الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

في الشعر العربى المعاصر (1)

Share

انه لشرف لى عظيم أيها الاخوان الكرام ان اجتمع اليكم فى هذه القاعة المتواضعة كما وصفها الاستاذ مزالى الكبيرة فى معناها التى برز فيها جميع رجالات العلم والسياسة والجهاد فى تونس والتى كما عرفت الآن كانت في الحلقة الاخيرة من الجهاد العربى التونسى وكرا للمؤامرات على المستعمر. واذن فلم يكن اوسع من هذه القاعة الضيقة فى جميع البلاد التونسية ستقبل أديبا عربيا ينبض قلبه بحب تونس وينثلج لسانه بمديحها.

وبعد فليس لى ما اعلق على ما قدمنى به صديقى الاستاذ مزالى مع اسداء الشكر العميق اليه الا انه نسي اهم ما كان يجب ان يقال اليكم وهو موضوع الحديث فقد كلفني أو اتفقنا أن نتحدث عن الشعر العربي واذن من واجبى أن أعلمكم ان حديثنا مقصور على الشعر وعند ما سمعت تعداد القابى العلمية وفكرت كيف آتى اليكم على غير استعداد وأنا لم أدون حتى رؤوس أقلام خطر ببالى هذان البيتان لشاعر عربى قديم :

فصاحة سحبان وخط ابن مقلة

وحكمة لقمان وزهد ابن ادهم

اذا اجتمعت فى المرء والمرء مفلس

ونادوا عليه لا يباع بدرهم

واذا فأنا آتيكم مخجلا مفلسا من بحث مركز محضر ولعل فى ذلك فائدة كل الفائدة لى ولكم فليكن هذا الحديث سبيل تعارف وليكن وديا كما وصفه تمام الوصف أخي الاستاذ مزالى على أنه حديث ، يطيب لى أن أذكركم حديث موضوعه على الاقل ممتع ومهم هو حديث ليس فنا وحسب وانما هو حديث قلب ينبض ودمماغ يفكر والقلب العربى والدماغ العربى هو الطريقة الفنية المثلى لان ينبضا معا وبفكرا معا وبعبارة ثانية بعد مقدمة أرجو الا تكون طويلة في تطور الشعر العربى سنصل الى صلب الموضوع

ونتساءل ما هى رسالة الشعر العربى وهل بالواقع يؤدى هذه الرسالة - الشعر عند العرب كما تعلمون ، ولا أحب ان أطيل فى التاريخ لانى مضطر إلى اعادة ما تعلمون ، ديوانهم اذ كان نوعا من الصحافة من صحافتنا اليوم يبينون به جميع شؤونهم ولذلك نجد كثيرا فى الشعر الجاهلى ع الاخص لا أقول من المواضيع غير الشعرية لانه فى نظرى كل موضوع شعرى والقضية قضية اسلوب ومعالجة ليس الا ولكننا نجد عرضا لحالتهم السياسية والاجتماعية والقبلية والدينية أحيانا يتوفر فيه الشعر اولا يتوفر بحسب فكرة الشاعر وما برز فيه من أساليب التفكير على انى لا أكتمكم أنه عندما أستعرض مراحل الشعر العربى أجد ان الشعر الجاهلى بشكل خاص يبقى - إذا استثنينا بعضا من الشعر العباسى والشعر الحديث - أصدق شعر عربي قاله شعراء العرب فى مختلف العصور - أحب ان أتوقف قليلا عند هذا - لماذا صدق الجاهليون فى شعرهم وأعنى بالصدق الصدق الفنى لا صدق الوقائع المسرودة فى الشعر ولماذا لم يصدق سواهم مع طول باعهم فى عالم الفكر وفيما نظموا من الشعر - الجاهلى لم يكن يحاول ان يكتم شيئا ويظهر شيئا آخر - كان فطريا وكان شعره فطريا وصور حياته بصدق واخلاص ولم يتورع حتى عن تصوير اى مظهر من مظاهر الحياة الجاهلية .

