الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

محاولة في تحليل شاعرية الشابى، ( 5 )

Share

اما الطبيعة ، العنصر الثالث الذي ابتغى الهروب اليه ، كى يجد فيه (( الخلاص )) فقد اقترنت بالمرأة ، فى الغرض ، واقترنت بالوحدة ، فى الهدف . أى ان الطبيعة والمرأة قد اتحدتا لديه ، فاصبح جمال المرأة ماثلا فى الطبيعة ، واصبحت الطبيعة تجسم له ذلك الجمال الذى ينشده فى المرأة . واتحدث بالوحدة ، اذ ان هدفه من العزلة هو ان يعيش لفنه ولربة الشعر يناجيها ، ليس فى مكان بلقع ، خال ، بل على الجبال ، وبين الاودية ؛ ضمن اطار خلاب من الطبيعة . حتى ان دنيا الفنان لديه ، وكل ما هب وما دب فى هذا الوجود ، وانطبع فى قلب الشاعر ، انما هى أطر طبيعية ساحرة لعالم مثالى جمالى . . ولا اريد البحث هنا فى ما اذا كان حبه للطبيعة ناتجا عن تأثره بطبيعة بلاده الجميلة ، ام ان ذلك كان لطبع فيه . واعتقد ان تعلقه بالطبيعة كان نتيجة الاثنين : فهو الشاعر الرومنتيكى المرهف الاحساس والشعور ، ميال بطبعه الى الجمال فى شتى مظاهره . فحبه للطبيعة نتيجة طبع فيه ، واذ وجد فى تونس ما يزكى مثل هذا الطبع من جمال الطبيعة ، فقد اشتد هذا الحب لها اكثر فاكثر . حتى انه حينما يتمنى الوحدة والانعزال ، فان أحلامه تحمله الى التخيل كيف يرى نفسه حرا طليق - فى ذلك العالم الطبيعى المثالى

أصرف العمر فى الجبال وفى الغابات بين الصنوبر المياد

. . . واغنى مع البلابل فى الغاب واصغى الى خرير الوادى

واناجى النجوم والفجر والاطيار والنهر والضياء الهادى (64)

بل انه يرسم ملامح ذلك (( البيت )) الذى يحلم به ، فاذا هى ملامح (( شفافة)) جدا ، من وحى الحلم ، الذى ظل يراوده حتى اواخر حياته . فيقول فى قصيدة (( الغاب )) بتاريخ - : 23-7-1934 :

(( بيت بنته لى الحياة من الشذى والظل والاضواء والانغام

(( بيت من السحر الجميل مشيد للحب والاحلام والالهام

(( فى الغاب سحر ، رائع متجدد ، باق على الإيام والاعوام (65)

ولكن الخيبة التى اصابته فى أحلامه بتلك الوحدة فى مسارح الطبيعة كانت شديدة الاثر عليه ، اذ حرم من هذه المتعة التى كان يتوق الى تحقيقها . ظل فى (( المدينة )) التى يحتقر أناسها - ابناء الشياطين - وما لديهم من النوادى التى يطلقون فيها سخف الكلام وميت الآراء لذلك كانت (( شواغل الحياة )) لا تسمح له الا لماما ان يعيش مع الطبيعة مغرقا فى تأمل جمالها . ولنا ان نقرر الآن ما اذا وجد هذا العزاء الذى ينشده للتخلص من وطأة الشعور بالزمن ومن كثافة قلقه الوجودى . رأينا انه خاب فى حلمه بالوحدة والعزلة . ورأينا انه وجد فى المرأة بعض اللذة التى ينشدها . ولكن فوزه ذلك كان يتأتى له أحيانا ، فى فرص متباعدة ، لانه كان مثاليا ، ومثاليته تلك جعلته يرى فى (( المرأة الاولى )) التى أحبها اقدس مثال . لم يجد مثله فى حياته ، ولذلك ظل يرثيه حتى آخر حياته ( سنة 1933 ) رغم قدم عهده ، واذ لم يتوفر له تحقيق حلم العزلة فى الطبيعة ، فانه لم ينجح فى أن بجد مهربه وعزاءه فى الطبيعة كذلك .

