( مهداة الى الاخ خميس الخياطى اكبارا )
. . . في الزاوية الشرقية لمفترق الطرقات الرئيسية للربض الشرق بالمدينة يواجهك باب مقهى صغير . ليس لهذا المحل العمومى كراس وانما هو رف طويل يمتلك نصف مساحة المقهى التى لا يزيد طولها عن السبعة أمتار وعرضها عن الاربعة . . . وقف حامد وابراهيم الى الرف وطلبا قهوتين . . .
قال ابراهيم يخاطب حامدا : انه للاعب ماهر .
حرك حامد رأسه ، وهو ينظر فى كأسه ، حركة موافقة ، ثم أفرغ ما فى كأسه من قهوة فى جرعة واحدة ، ثم عب نفسا طويلا وهم بالانصراف ، غير انه ارتد عن ذلك . اذ رأي كأس رفيقه ما زال ملآن قهوة ، فوضع يده اليمنى على (( الكنتوار )) وحرك أصابعه حركات آلية فارغة ، يستعجل بها صاحبه ، فأدرك منه رفيقه ذلك ، فرشف رشفتين متتاليتين ثم نظر إلى ساعته وقال : حامد . مالك عجول ؟ انها السابعة والنصف صباحا !
مرت عليه ملاحظة صاحبه لحظة ثم عادت اليه كالنقر الملح : (( حقيقة أنه لعجول ، لهوف ، متنازع الرغبات ، مجنون . لا يلتذ بشئ ولا يستمرئ لذة ولا يقف على ارتواء !! ))
أشعل سيقارة ثانية ، ثم نظر إلى سيقارة رفيقه ، فاذا هى الاولى ، لا تزال فى منتصفها ، تبدو كأنها منطفئة . فتساءل : (( . . . ولكن ما هذه العحلة , وهذه اللهفة ، وهذا التنازع والفرار من الاستقرار ؟ ! ))
واصل ابراهيم حديثه عن اللاعب المقامر الذى شاهداه بالكازينو ، فقال : (( . . . انه حقا للاعب ماهر تمكن بفضل ما أوتى من جرأة ومهارة من السيطرة على الميدان و . . . ))
فأخذه حامد وأخرجه من المقهى ، ولما احتوتهما الطريق قال له حامد : قل انه للاعب ممتاز .
فأعاد ابراهيم : ماهر وممتاز .
فأضاف حامد : - ما قصدت ذلك ، وانما أردت أن أقول لك ان هذا الصنف من لاعبى الميسر لا يطلبون من لعبهم الكسب وربح المال وانما ينشدون الانشغال وايقاظ الحس ، وتعذيب النفس والذوبان فى الافتعال .
نظر اليه ابراهيم ثم قال : انك لتقول هذرا ، عبثا .
فهمس حامد فى سره : (( الهذر ، العبث ، الجنون ، كلها مفاهيم لغوية حمقاء . . . ))
. . . كان الليل أسود ، أسود . . , وكانت سماء هذا الشتاء صافية ، صافية . . . قال حامد لابراهيم :
- ألا نشرب شيئا فى حانات وملاهى هذا الشاطئ الشرقي الندى ؟ فأجابه ابراهيم :
- لقد أضربى التدخين والشراب .
- والنساء !
- النساء والسهر وخراب الجيب . . .
- ولكن : وما الحياة اذا كانت خلوا من نساء وشراب ودخان !
- أنت خلى ، لا خلاق لك . مات فيك الاحساس بالقيم السامية
- ولكن ألا ترى مثلى ، أنه لابد من قيام حرب ضروس حتى تعود القلوب الى الصلاة الحق ؟
وتواصل الحديث بينهما فى صلابة جد وقسوة اقرار . . . , ثم بدأت أولى كؤوس ليلتهما تتصعد الى رأسيهما صامتة ، ثابتة . . . كان مجلسهما فى الحانة فى القسم الصيفى منها ، على رمال الشاطئ ، قريبا من البحر . . . , المقصف يحتل نقطة وسط الساحة الفسيحة تنطلق منه رائحة الشواء كثيقة . . .