أليس من الغريب اننا اذا فتشنا عن وصف ، يعنى الوصف الفنى نجده أولا فى الشعر الجاهلى حتى اذا وصلنا الى الشعر الاموى والشعر العاسبي ولا أذكر حقبة الانحطاط لانى لا اعتبرها من ألادب الذى يجب أن يذكر ، لم تظفر به الا عند شعراء معينين وحتى عند هؤلاء الشعراء كابن الرومى مثلا فاننا لا نرى من دقة الصنع والاتقان والحرص على الاتقان ما يجعلنا نعتقد ان هذا الوصف كان مقصودا بنفسه بينما الوصف الجاهلى هو شعبة من شعب الاحساس الانسانى عندما يسرد شيئا من الاشياء واذن فميزة الشعر الجاهلى فى نظرى هو الصدق الفنى الذى نتوخاه اليوم ونفتقده في معظم ما ينظمه الادباء . مرت بعد ذاك حقب على الفكر العربي بشكل عام وعلى الجانب الفنى والشعرى منه بشكل خاص جعلت معظم ما نظم شعراؤنا وأقول معظمهم لا كلهم لا يمكن نقله الى لغة اجنبية يستفيد منه قارىء غير عربى وهذا مما يؤسف له ولا أقول ان هذا الشعر ليس انسانيا فى موضوعه ولا يثير لهف الانسان كانسان بصرف النظر عن انتمائه الى أمة معينة قصدت بهذا المجموعات الضخمة من المديح والهجاء والتفاخر

القبلى وقصدت شعر التكسب وما اليه بحيث أننا اليوم مثلا أمام شاعر كبير عبقرى كالمتنبى عندما نمر بمديحه ونحن عرب نقرأ ادبا عربا نشعر بشئ من المغالاة وبشىء لم يعد مألوفا ولو لم يكن الشاعر هو المتنبى بذاته ولم تكن له تلك العبقرية التى تجعل كل فكرة ولو سخيفة من أفكاره تحلق تحليقا لما عاش شعره مطلقا ولو لم يغلف هذه المجموعة من المديح على بساطة التفكير فيها بحكم بقيت وستبقى خالدة على لسان العرب لما عاش شعره ولو لم يكن المتنبى شاعر شاعرا بكل معنى الكلمة أعني لو لم يكن كميائيا فى مزج الالفاظ لما عاش شعره لسبب واحد وهو ان المواضيع التى طرقها كلها لا تمت الى العاطفة الانسانية الشاملة بصلة وثيقة . فالعلاقة بين المادح والممدوح ليست موضوعا نترجمه الى الفرنسيين او الى الالمان او الى الروس او إلى أى شعب آخر . إذا قدر للشعر العربي فى هذه الحقبة المؤلمة ان يعيش فانما عاش لتمسكه بالطريقة الفنية التى نظم بها وبهذا الحرص على أداء الفكرة على أنها ليست فكرة وحسب وانما هى فكرة جميلة - هذا هو موضوعنا - فما هو الشعر اذن ؟

بقى فى الحلقات التى ذكرناها بعد الجاهلية واليوم بقى شئ هام يدون إذا صح التعبير - أخبار العرب والشعر القومى وما خلا هذا الجانب القومى لا يمكن لشعر ان يسجل الوقائع اليومية ولحسن الحظ ظهرت الصحافة وعفت الشعر من هذه المهمة الشاقة واذا فهذا عبء زال عن كاهل الشعر يعنى عبء اخر ما أراه قد زال ويجب ان يزول باسرع ما يمكن . الشعر فى نظرى ليس كلاما مفيدا وحسب وليس بابا لايصال فكرة من الشاعر الى القارىء أو الى السامع ولا بابا للوصول من مجهول الى معلوم اذ القصيدة لم تكتب ويجب ان لا تكتب ليقرأها القارىء ويقول كنت جاهلا كذا فعلمت كذا كما يقرأ القارىء الجغرافيا او التاريخ او أى فرع من فروع العلوم الاجتماعية وحول هذا المعنى ظهر خلاف كبير ولا اخالكم تجهلون ما قيمة المعنى فى الشعر ولو انى لا يهمنى أن أقول لكم ما تعلمون ولا أن أذكر كل شىء عن هذا الامر بقدر ما يهمنى موضوعى ، ولقد صدر هذا الامر فى البلدان العربية وفى لبنان على الاخص فى وقت من الاوقات منذ عشر سنوات او أكثر لمعت فكرة لحسن الحظ لم تدم ترمي الى القول بان الشعر يجب الا يكون له معنى فاذا كان له فهذا حسن واذا لم يكن ربما كان ذلك أحسن - الشعر كلام منسق موسيقى يوحى عن طريق الاحساس اللفظى وعن طريق تحريك الاحساس اللفظى بالجمال - هذه النظرية اتتنا من بعض شعراء ونقاد فرنسا المغالين

