الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

فى معرض البكرى :، الذى يحرث فى الشمس . . .

Share

لا بد أن نحس بالغبطة والتفاؤل للحركة الطيبة التى يمر بها الرسم فى تونس ، فتباين الاتجاهات واختلاف الأجيال وتواصل المعارض تشير كلها إلى جهود محترمة يقوم بها هذا الصنف من الفنانين . إن الأمل يخضر فى هذا الربع مع الأرض حينما نشاهد هذا الحصاد الرائع من اللوحات .

لقد رأينا معرض البكرى منفردا ، بعدما تأملنا فى أعماله المعروضه مع مجموعة 70% ، وتأيد لدينا ما لهذا الرسام من شخصية واضحة المعالم . أقيم المعرض فى قاعة شارع ابن خلدون ، واكتست كافة اللوحات طابع الغفوة  (( فترة ما بين اليقظة والنوم )) وهى موشحة باحساس رومنطيقى دافىء يتضح من اللون خاصة ومن التعبير الشكلى حيث تبقى الخطوط فى عالم غير مرئى . . أو غير قار . ان البكرى بكتب أيضا الشعر ، وقد ضمت لوحات بعض القصائد باللغة الفرنسية ، يجب أن نلاحظ أنها دون مستوى الرسم بكثير ، نظرا لطابعها الانشائى المدرسى ، واعتمادها أساسا على الصور القديمة المستعملة . لكن الجميل حقا هو وضع هذه القصائد داخل أطر اللوحات ، وزخرفتها بشكل جميل على يد قائلها ، مما ينقلنا لمناخ فنى ننسى ضمنه الأشياء اليومية ( لأن المطلق أحيانا رغم مثاليته وبعده عن الواقع ضرورى للانسان ، وهو عنصر من عناصر حياتنا ) .

اذن فأعمال البكرى هنا تتحد فى نظرتها للمطلق . . . بل فى توقها نحو المطلق . . فالألوان مبتكرة مبتدعة ، ليس فيها مساس واضح مجانى بالاشياء العادية ، تنطلق الألوان من الواقع ربما . . إنما تمعن فى الخيال . . فهى ألوان خرافة . . وألوان حلم . هنا ينجح البكرى نجاحا طيبا فى خلق عالم خاص به . . . غير مسيج لأنه متفتح على التيارات ، يأخذ من كبار الرسامين دون ذوبان روحه فيهم ، ينقل لنا تجربته ببساطة ويسر كما يكلمنا بالكلمه الموحية والاشارة المفهومة .

من الواجب أيضا أن نرفع للبكرى تقديرنا للأصالة التى تسود عالمه الفنى ، فتونس موجودة فى أعماله ، هناك فى بحثه عن التعبير بما يضارع الفسيفساء ، إذ أن ذلك نابع من تاريخنا قبل الاسلام ، وهنا فى الاحساس بالفاجعة وعسر النمو مما يعمق نظرة الفنان للحياة ، لا بالتشاؤم السلبى القاتم ، بل بنفى السطحية واجتناب الزخرف المريح . تونس واضحة المعالم فى رسوم البكرى ، وقلما نجد بلادنا فى فن مواطنينا . وإننا لنلمس اعتزاز الفنان بتونسته ، ففى لوحتى (( أغنية المالوف رقم 14 )) و (( آثار رقم 17 )) نلاحظ انفراد الروح القومية ، دون انغلاق أو تحجر ، بل عن وعى وإدراك واحتضان للعالم .

وقد لفت نظرنا عمل فنى لا يعتمد اللوحة ولا النحت ولا أى شكل متعارف ، وهو (( الشهيد )) وهى مجموعة من الأسلاك الشائكة وتعبير بلون الدم القانى يجعلك تقترب بضراوة من عالم التضحية والألم والكمال . . فهذا العمل (( اذ هو ليس بلوحة ولا بنحت )) ملئ بالعنف ومشيد على احساس صادق بنبل القضية . . . قضية الحرية لدى كل شعوب الأرض . كما لفتت نظرنا من ناحية أخرى لوحتان رقم 26 ورقم 27 وتنقلان لنا معنى من المعانى الانسانية . . وهو الشيخوخة ، فالشعور بالهرم يجتاحك عندما تشاهد هذين الرسمين لمبان قديمة وشوارع ترمي بالقدم والحزن . . فكأنك أمام أنقاض إنسان يحتضر . . . اللون الباهت الباكى يتضافر مع الشكل الحزين لخلق الاحساس بهذه الشيخوخة وتقديمها فاجعة كالموت . . . ورغم هذا فالبكرى شاب فى عز الشباب ، ينظر بتفاؤل لفنه ولعل فى كلماته الشعرية التى ننهى بها هذا التعليق المقتضب ما يوضح موقفه من الحياة . . كنا رجونا أن تقدمه الرسوم لون استعانة بالحرف . . يقول البكرى :

أنا أشيد وطنى

أنا أحرث فى الشمس

أنا أعجن الضوء

وأغذى الأمل

أنا أنحت النصر

اشترك في نشرتنا البريدية