بالقرب منهما تجلس ثلة من السواح ، رجالا ونساء فى ميعة العمر يتعشون . . , يبدو أنهم خلان وخليلات فى مرح شبابهم الطافح بالحيوية
والجمال . . . كانت قهقهات النساء تتعالى فى شهيق أنثوى ناعم . . . وكانت تعاليق ابراهيم سخيفة ، ساذجة : (( هذه أجملهن خليلها يبدو كأنه تيس مركب . . . التى تواجهك امرأة الفراش والليالى الحمراء . . , أما هذه التى عن يمينى فهى للمداعبة فقط ، انها ظريفة ، رقيقة . . . . ))
كان ابراهيم يتكلم ، وكان حامد يتتبع خطى قطة برزت من طرف الميدان , تمشى متثاقله ، مترددة . . . قال له ابراهيم .
- ما رأيك فى هذه الرقيقه الناعمة ؟
فأجابه حامد :
- عمن تتحدث ؟ آه . انما . . . كلهن نسا . . . ولكن أسألك بالذي خلقك ، ما الذى يشدنا الى المرأة ! ! ألا ترى مثلى أنه غير ما نراه عليهن من ألوان وأرداف وثقب ؟
نظر اليه ابراهيم ومط شفتيه . . .
نظر حامد فاذا القطة بين رجليه تتشمم الارض ، تبحث عما قد انفلت من أيدى رواد الحانة من طعام . . , انها مرضع جائعة ، تدلت أثديتها وضمر بطنها خرجت تطلب أكلا . . . ركلها ابراهيم برجله فنطت الى المائدة المجاورة . . , انحنت عليها احدى الجالسات وأخذتها : مررت يدها على ظهرها فعنقها ، ثم عانقتها . . , نظرت الى رفيقة لها وابتسمت ، ثم مدت ، شفتيها تريد أن تلمس حلمة أحد أثدية القطة . فنطت فتركت على فخذى الفتاة خطوطا حمراء . . . , قالت لرفيقها :
- انها أم .
فأجابها ، أعرف ذلك . وهى لا تسلم حلمتها الا لبنيها .
وقفت القطة فى أحد المعابر ، بين المناضد ، مترددة ، فوقفت الفتاة واتجهت نحوها ، ولما دنت منها ، انحنت عليها فى هيئة المبتهل ، ومدت اليها (( مشموم فل )) متفتح . . . , نظرت اليه القطة ثم ادارت رأسها ، فأدارت الفتاة يدها وأدنت (( المشموم )) من أنف القطة ، وحركت يدها ترغبها فى الاستنشاق ، فهمت القطة بالانصراف . . . أخذ حامدا احساس مفاجئ ، فهب من مكانه واتجه نحو القطة واخذها . قال للفتاة :
- انها جائعة ، انها لا تتغذى بالفل .
نظرت اليه فى ابتسام رخو ، فأدرك أن ما قاله لها ساذج ، ساذج . . . قالت : ولكنها أبت أن تشم الفل .
قال لها حامد : ألا ترين أنك تعبثين !
فأجابت : بل هى يدى نزلت الى القطة تطلب صلاة لا لحم فيها ولا زبد .
نظر اليها لحظة حائرا ، ثم ناولها القطة واتجه نحو ابراهيم فاستوقفته قائلة :
- ألا تعلم أن القطط أكثر الحيوانات حساسية شم ؟
فأجاب حامد :
- لا لكل رائحة ، اللحم فقط .
فقالت :
- وهل للحم نيا أو مطبوخا رائحة أكثر اغراء من أريج الفل !
- قد تكونين مصيبة لانك قطة ممتازة .
التفت اليه أحد رفاقها ثم عاد الى ما فيه من لهو . . . , رفعت اليها احدى صواحبها عينا خاطفة ثم عادت الى ما فيه من لهو . . , فترك حامد ابراهيم والحانة واختفى من الانظار . . .
. . . ألفى حامد نفسه ، بعد حين ، أمام محطة الارتال ، فرفع يده اليسرى ، فاذا ساعته تشير الى الحادية عشرة ليلا ، فأمر يده على جبينه وضغط عليه . ثم فرك عينيه ، ثم واصل طريقة حتى دخل فى معبر فندق فخم . . . , حياه أحد الندلاء فى الباب ، وكان أنيقا ، رشيقا . . , وفى أقصى تزلفه . . . الانوار فى هذا الفندق باهتة . . . , مجموعة من السواح على الارائك ، أمامهم مناضد مستديرة ، قصيرة ، يشربون ويدخنون . . , بعضهم أمام رف مستدير يقصف . . . , فى زوايا وانثناءات القاعة (( أزواج )) فى صمت خافق ، أو وشوشات لطيفة ، أو لمس محموم . . , موسيقى لينة ، هادئة تسرى وتلف القاعة بأنغام كالهمس . . . , واللون الزيتى يصبغ كل شئ هنا . . .