لذلك ، فانه يمكننا القول اذن انه خاب خيبة ذريعة . وتلك الخيبة قد زكت من قلقه الوجودى ومن حدة شعوره بالزمن وحدة احساسه بالسجن او حالة الحصار ، ضمن نقطة معينة من المكان . فكان ذلك سبب ادلهمام نظرته الى الكون عمق تشاؤه من الحياة . فكان شاعر الالم بحق . وألم ذلك ليس فيه افتعال ولازيف ، فقد كانت كل تلك الاسباب التى مرت تحليلها من دوافع ذلك الالم فى الشاعر . حتى اننا لو اردنا ان نطلق على الشابى تسمية ما وجدنا أصدق من ((شاعر الألم )) . فلا هو شاعر الطبيعة ولا هو شاعر الشباب ولا هو شاعر الحرية ولا هو شاعر الحب او المرأة ولا هو شاعر الوطنية بقدر ما هو شاعر الألم ومعظم " أبياته " التى توجد فى الديوان تنضح بتلك المرارة وذلك التمزق الذاتى الناتجين عن الشعور بذلك الألم الدفين . وكيف لا و (( غول الشقاء )) له بالمرصاد فى كل لحظة وكل خطوة من حياته ؟ حتى اننا نشعر به كانه أصبح هو ذاته قطعة من هذا الالم او ان هذا الالم اصبح قطعة من حياته وجزءا من كيانه لا يفارقه فى اى من لحظات حياته . فقلبه دائم الشكاة لانه دائم الحزن والالم . وهو ((قلب تائه قد )) قد ((انضحته الزفرات )) فاصبح ((حقلا مجدبا )) و (( ليلا معتما تندب فيه الباكيات )) و (( كهفا مظلما تأوى اليه البائسات )) ، وهو فى اخر المطاف (( قبر فيه من أيام ( الشاعر ) الاولى رفات )) :

ايها السارى مع الظلمة فى غير أناة ،

مطرقا ، تخبط فى الصحراء مكبوح الشكاة

تهت فى الدنيا وما ابت بغير الحسرات

صل يا قلبى الى الله ، فان الموت آت ،

صل ، فالنازع لا تبقى له غير الصلاة .  (66 )

ويصل به الشعور احيانا الى حد الهوس ، فيرى ان القدر يعاديه ويسلك معه سياسة المعاكسة . وقد يكون ذلك الشعور لحدث تافه : (( . . . لان القد هاته السنة - فيما ارى - لا يريد ان يسلك مع الا سياسة المعاكسة والعناد . وكيف يكون يا صديقى حال من يتعمد القدر معاكسسته ؟ ))  (67)