على اثر النظريات التى صدرت بعد الحرب العالمية الاولى ولا أعنى الشعر الفرنسى المعاصر الاصيل وكلكم تعرفونه وانما هذا الشعر الذى لمع ثم ظهر أنه سراب بعيد الحرب العالمية الاولى ثم بعيد هذه الحرب الاخيرة ايضا ولقد شاعت فى جميع الفنون فى الشعر وفى الرسم والتصوير وفى النحت وحتى في الموسيقى نظرية لا يفهم أصحابها تماما كيف يؤدونها الى الناس ولكنها تؤول بالنتيجة الى الغموض والابهام لا فى الموضوع وحسب وانما في طريقة اداء ذلك الموضوع ولا أعتقد الا أن كلا منكم طالع او حاول ان يطالع بعضا من هذا الشعر الغربى فاذا به أمام كلمات ترصف الواحدة تلو الاخرى ويتساءل ماذا يقصد الشاعر

أنا أفهم ان المواضيع بحد ذاتها قد تقود الى شىء من الغموض على الاخص اذا تطرقت الى الغوص فى أعماق النفس الانسانية ولكنه غموض لا يفهمه حتى صاحبه وهذا أمر يحسن بنا أن نتوقف عنده قليلا - أعتقد ان غمرة من اليأس أو من شىء أشد من اليأس من القرف من الحياة سادت اولئك الذين شاهدوا هاتين الحربين الطاحنتين العابثتين ليس بالانسان كفرد وحسب بل بمستقبل الانسانية فأرادوا ان يؤدوا بطريق مباشرة هذا القرف الى القارىء بحيث ان القارىء يقرأ فلا يفهم معنى القرف وانما يقرف مما يقرأ - هذه طريقة لا تدوم وعلى كل حال إذا كان لها ما يبررها في الغرب فليس لها أى شىء يبررها عندنا . نحن سماؤنا صافية ففى نهار امس ذهبنا الى القيروان وتركنا تونيزيا بالاس أوتيل وكانت الدنيا ممطرة وبعد ساعة او أقل أشرقت الشمس بينما الشمس لا ترى فى لندن الا نهار الاحد فى الصيف ولا ترى فى باريس الا قليلا قليلا واذا جونا جو وضوح وجو الجماعة جو غموض ولا أعتقد أن أية نظرية يجب ان تنقل عندنا بحذافرها أنها ستكون كالنبتة التى لا تعيش الا فى أرضها. واذن فالشعر من جهة ليس طريقة لايصال فكرة معينة الى القارىء ولا لاخراجه من مجهول الى معلوم ولكنه على كل حال طريقة تعبير وبالنتيجة يجب ان نفهم ماذا يقصد الشاعر.

كان من جراء هذه النظريات التى دخلت بلاد العرب فى الحلقة الاخيرة ان بدا شعراء العرب والشباب منهم بشكل خاص يتساءلون هل يمكن للشعر العربى فى اطاره القديم أن يثابر على تأدية رسالته . الا يصح أن نكسر هذا الاطار وان نفسح للشعر مجالا فيؤدى جميع خلجات النفس كما تؤدى ذلك على زعمهم معظم اللغات الاجنبية . هذه ايضا فى نظرى

معظلة كبيرة يستحق ان نوليها شيئا من اهتمامنا - أنا لست متحرجا ولا أقول بالتزام الوزن الواحد والقافية الواحدة الوزن الواحد على المصراعين صدرا وعجزا وبالتقيد بهما دائما ولكن ذلك لا يعنى أننا اذا تحررنا او حاولنا ان نتحرر من بعض القيود يجب ان نتحرر من جميع القيود دون ان نجعل الشعر أشبه شىء بنثر مفكك فاذا كان هنالك شعر وشعر راق جدا فى اللغات الاجنبية كالفرنسية والانقليزية مثلا - أتكلم عن اللغتين اللتين أحسنهما - اذا كان هنالك شعر راق قد تحرر بالفعل تماما من قيود الوزن والقافية فاسمحوا لى بكل تواضع ان أؤكد لكم ان ذلك غير ممكن فى اللغة العربية ذلك لان الشعر العربى له توقيع موسيقى صارم صارخ رنان بحيث لا يمكنك ان تخرج من وزن الى وزن آخر دون أن تتعثر الاذن العربية بكسر الرنة .

