننا الماء وهو ثقيل ونحن خفيفات وهو ابكم ونحن ناطقات . فألحت عليكن وزينت لكن الامر فرضيتن بالزواج مكرهات . وكان زواجها بداية لنفوذها فيكن . واندهشنا جميعا لهذا الحدث . وانقسمت الحيوانات شيعا وقبائل منها المؤيد ومنها الساخط .
اما انا فقد قلت فى نفسى : عل هذا الغدير يهيئ لنا فى أعماقه بفضل هذا الزواج الفريد عهدا جديدا للخليقة فيه تتآلف الاجناس وتتلاحم .
, ٠٠.٠ واصبح الغدير فى نظرى من يومها مزارا مصونا اطوف حوله دون ان امسكن بضر . واصبحت أعف عن كل حيوان مائى واقنع بالعصافير والبيض . وكان همى الاسمى الذود عن الغدير حتى لا يعكر صفوه احد . ولكن خيبتن املى بهذا الصنيع " .
قالت الضفادع : - " مولانا ! مولانا ! نحن اماؤك . فلا تأخذنا بجريرة احدى بناتنا " .
وقالت الضفدعة الخضراء الجميلة :
- " مولاى ! لا تبعث الفزع فى قلوب اخياتى ما دمت انا الآثمة . خيب " الفكرون " أملى فأطردته . نعم . أطردته ولن افتح له ابدا فراشى . ما كان يهمنى تقدمه فى السن ولا بطء حركاته ولا اعوجاج سيقانه . كنت معجبة بعنقه الطويل وراسه الملولب المستدير وشدته فى السير . فكنت اقول لنفسى: ان هذا الذى يحمل بيته فوق ظهره طول حياته دون ملل ولا ضجر لا يكون الا فحلا .
نعم . عندما اصطفيته من بين الحيوانات كنت ابحث عن الفحولة لاصلاح حالى وحال عشيرتى . نحن قوم تسيرنا الاناث منا ولا سبيل الى اصلاح حالنا الا بانزال الذكور منزلتهم وبث الروح فيهم . وكنت آمل ان يكون " الفكرون " هو ذلك الفحل الذى ننتظره لايقاظ همم ذكورنا وصقل نفوسهم " .
قالت الضفادع : - " أهذا الذى كنت تنتظرين منه اصلاحنا ؟ انظرى اليه وهو ملقى فى العشب مخف رأسه ، مقوس ظهره . كنت غرة . يرتعد فيهتز ترسه . لقد افتضح امره . انه لا يعدل ذكورنا . كيف ابدلت زوجك الاول الضفدع المغوار بهذا ؟ " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " نعم . كان زوجى الاول ذكرا مقداما مغوارا يفوز فى كل معركة وينطلق كالسهم على الحشرات ولكن لم يكن فحلا . تتعجبن من ذلك وما زلتن تتساءلن لماذا اتخذت له بديلا من غير جنسه .
نعم لم يكن فحلا لانه كان يعتقد ان الفحولة تنحصر فى مواقعة الاناث . هل تعرفن كيف مات ؟ مات فى ليلة دهماء وهو يريد ان يختلى بأنثى فى العشب المجاور للغدير . ومرت دابة وداسته . لا ادرى هل داسه بعير حمار . قلت لكن عندما حل المصاب وامسست ايما ان بعيرا داسه بخفه لان خف البعير افضل من رجل الحمار للتذكر والذكرى . أعرف الانثى التى صاحبته ليلتها . هى انثى من بين الاناث لا يميزها شئ على غيرها . وصفحت عنها لانها لم تكن لى منافسة . كانت تتحمله ولا تناوله اكثر مما يطلب منها . وكتمت السر وكتمت .
وتاقت نفسى الى ازالة الادران التى علقت بها . وتطهير اوضاع قومى وصقل اذهانهم .
فبحثت عن ابعد مخلوقات الله عنا شكلا وصفات عله ينسينا عهدا مضى وانقضى . فعثرت على " الفكرون " واتخذته لى زوجا " .
قال الثعبان : - " ادركت الآن ما جرى . كنت تبحثين عن ملك . لو طلبت منى النصح لقلت لك ان " الفكرون " لا يحسن تسيير العشائر لانه مفكر رصين منطو على نفسه يميل الى العزلة ويؤمن بالقيم الفردية . اما انا فانى قادر على تسيير شؤونكن والحكم بالعدل بينكن " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " لا . ما بحثت الضفادع قط عن ملك . انه حديث خرافة واراجيف ينقلها الناس وبهتان مبين .
كيف نخضع لقانون مسطر وسنة مفروضة ، وكل ضفدعة تنفرد عن سواها فى مزاجها وسلوكها ؟ هل تعلم ان لكل واحدة منا لونا فى السباحة تختص به ونبرات وايقاعات فريدة اذا صوتت واسلوبا تتميز به على غيرها فى ترصد الحشرات واقتناصها ؟
لو ملكناك رقابنا لحاولت توحيدنا ونحن لا نوحد . ليس الغرض ان نكون على رأى واحد ولا ان توحد نظرتنا الى الحياة بل غايتنا تغيير ما بانفسنا حتى بجعل الله من قفزنا وتنافرنا نفاهما وائتلافا . ولا يكون ذلك الا باحلال الفحولة محلها فينا . وتعلقت همتى "بالفكرون " ولكن يا خيبة المسعى ! " .