وفى ذلك العرم من الشعور بالمأساة ، والفيض من الاحساس بالالم اللذين يصلان الى حد التفكير فى النهاية ، فى الموت ، فيطلب من قلبه أن يستسلم وان يصلى الى الله مثل النازع ، فى انفاسه الاخيرة ، فى هذا العالم الماسوى الذى لم يجد فيه مخرجا ، ماذا تراه سيفعل ؟ هل سيواصل الاستسلام والقنوط أم سيفكر فى مخرج ينفذ منه الى عالم صحوى ينسى فيه الألم والاحزان ؟ لقد برزت ظاهرة فى حياة الشابى ، تجلت فى شعره ، فى منتصف سنة 1933 ، تقريبا ، ثم تواصلت معه ، وهذه الظاهرة ، هى ظاهرة (( التمرد )) او (( الرفض )) . وقد تولد هذا (( الرفض )) عن تلك الحالة المأسوية التى يعيشها وعن ذلك الشعور العميق بعدائية العالم والقدر له ، الذى يعانيه وفى الرسالة المؤرخة ب 19-12-33- الرسالة التاسعة والعشرين - يخبرنا : ببداية هذا التطور : (( . . . انى لازلت كالماض أشعر فى صميم نفسي بأن الاقدار تحاربنى . وهى سخافة على كل حال . ولكنى او من في قرارة نفسى بها . وانما الفرق بينى وبين نفسى الاولى ( هو ) انى كنت اتقبل آلام الحياة واتحسس اشواكها بنفس ضارعة وقلب دامع باك . اما الآ فاننى القاها ببسمة الساخر المنتشى بجمال الوجود . وقد احسست ببداية هذا التطور لما اصطفت بعين دراهم . ولعل جمال الطبيعة هناك قد كان له الاثر الاكبر فى تلوين نفسى بهذا اللون الجديد ، كما ان مصيفى هذا العام وما رأيت فيه من صور الطبيعة الرائعة قد أكمل هذا التطور وانماه . اما الآن فانى اشعر بانقلاب عميق قوى فى نفسى كل القوة . وستدرك هذا التطور في نفسى حينما تطلع على قصائدى الجديدة . وقد عبرت عن هذا الانقلاب الروحى بقصيدة (( الصباح الجديد )) (( 9-4-33 )) الذى ارسلته الى (( أبولو )) وقصيد (( نشيد الجبار )) ( الذى كتبه فى اثناء المدة التى كتب فيها هذه الرسالة - اى فى 15-12-33 ) هو صورة صادقة لنفسى فى طورها الحاضر الجديد )) (68) . وهكذا اتحد هذا التمرد بشكل من التحدى العنيف ، فى أول نشأته . كان تحديا لتلك الحالة المأسوية من الالم والمرض والقدر الذى يعادى الشاعر . فبعد أن تولد فى حياته ذلك  ((الصباح الجديد )) و (( دفن الألم فى فجاج الردى )) و (( نثر الدموع لرياح العدم )) و (( اتخذ الحياة معزفا للنغم )) واصبح يرى نفسه " جبارا ، اقوى من الداء والاعداء والقدر )) :

سأعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء

أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا بالسحب والامطار والانواء

. . . وأقول للقدر الذى لا ينثنى عن حرب آمالى بكل بلاء :

لا يطفئ اللهب المؤجج فى دمى موج الاسى وعواصف الارزاء

فاهدم فؤادى ، ما استطعت ، فانه سيكون مثل الصخرة الصماء . (69)

فقد تبلور هذا التحدى ، واصبح (( تمرردا )) .وهو تمرد نلمسه فى شعره فى مرحلته الاخيرة - على ثلاثة مستويات : فهو تمرد ميتافيزيقى ، وهو تمرد رافض للواقع ، وهو تمرد ثورى . اما التمرد الميتافيزيقى فكان لديه رفضا للالم والحزن والاستسلام ، ورفضا حتى لفكره النهاية - الموت - . وقد ظهر هذا التمرد الميتافيزيقى فى (( نشيد الجبار )) - اغنيه برومثيوس ( الذى تمرد على الآلهة ) خاصة - فلمسنا فى تلك الابيات الاولى تمردا على الداء والاعداء والقدر . ثم يتطور هذا التمرد فيصيح على الناس الذين (( يتجشمون هدمه ويودون لو يخر بناؤه )) . ولكن ذلك التمرد يبلغ ذروة العنف فى لهجة التحدى العنيف ، عندما يقول :

أما إذا خمدت حياتى وانقضى عمرى ، واخرست المنية نائى

وخبا لهيب الكون فى قلبى الذى قد عاش مثل الشعلة الحمراء

فانا السعيد باننى متحول عن عالم الآثام والبغضاء

لاذوب فى فجر الجمال السرمدى وارتوى من منهل الاضواء  (70)