نزل حامد فى أحد المدارج الى النادى الليلى . . , استوقفه بالباب أحد عمال النادى وطلب منه ثمن تذكرة الدخول ، فابتسم له حامد ، فافسح له الطريق فدخل . . . فنظر يمينا ويسارا ثم اتجه نحو المقصف ، فطلب شرابا .
الانوار ، هنا . ضعيفة ، ضعيفة حتى كأنه الظلام يغزو أصيل يوم شتائى عليل . . , المرقص يقبس أضواء ملونة ، موجهه . , ، تسطع على جموع الراقصين فى صخب موسيقى لا تعرف اللين ، وانما هى الصلصلة والحمية والصولة . . . نظر حامد الى حلبة الراقصين فاذا هى تعج بالاجساد الناعمة فى حركة متواصلة حركة لا تعرف هوادة وانما هى الرعنة والدم يتدفق ويتحدى . . . , ثم سكنت الانغام وسفت ، ولانت حق كأنها تحتضر فالتصق (( الازواج )) فكانت لحظات النداء . . , الانقطاع للنداء ، . . الفناء فى النداء . . . وبدا له جو النادى غائما كأنه ضباب واقف يملا ما بين السقف والارض فى عبق رائحة التبغ والكحول .
همس حامد فى سره : (( انها لحظات الانطماس والغيبوبة )) ثم هوى على احدى الجالسات ، وكانت تدخن ساكنة ، وأراد أن يطلبها لرقصة ، فأسندت رأسها الى ظهر مقعدها وأغمضت عينيها ، فلم يطلب منها شيئا . . وتهاوى بجانبها (( حمى اللذة تلف جو النادى )) . . . أخذ لها يدها فأسلمتها له دون أن تتحرك أو تفتح عينيها . . . " تبا لك من شقي ! لا تتعجل أيها الاحمق ! انها لحظات العمر المختلسة ، انها دوامة الحركة التى لا توقفها حركة ولا ناموس . . . يدها ناعمة ، نائمة ، خذها ان شئت ، فهي لك ما دمت تطلبها ، وانما دعنى ان نفسى تطلب الركوب على الزمن ، تنشد الاشباع . . , التجسيد ، . . الابحار . . . ما يمكن أن تمنحك اياه امرأة ، امرأة مثلى ثملى ، إذا ما غادرت هذا النادى ؟ ! أليس الا الفراش وبرودة الالتحام ! ! . ))
أقبل (( فارسها )) فنظر الى حامد وابتسم . فوقف حامد وترك النادى ، وفى طريقه دخل (( بيت التنظيف )) . وضع يديه على أحد المغاسل الصغيرة ثم رفع رأسه الى المرآة أمامه ، فطالعة وجهه محتقنا ، وعيناه متورمتين ، مخضلتين : (( ما أبشعنى آخر الليل ! أتكون المرأة في هذه البشاعة ان ثملت ! لعل ذلك من اسباب ظلام النادى ونوره الاغبش . . . ولكن يا ويلتى من الصمت وبرودة الحس وسكون الهزة . . . يا ويلتى من جمود النفس وآنزواء الذات ، يا ويلتى , يا ويلتى . . . سعل حامد سعلات متوالية ، مكتومة أفرز اثرها بلغما خثرا فأفرغه فى المغسل فلصق بسطحه ، فأحس بشئ من الراحة ، راحة الافراغ . . أمر اصبعه على فقاقيعه اللزجة ، المتميعة ثم ارسل عليه ماء الحنفية فتململ وتلكأ
أمام ضغطه ثم انطلق سريعا نحو المسكبة فابتلعته المسكبة . . . هذه الطريق التى تتجمع فيها افرازات الجسد ، أقذار الجسد ولكن (( . . . ولكن أليس الموت الا اغتسالا وتجددا للحياة ! ))
. . . وجد حامد نفسه ، بعد حين ، فى الطريق منفردا ، . . كانت مقفرة : الا من بعض السيارات العابرة فى سرعة مذهلة . . . نظر الى السماء فاذا البهر يغزوها من الجهة الشرقية وراء سحب سوداء قائمة كأنها رؤوس حبال متعالية , متداخلة ، حادة . . . نظر الى ساعته ، ثم فرك عينيه ، ثم اتكأ على عمود كهرباء ورفع عينيه يتبع تعالى شرفات عمارة أمامه . . . , التمع نور باحدى الشرفات . . . واصل تجواله على غير هدى . . . بعض المقاهى تفتح أبوابها . . . , الاسفلت نظيف ، أسود ، تعبره ، من حين لآخر ، الحافلات العمومية خالية من الركاب أو تكاد ، فتهتز الارض تحتها ، وتثور وراءه رائحة غاز كريهة . . .