قال الثعبان : - " ضفدعتى ! ضفدعتى ! يا شهية الملمس والمذاق . اكتشفت سر نفوذك فى عشيرتك . ما قدمنك لجمالك وفتنتك لانك لست جميلة ولا فاتنة ولكن لذكائك وطموحك وبعد نظرك . كنت تنتظرين من " الفكرون " ان يكون لذكور الضفادع قدوة واماما . ولكن هل مكنته من ذلك ؟ انه يدرك ببطء ويسير ببطء ويفقد سداد الرأى اذا أحس بالالحاح والملاحقة . ألم تدفعي به فى كل اتجاه ؟ ألم تحاولى ادخال الخفة والقفز على حركاته ؟ فرضت عليه السباحة والتنقل فى جميع المستويات ودفعته الى السير فى جميع الاتجاهات . هل هذا
معقول ؟ هو صاحب الدرب السوى والخط المستقيم . طوى ارض الله طيا وتعود باليابسة . فاغفرى له اضطرابه وبليلته فى الماء . اعيديه اليك فلربما يصلح حاله بعد ان ذاق مر الهجر وطاف بالغدير مرعويا تائبا منيبا " .
قالت الضفدعة الخضراء الجميلة : - " مولاى ! مولاى ! يا من اتوجه اليه عندما يضيق النفس ولو كنت فى زاهدا . يا من تبعث في قلبي الفزع والشوق معا . هل تعلم كم من مرة قضيت ليالى كاملة لا يغمض لى جفن لاستمع الى حفيف بطنك يزحف برفق على الحصى ؟ هل تعلم انى كلما سمعت صفيرك فى الغاب اخرجت اعلى رأسى من الماء ونظرت الى لهب عينيك ترمي به الفريسة الواجمة فأحس بقلبي يخفق ؟ احبك واخشاك . طريقى وطريقك لا يلتقيان وهذا افضل . دعنى من " الفكرون " . كنت اراه يسعى بخطى ثابتة يمد عنقا مستقيما شبيها بعنقك ورأسا ملولبا شبيها برأسك وينظر امامه كأن همه الوحيد هو شق طريقه - كلفه ذلك ما كلف - فقلت فى نفسى : هذا حيوان حازم مقدام ثابت الجأش ، فتعلقت همتى به . وما كنت اعلم يومها انى ملت اليه لانى اميل اليك .
ولما مرت الايام على زواجنا فطنت ان ما كنت اظنه جلدا ومداومة لبلوغ الغايات هو فى الواقع صبر على المكاره وخمول وسلوك للسببل المعبدة . كنت انتظر منه تجديدا فى التفكير والعمل يجبرنا على اعادة النظر فى افكارنا واعمالنا فوجدت منه مجاراة لنا ومحاولة لمحاكاتنا .
كسبنا على مر الاجيال طرقا فى السباحة تعتمد الطلاقة فى الحركات والانبعاث فى جميع الاتجاهات . فلم لا نخترع طرقا اخرى فيها تسخير لجميع القوى الكامنة مع اقتصاد فى الحركات ؟ واعتدنا ان نصطاد بعض الحشرات ونعف عن بعضها وان لا ناكل النبات فلم لا تنوع غذاءنا باكتشاف الوان جديدة من الطعام والتعود عليها ؟ وجبلنا على العيش فى الماء او قريبا من الماء على الارض الرطبة فلم لا تندفع الضفادع جيوشا زاحفة تكتشف ارض الله الواسعة بجبالها ووهادها وفيافيها ؟ كنت انتظر من " الفكرون " أن يساعدنا على تجديد اوضاعنا فوجدته يجهد نفسه لتقليدنا . ما اتيت به ليجارينا ويدارينا ويقلدنا .
عاشرنى طويلا وكان طيب السريرة دمث الاخلاق حسن المعاملة لم يجادلنى فى امر ويسعى لملاطفتى ولكن فاته انى ما كنت ابحث عن اللطف والملاطفة وحسن المعاشرة والنفس حيرى لا يقر لها قرار . فكان كلما اوغل فى الاقتراب
منى والتعلق بى نفرته وابتعدت عنه لانه اخطأ المرمى وظل السبيل . حاولت اشعاره بحالى ولكنه لم يفهم وتوغل فى الظلال . ما قولك فى رفيق لم يقل لى لاقط ولم يعارضنى فى امر ولم يقنعنى برأى ؟ أهذا فحل يعتمد عليه فى الملمات ؟ " .
وافحم الثعبان فتولى زاحفا واندس بين الخمائل . وابتعد " الفكرون " عن الغدير وشرع فى تسلق الربوة المجاورة دافعا بعنقه وراسه الى الامام فى حركة شبيهة بحركة مطرقة الحداد تسقط على السندان . وحلق فى اعلى الجو نسر وهب النسيم فحرك الغصون والاعشاب ونمق على سطح الماء وشيا زانته ظلال السحب وظل جناحى الطير المحلق فى الفضاء .