والحقيقة ، هى ان لهذا التمرد الميتافيزيقى جذورا فى حياة الشاعر السابقة منذ اصبح ينضح شعريا . فنحن نلمسه فى قصيدة (( الى الله ))  (1929 ) التى يقدمها بهذه الكلمة (( تعرض لقلب الانسان الذى لا تنتهى اطوره ازمات نفسه ثائرة يعصف فيها الالم والقنوط بكل حقائق الحياة ، وتتزعزع معها كل قواعد الايمان والحق والجمال ، فيشعر المرء كانما انبت ما بينه وبين الكائنات من وشائح الرحم والقربى ، فاصبح غريبا فى هاته الدنيا الغريبة فى نفسه ، وكانما الحياة فن من العبث المرعب الممل الذى لا يجدر بالعطف ولا بالبقاء . . .))  (71) . وتحت تأثير تلك الحالة من الشعور ، يعلن تمرده  وتحديه فى كلمات شديدة حادة فيها من الاتهام لله والتعريض به مالا يتصور من مسلم ان ينطق به حتى فى سره . ولكنه يقبل بالطبع من انسان ثائر ضد حالته التى حطمه الالم فيها . والشابى فى تلك القصيدة ، ينتهى الى الاستسلام واعلان (( اسلامه )) وخضوعه الى (( المشيئة العليا )) والى القدر . ولكن هذا التمرد ، فى مرحلته الجديدة ، يصبح تمردا واعيا ، اذ كانت نظرته الاولى ناتجة عن شعور حاد بالألم . فكان تمرده نوعا من الايغال فى ذلك الالم ، حتى اصبح رضيا بحالته تلك ، راضخا لها ، قنوعا بها ، اما فى هذه المرحلة فقد

أعانه (( نضجه )) أو (( وعيه )) - وان كان غير مكتمل - الذى اصبح يتبلور ، فاصبح يشعر شعورا لا يعروه تذبذب بكثير من المشاكل الميتافيزيقية والمجتمعية . فنراه يناقش فكرة الوجود ويتفلسف حول (( الحياة والموت والخلود والكمال )) ( فى قصيدة " حديث المقبرة )) ) .

وعن وعيه للمشاكل المجتمعية ، يتولد العنصر الثانى من تمرده ، وهو التمرد الرافض . وهو تمرد رافض للمجتمع ، الذى رأينا منه رفضه (( للمدينة )) وللناس الذين يعايشونه فيها . والسؤال هو : لماذا يرفض الشابى المجتمع ؟ هل ان ذلك لميل فيه ، اى لطبع فيه ، لانه يحب الوحدة ؟ ام انه قد وجد فى المدينة اناسا - ابناء شياطين - كما قال ، لا يمكن له ان يتجاوب معهم أو ان يتجاوبوا معه ، ليس غير ؟ ام انه يرفضه لسبب آخر غير تلك الاسباب ؟ رفضه للمجتمع فى الحقيقة ، هو رفضه للواقع . وذلك الرفض للواقع ناتج عن طبع فيه قد توفرت فى تكوينه عوامل عديدة . فالانسان ما ان تفتح عين وعيه وتمتد بصيرته النافذة الى عقل المحيط الذى يعيش فيه ، وخاصة إذا كان فنانا حتى يشعر بالغرابة لاول وهلة - غرابته هو ضمن ذلك الاطار ، وغرابة ذلك الاطار عليه - وتكون عملية التلاقى بين الفنان وبين الوسط الاجتماعى ايجابية أحيانا ، فيقع الانسجام ، وسلبية احيانا أخرى ، اذ يشعر الفنان بنفسه فى غير الموضع الذى يجب ان يكون فيه ( Mal placé ) وقد كان هذا الوضع وضع الشابى . فقد كان يتمنى أن يعيش لحظته الحاضرة ، ان يعيش حاضره ولكن حاضره مؤلم بما ينبعث فيه من الآلام وما يهيمن عليه من مرض . فكان لذلك ، ميالا الى أن يعيش فى غير تلك اللحظة الحاضرة ، فى لحظة سعيدة لا يفتت له فيها الألم اعصابه وينهك فيها الشعور المضنى قواه . فكان احساسه الحاد باللحظة (( المشقية )) يجعله هاربا من الواقع الى واقع آخر اما ان يكون عاشه فى الماضى ، أو أنه لم يخلق أبدا . ومن ذلك يتولد التصادم العنيف بين الخيال وبين الواقع ، بين ملكات الفنان التصورية والتخيلية التى تهرب به الى عالم مثالى طوبائى ، وبين الواقع الذى يعيش لحظاته الراهنة التعيسة ، لانه لم يحقق فيها رغائبه .