انتهى به السير الى المقبرة : السكون راكد فيها . . . , قامت أمامه هضبة ، فانتحى مسربا ضيقا ، ملتويا يتصاعد مع ارتفاعها ، فسار فيه ، مجهدا , حتى كان على قمتها ، فنظر : المدينة تحط أمامه فى السفح ، ساكنة ، انوارها منمحية ، . . لبناياتها هندسة مشوهة ، تتعالى وتتدانى وتسفل وتبعد فى غير انتظام أو جمال . . . عن يمينه تترامى الوهاد والمهاوى الموحشة ، المقفرة , ينتهى بعضها الى بحر اسود مائل قليلا ، . . ويمتد بعضها الآخر متعرجا متنافرا حتى يلامس الافق . . .
همس حامد فى سره ولفة البهار تمتد وتتسع دوائرها وتغزو سحرا لينا : (( أحس ، فى غريز ذاتى أن أمي وضعتنى فى هذه اللحظه ، فصت أولى صيحاتى وعندما تسطع الشمس ، بعد حين ، على سطوح هذه المدينة ، وتتراكض أشعتها أمامى على مد البصر ، أكون قد فتحت فمى لاول مرة فى حياتى ، فمصصت ثدى أمي ، فدخلنى الطعام فى وهج الضياء ، فركبتني فورة اللحم ، ورغبة الدم . . . ايكفى أن يفتح الفم ليقوم الاستيعاب فالامتلاء . . , فيكون الكائن فى المأساة الوجودية ! ! ))
. . . فى الزاوية الشرقية لمفترق الطرقات الرئيسية للربض الشرقى بالمدينة يواجهك باب مقهى صغير . ليس لهذا المحل العمومى كراس وانما هو رف طويل . . . انجذب حامد الى المقهى فدخلها ، طلب قهوة ، رشف منها
رشفتين متاليتين ثم وضعها أمامه على الرف ، فقال له النادل : (( انك لم تضع فيها السكر . . . ))
ثم عاد الى غسل الكؤوس . . . أدخل يده فى جيبه يبحث عن لفافة تبغ فلم يجد فأعاد يده الى كأسه . . . , دخل ابراهيم ، فرأى حامدا فصاح : (( كيف بحدث هذا ! أتسبقني إلى المقهى وأنت . . . )) وانتبه الى الحالة الصحية التى عليها حامد ، فأخذه خارج المقهى وقال له فى جد وتأثر : (( أنت سكران , حامد ، ألم تنم بعد ! كثير عليك أن تحمل جسمك وأعصابك هذا الارهاق )) .
حرك حامد رأسه الثقيل وقال :
- أعلم ذلك . فاردف ابراهيم :
- أعلم ذلك .
فاردف ابراهيم :
- نعم .
- ما هو ؟
- لا أدرى ! لا أدري !
- أنت مهموم . فضحك حامد وقال :
- يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم .
- أتمزح !
- لا ، لا والله . ابراهيم ! انى اريد صلاة طهرا لا لحم فيها ولا زبد . انى أحس بدفق نارى يتوهج فى سويدائى يأبى السكون ، ويأبى الانفجار ، ويأبى الفناء ! أرأيت الى أكل الزهر ، أكل الفل . . .
فقاطعه ابراهيم :
- أنت مخمور .
فصاح فيه حامد : أعلم ذلك ، أعلم ذلك . . . ولكنى أحاول معك مستحيلا . . . أنت بهيمة ، بهيمة . . .
. . . ثم ذهب حامد مكروبا ، ذهب . . .
1 جانفى 1975