لا يمكنكم مثلا ان تمزجوا البحر الطويل مع البحر المتدارك دون ان نخرج من بحر الى بحر - والتسمية ممتازة - ودون أن نخرج من مناخ الى مناخ. اذ كنت اشدد على هذا الامر فلان الشعراء وشعراء لهم قيمة حاولوا وأخفقوا وكفوا عن محاولاتهم . أذكر صديقى المرحوم الياس ابو شبكة مثلا كان شاعرا كبيرا له قصيدتان أو ثلاث من هذه المحاولات مزج وزنا بوزن ولكن كف عن ذلك وان كان قد نشر هاتين القصيدتين واعترف ليس ضمنيا وانما اعترف بين اصدقائه وكنت منهم ان ذلك لا يكون فى الشعر العربى فاذا كان مزج بحر ببحر لا يكون وبمعنى آخر اذا كان مزج نمط من الموسيقى الشعرية العربية بنمط آخر لا يكون فأحرى أنه لا يمكننا ان نمزج موسيقى بلا موسيقى اى شعرا بنثر مع ان للنثر موسيقاه الخاصة به ولكنها ليست موسيقى الشعر وانما ما يمكننا ان نفعله لنتحرر من شئ من القيود لانه من الظلم ان نترك الفكر العربى والاحساس العربي مكبوتين فى قواعد استنبطها الخليل بن احمد منذ قديم الزمن فى الشعر العربى وان لا نترك للشاعر أن يجدد واذا كان لنا أن نغير فهو أن نحافظ على التفعيلة وان نتصرف فى عددها هذا أمر ليس جديدا ؛ آسف جدا أن أقول انه ليس جديدا ولا أحب أن أحرم على نفسى ولا ان أحرم سواى من شرف التجديد ولكن شعراء العرب فى الاندلس مثلا وشحوا وهذا التوشيح سواء كان باختلاف القوافى مع المحافظة على كامل الوزن وسواء أكان بتقطيع التفاعل وتجديد القوافى هو فى حد ذاته خروج على الصنف القديم ولكنه خروج معقول موسيقيا واذا شئتم نحاول أمامكم دون ان نقول شعرا نحاول ان نذكر التفاعيل:

متفاعلن متفاعلن متفاعل     فعولن فاعلات

نسمع شيئا فى الاذن العربية أنها نشزت أما هذا الوزن الكامل الذي اختاره مثلا : متفاعلن متكررة ثلاثا فى الصدر ثم مكررة ثلاثا فى العجز واكررها كيف شئت فاجعل مثلا متفاعلن اربع مرات على حدة ثم متفاعلن مرة واحدة على حدة فالاذن العربية تنساق فى سياق هذه الموسيقى واذن ليس محظورا التجديد فى شكل الشعر العربى بشرط ان نحافظ على الموسيقى الشعرية وآسف انى لست متخصصا بالموسيقى الشعرية الاصيلة ولكنى أفهم ان فيها بحورا كبحور الشعر مثلا النهوند او غيره وأفهم ان الموسيقيين يصعب عليهم ان يمزجوا بين بحر وبحر وانهم يمهدون للانتقال من بحر الى بحر كانتقال شعرائنا القدماء من موضوع الغزل الى موضوع المديح .

بعد هذه الامور الشكلية وربما عدنا اليها ورأينا ان الشكل أساس هنا يجب علينا ان نتساءل ما هى رسالة الشعر ؟ - هل الشعر أداة للتعبير عن الفكر وحسب وبهذه الصفة هل نكل الى الشعر عمله خاصة فى المجتمع بطريق التوظيف - لا أقول التوظيف الحكومى وربما يكون توظيفا شعبيا ام هل ان الشعر انبثاق من اعماق النفس يؤدى رسالة هى رسالة الشاعر اولا ورسالة هذا الشاعر تترك الصدى فى المجتمع تستمد منه وتؤثر فيه ؟ للجواب على هذا السؤال يجب علينا ان نعود ليس الى تحديد الشعر لان الشعر من الامور التى لا تحدد وانما الى طبيعة الشعر - اختلف الناس من القديم فيما إذا كان الشعر الهاما او غير الهام والفيلسوف العربى التونسى الكبير ابن خلدون ما أخطأ فى نظرية كخطئه فى نظرته الى الشعر ولكن خطأه يمكن ان يوضع ضمن اطار عام لنظرية كان اعتنقها فى المقدمة وهى ان كل شىء صناعة تاتى بطريق المراس وعندما وصل الى الشعر طبق هذه النظرية واعتقد ان لاى كان ان يصبح شاعرا بشرط ان يحفظ قصائد الاولين ثم يتمرس على نظم الشعر . طبعا هذه نظرية . وهى جزء ضئيل من نظرية ضخمة صحيحة هى الاخرى ليست كهذه جازها الزمن .