ولقد كان الشابى ، بحكم مرضه وقلقه الوجودى وخيباته المتتالية فى تحقيق رغائبه ، شديد الميل الى الهروب ، كما تبينا ذلك من قبل . ومن ذلك الميل الى الهروب تولدت تلك (( المثالية الافلاطونية )) التى تمثلت فى مذهبه الرومنتيكى ، الذى انتهجه . فتلك المثالية لم تكن مبنية على توهم او افتعال ، ولم تكن وليدة تأثر بنظريات شرقية وغربية ، بل كانت وليدة رغبة عنيفة جامحة فى ذات الشابى الى (( الهروب )) كى يعيش بمفرده . وقد بينا من قبل انه كان يعيش الحالة الرومنتيكية ، اى ان الرومنتيكية لديه لم تكن مذهبا

ادبيا ، يتبع ، فقط ، بل وكذلك حالة حياتية تعاش . وتلك الحالة التى اشبعها القلق الوجودى والسأم والضجر والمرض بجميع مستوياته ، سوداوية ، فتفجرت حدة وضراوة وفداحة ، هى التى جعلته (( يحلم )) بتلك الحياة المثالية ، و هى التى جعلته يصبح مثاليا فى رومنتيكيته كمذهب ، وفى شعره المعبر عن ذلك المذهب المثالى . فنحن نرى ان بواعث تلك (( الرغبه )) انما هى كوامن فى ذات الشاعر . فهى بواعث باطنية نفسانية . ومن تلك المثالية التى يرغب فيها فى الحياة ، تولدت مثاليته فى الفن . فكيف له ان يقبل هذا الواقع الذى لم يجد فيه مطامح نفسه ، موردا لفنه وعنصر وحى لشعره ؟ لذلك قال :  ((إذا انحط الفن الى خدمة الشعب واتباع منازعه وغاياته ، واصبح اداة يصرفها كيف شاء ، فقد انقلب عبثا صبيانيا ساذجا لا قدسية فيه ولا جلال )) (72) وهذه النظرة الرافضة للشعر الاجتماعى تدل على (( نفرة شاعرنا من الواقع الاجتماعى من حيث هو واقع ومن حيث هو مورد للفن )) (73) ، وهذه النفرة من الواقع لم تكن عن ترف أو ترفه لدى الشابى ، بل عن تلك ((الحاله )) التى ذكرناها ، والتى جعلته (( لا يعبأ كثيرا بما قد طرأ على حياة الناس من عسر )) ، وكيف له ان (( يتنزل من عليائه - كما يطالبه بذلك الاستاذ توفيق بكار - ، وان يداخل الناس فى حياتهم اليومية المريرة ، حتى تنصهر نفسه بالواقع ، فتنضج ، وتحتك آراؤه به ، فتعمق ؟ كيف له ذلك النزول وذلك الاختلاط بالشعب فى واقعه المؤلم وذلك الواقع احد الاسباب المكثفة من قلقه الوجودى والمعمقة من شعوره بالمأساة والمشددة من حدة (( حالته الرومنتيكية )) ؟ .

( أما قول الاستاذ بكار - فى دراسته الرصينة المتعمقة ، كما عهدنا دراساته من قبل ، حتى ان هذه الدراسة له تعد من أدق وارصن ما كتب الدارسون عن الشابى ، فى السنوات الاخيرة - عن (( جناية المثالية الرومنتيكيه )) على الشابى ، فعلى غاية من الصحة . وذلك اذا اعتبرنا القيد الزمانى والذاتى البحت الذى فرضته تلك المثالية على شعر الشابى ، مواضيع وأغراضا ، فى معظمها . وهى جناية قد فرضت نفسها فرضا . فالشابى - كما بينا - كان مجبرا عل أن يكون مثاليا ، رومنتيكيا . وهى جناية تنضاف الى الجنايات العديدة التى فرضها عليه القدر ، الذى كان يعتقد انه يحاربه ) .

