الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

في أصول اللغة ..

Share

-1-

دين

ما ان استكمل الانسان انسانيته حتى تفتق فيه الشعور الديني وشعر بضرورة التعبير عن اعترافه بسلطان القوة الكامنة فى الكون وما انفك منذ تلك العصور السحيقة يعبر عن طاعته وخضوعه بالحركة والكلمة فكانت الديانات الأمية وكانت الرسائل السماوية حتى نزلت الآية الكريمة : " إن الدين عند الله الاسلام" .

فكلمة " دين " مشتقة من مادة " دان " . " دين " وتحتوى لغة على معان عديدة مختلفة فيها معنى الحساب والمحاكمة والجزاء والعقاب . فدان ( دينا) فلانا حازاه - أحسن اليه - حكم له أو عليه و"دين فلانا" الشئ ملكه إياه  ويوم الدين هو يوم الحكم أو المحاكمة .

وفى مادة دان " دين " معنى الطاعة ومعنى السلطان الى غير ذلك من المعاني التى أوردها لسان العرب دون ما ترتيب ولا نظام يخضع لمنطق تطورى تاريخي ولا نريد هنا التعمق فى البحث حول مادة " دان " بل سنكتفى بتقدم افتراض حول أصل لفظة " دين " المشتقة من المادة نفسها وذلك بالاعتماد على ما ورد فى لسان العرب حول المادة واستعمالاتها وبالاعتماد كذلك على بعض اللغات السامية القديمة كالأشورية والفنيقية والعبرية .

المادة تتركب فى الواقع من حرفين اثنين وهما : د - ن فمادة " دن " نجدها فى بعض النصوص الأشورية منذ الألف الثانية قبل الميلاد نذكر منها رقيما  يتعلق بالملكية العقارية وتحرير الوثائق الضابطة للملكية (1) فجاء فى الرقيم

المشار اليه ما يلى واليك النص الأشورى مكتوبا بالأحرف العربية " إنا أشل شرى يمدد وتف دنت أن فنى شرى يشطر " ومعنى ذلك " بحبل الملك يقيس وبحضور الملك يسطر رقيما قويا " فكلمة "تف" تعني الرقيم أي حاجة  من طفل من صلصال تسطر عليها الكتابة بالمسطار كقولك : " والطور والكتاب المسطور" سطر بمعنى كتب أى نقش بالمسطار على مادة صلبة كالصخر أو على مادة لينة كالطفل غير المفخور .

" تف دنت " أى رقيم قوى ذو سلطان بمعنى نافذ فلفظة دنت مشتقة من مادة " دن " التى هنا تعنى القوة السلطان . فمعنى القوة نلمسة فى كل المعاني التى تستفاد من مادة " دان " على اختلافها كمعنى المحاسبه والمحاكم والتمليك والجزاء والعقاب وغيرها كلها تتضمن معنى القوة وكلها اعمال مواقف تستوجب القوة بل حتى اسم " المدينة " تتضمن وجود سلطة تسهر على شؤون المتساكنين فيها وشؤون الذين يعيشون حولها فالمدينه مركز  القوة والسلطان مركز الادارة والحكم ففيها من يقضى بين الناس ولا يقضي من الناس الا من توفرت لديه عناصر القوة الشرعية والقوة الماديه التى يستوجبها التنفيذ .

ومعنى القوة الذي لمسناه فى مادة " دان " أو " دن " عند الأشوريين وعند العرب نلمسه أيضا فى لسان الكنعانيين حيث نجد لفظة " ادن " وتعني السيد - العزيز المالك . ومن الالقاب التى كان الفنيقيون ينسبونها الى الله بعل حممون لقب " أدن " وقد ورد هذا اللقب على آلاف الانصاب التى اقيمت قريانا لبعل حمون فى توفات طرقاج وفي توفات سوسة . فبالنسبة للفنيقين والبونيقيين بعل هو القوى ذو السلطان صاحب الكون . لذلك لقبوه بلقب  "أدن" فأذن اسم من اسماء بعل حمون ولقد اسند هذا اللقب الى الالهة ثانيت على بعض الانصاب فعلى نصب عثر عليه فى توفات سوسة لقبت  نانيت بلقب "دت (1) وهو مؤنث " ادن " بسقوط الالف والنون واضافة

تاء التأنث فعوض " أدنت " تسقط الالف والنون ويقال "دت"  ومعلوم أن سقوط النون كثيرا ما يحدث فى العديد من اللغات السامية ففي اللغة  الفنيقية " بن " فى قولك : " على بن زيد " يتحول فى صيغة المؤنث الى بت عوض بنت والملاحظ أنه حتى فى بعض اللهجات المحلية فى تونس يقال : " يتي " عوض بنتي هكذا نجدها فى سوسة وفي بعض المدن والارياف التونسية .

ومهما يكن من أمر فاللفظة الفنيقية "دت" وهي صيغة المؤنث من "أذن"  تعنى هي الاخرى القوية ، القادرة العزيزة . فالنتيجة من هذا العرض الموجز  أن مادة دان أو " دن " تحتوى جذريا على معنى القوة فالدين هو ما يستدرج الانسان نحو القوة الكامنة في الكون أو القوة التى بدونها لا وجود للكون أو  القوة التى تسهر على ادارة الكون فالدين هو القوة وهو ما يجعلك تقف عند  القوة وتعترف بكيانها وتخضع لمشيئتها وتعرب عن اعترافك لها بالقوة والحركة  والعبادة هي الحركة والكلمة اللتين بواسطتهما يعبر الانسان عن ايمانه أى عن اعترافه بالقوة الالهية مصدر الكون وتصويره .

اشترك في نشرتنا البريدية