والشعر ليس صناعة وان كانت الصناعة تصقله ، الشعر انبثاق داخلى ، ولقد تحدث بعض المتحمسين عن الشعر فعدوه طريقا الى الله الى الوحى

ونحن لا نريد ان نجازف بالالفاظ ولكن ما يمكننا ان نقوله هو ان الشعر انبثاق داخلى واذا فاى توجيه للشعر لا يفيد : الشعر انبثاق داخلى من نفس الشاعر والشاعر انسان ونحن يمكننا ان نربى الشاعر التربية التى نشاؤها وعند ذاك تنبثق شاعريته من تربيته اما أن نفرض عليه بعد ان يتكون ان يضطلع برسالة ما فهو حتما سينظم بهذه الرسالة ولكنه حتما مخطئ من الوجهة الفنية - أقول ذلك ردا على فكرة برزت منذ سنوات مع بروز الفكرة العربية فى جميع البلدان انه يجب ان نجند للنهضة الوطنية جميع امكانياتنا والشعر فى الطليعة وقد قرأت شعرا قوميا لشعراء فلم استخف من شعرهم الا الشعر القومى وهم شعراء لم يقولوا فى زمانهم بيتا واحدا من الشعر فى معرض القومية تجندوا بموجب هذه الدعوة فاخفقوا وأعرف شعرا قوميا رائعا لاناس لم يجندهم احد الا احساسهم القومى الداخلى قالوا الشعر كما تتنفس الزهرة العبير واذا بشعرهم صار فى البلدان العربية يلهب النفوس . أذكر بكل فخر وبكل تأثر شعرا واحدا لشاعركم العظيم الذي شاءت المنية ان تفجع به البلدان العربية قبل ان يختم وهو المرحوم ابو القاسم الشابى ، وله قصيدة فيها شعر لا يكاد تلميذ عربى على رقاع الارض العربية يجهله:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد ان يستجب القدر

ولا اذكر فى تاريخ حياة الشابى ان أحدا وجهه لهذه الجهة ولكنه عربي تألم فشعر فقال الشعر.

هذا ما أريد ان أصل اليه : ان الشعر لا يطلب ولا يفرض فلو كان أبو القاسم الشابى رحمه الله قد عاش غير الحياة التى عاشها ولو كان قد عاش فى بيت غير مجاهد لما قال هذه القصيدة ولكن على كل حال لم تطلب اليه كفرض واجب فأذن عندما نقول يجب ان نجند جميع قوانا الروحية من أجل استقلالنا ونهضتنا يجب ان نتذكر ان علينا واجبا أوليا هو ان نضع أنفسنا وان نضع النشء بشكل خاص فى هذا الجو الذى نريد ان نستثير نتائجه فيما بعد .

هذه كلمة عارضة على جانب من الشعر - الشعر القومى أقصد - أعتقد انه سلاح قوى كبير اذا هيئت له الاسباب ولكن فى نظرى ان شاعرا عربيا

وصافا وحسب يصف زهرة جميلة وصفا رائعا يرفع قصيدته بها إلى المستوى الانسانى ان ذلك الشاعر يخدم القومية العربية أكثر مما ينظم ملحمة مؤلفة من مائة الف بيت اذا كانت جميع أبياته نظما وحسب.

اعود الى قضية الشعر الحديث - هنالك شىء جديد نقرأه ونقرأ عنه يدعى الشعر الحر . أريد أن أقول لكم انى لا أفهم هاتين الكلمتين المتناقضتين ألم يعنوا بالحرية الانطلاق من الوزن والقافية والشعر يدعى بلفظة ثانية فى العربية : النظم واذا كنا من حيث الفن ومن حيث المستوى والاحساس العميق لقيمة الشعر نفرق بين النظم من جهة والشعر من جهة فنجزم أن النظم كلام موزون مقفى وحسب ونكرم الشعر فيجب علينا الا ننسى ان الشعر هو النظم هو شىء منظوم أعنى انه مركب على وقع معين واذن عندما نزعم ان هنالك شعرا حرا من الوزن والقافية اى من كل وسيلة نظم من كل وسيلة صياغة نكون قد خالفنا منطق التفكير ويحدث لى أن أقرأ الشعر الحر أحيانا وأستسيغ منه فقرات ولكنى أدعوه نثرا - نثرا فنيا - وأنا ممن يكتبونه ايضا فى بعض الاحيان وان كنت أحاول ان يكون أقرب الى خيال الشعر والى انسجام النثر من هذا النثر المقطع الذى تتساءل أمامه هل هو عربي ام هى حروف عربية تنقل اليك أفكارا أجنبية - أنا أعتقد ان الشعر الحر لا يوجد والصيغة الوحيدة - التى يمكن ان نقبلها الى جانب عمود الشعر القديم هى هذه التفاعل التى تزداد وتنقص على هوى اتساع المعانى وانقباضها ولكن ضمن البحر الواحد - اذا سمحتم لى سأسمعكم قطعة صغيرة من نظمى على هذا النمط بالذات: موضوع القطعة " غروب " - أصف غروب الشمس -

غروب

وأفق خصيب ووجع أسى فى حنايا الغمام

سلا العندليب نجى يبث هوى المستهام

ولا الياسمين ندى الجبين يروى النسيم عبيرا وطيب

غروب على جبهة الكون منه شحوب

وبين الضلوع خفوق وجوع

الى مفرق الشمس خلف الربوع

كأن التلال دمى من رمال

بقلب الغروب بقلب المحال تذوب

فهذا التلاعب بالتفعيلة فى عددها . - عندما قلت - غروب على جهة الكون منه شحوب - غروب أصبحت شطرة مستقلة نصف لوحدها وباقى الكلمات هى الشطرة المقابلة - مسموح - لست أول من استعمله أستعمله شعراء عرب قبلى - مسموح به لانه يبقى على بحر موسيقى اذا شئتم - يبقى على هذا النسق الموسيقى المتكون من وزن المتقارب : فعولن - فعولن - فعولن - فعول

هذا النمط أعترف أنه يسمح للعواطف أكثر من السمت القديم أن تتلاعب وللتصوير والوصف أن ينطبقا تمام الانطباق - ولكن يجب أن نعترف وأكرر لكم انى أعانى النمطين وبشكل تقريبى دائم لا فرق لدى بين هذا وذاك - يجب أن نعترف انه عندما يعمد الشاعر لا الى قصيدة على الوزن وحسب ولكن عندما يعمد الشاعر الى فكرة عميقة يريد أن يقولها بملء فمه وبملء نفسه عند ذاك جميع هذه التفاعل التى تطول وتقصر يشهد انها عاجزة عن أن تحمل عاطفته الجياشة تحملها كما يحمل النهر المنحدر من رأس الجبل الماء العكر فاذا شاءها الشاعر قوية صافية منسجمة وجب أن يضعها فى اطار الوزن القديم وفى اطار الثقافة الموحدة.

هذا الحديث بين الشكل والمضمون مهم فى الشعر اذا أخذنا مثلا آخر - التصوير مثلا - هل يمكنكم أن تتصوروا تصويرا بلا لون بلا ألوان ؟ مطلقا سواء أكان هذا اللون قلم رصاص او شيئا آخر ؟ لا - واذا فلكل فن أداة او ادوات - أداة الشعر الكلمة . واذن يجب أن نفهم ما هى الكلمة. الكلمة شكل إذا صح التعبير كلمة مؤلفة من حروف ولكل حرف جرسه الخاص ولكل جرس صداه ليس في النفس والاحساس بل صداه فى الخلايا الدماغية . بحيث ان الانسجام الموسيقى للحروف ومن ثم الانسجام الموسيقى فى سياق الكلمات متصل اتصالا وثيقا بالانسجام المعنوى فى خلايا الدماغ وبحيث أنه - وهذا ينطبق عل النثر أيضا كما ينطبق على الشعر - لا يمكننا بوجه من الوجوه أن نفصل بين الشكل والاساس بين الشكل والمضمون بين ما تعارف الناس على تسميته المعنى والمبنى.

هذا نفصله عندما نكتبه عندما نكتب كتابا في الشعر او مقالا فى النقد اذ نرى كيف عبر الشاعر شكلا عن فكرة بطريق الرمز أو بالايحاء أو بطريق الصورة والخيال ولكن كل كاتب عربي كل أديب عربى يجهل وزن الحرف ومن ثم وزن الكلمة ومن ثم وزن سياق العبارة لا يمكنه فى نظرى أن يؤدى ليس فحسب عملا فنيا بل لا يمكنه أن يؤدى فكرته كما يجب ان يؤدى.

اشترك في نشرتنا البريدية