قلت : لكل تلك الاسباب رفض الشابى الواقع ، وتمرد عليه ولكن ، ليس لذلك فقط . فهناك سبب آخر اعمق جذورا فى النفس وأبعد اثرا فى حياة الشاعر الفنية . وهذا السبب هو ما اشرنا اليه فى الحلقة الثانية من هذه الدراسة عند اشارتنا إلى مكونات المرض النفسانى الذى يعانيه الفنان ، وقد زكرنا من تلك المكونات (( العصابية )) ، وأرجأنا الحديث عن المكون الثانى وهو (( النرجسية )) ، وسنتتحدث عن النرجسية هنا كعامل من العوامل التى تتظافر

على الفنان فتجعل منه مريضا ينظر الى المجتمع نظرة خاصة ، والى الواقع الذى يعيش فيه نظرة متميزة عن نظرات غيره من مواطنيه . فالناس كلهم مولعون بذواتهم . يحبون ذواتهم . وكل واحد يظهر ذلك الولع بها بطريقة خاصة . اما الفنان فيعبر عن ذلك الولع فى عمله الفنى ، بذلك العمل الفنى ذاته . أى أنه يقدم للجمهور فى انتاجه صورة لنفسه ولو كان ما كتبه فى منتهى الموضوعية . والأثر المخلوق هو الفنان ذاته . أى هو ابن الفنان الذى وضع فيه روحه : مزاجه وحسناته وسيئاته وعقده ومركباته ومرضه واحلامه ، وغير ذلك . وعندما يقدم ذلك الاثر للجمهور ، فانما يقدم ذاته ، وهو يحاول ان يكون ما قدمه جميلا ، مرضيا . اى ان يكون هو جميلا ، مرضيا : كي يولع الجمهور بفنه ، به هو ذاته . ولكن هناك عملية اخرى تتم اثناء الخلق ، تعمق من النرجسية لدى الفنان . فهو ، قبل ان يفكر فى الجمهور ، يفكر فى ذاته ، اثناء عملية الخلق . فاثره هو المرآة التى يرى فيها نفسه . وعندما يضع ذلك  ((المولود )) يشعر بالراحة ، كما راينا ذلك لدى الشابى . فعملية الخلق لديه وسيلة (( تنفس )) ، ومن كل ذلك نستنتج ان عملية الخلق الفنى عملية ذاتية جدا يبرز فيها الفنان ذاته محاولة للتخلص من كثير من الاتعاب التى يعانيها . فهو لا يخلق اثره لانه يحب المجتمع او الجمهور ، بل لانه يحب ذاته ، يعشقها . اما اذا كان (( عصبيا )) ( Nerveux ) مثل الشابى ، فان تلك النرجسية تأخذ بعدا آخر تحت تأثير تلك العصبية ، فالعصبى اعجز الناس على وجود مخارج وحلول لنفسه . ففورة الغضب والهيجان تعميه وتجعله غير قادر على تصور حل . وقلقه الوجودى يملأه بوساوس متوالدة دائما . وهى وساوس تصبح فى نظره دليلا على سموه وتفوقه . وعوض ان يقاوم ويدافع عن نفسه فانه يستسلم ، بلا سلاح . واذ يجد نفسه ضحية فى الوسط الذى يعيش فيه . فانه يسخط على ذلك الوسط ويعنف فى السخط عليه والنفور منه . ثم يشعر بعدائية ذلك العالم له تتزايد شيئا فشيئا . ثم ينتج عن ذلك التصادم بين عدائية العالم - أو الوسط - التى تنميها العصبية ، وبين شعوره بالسخط على ذلك العالم ، الاحتباس الحاد - المبالغ فيه - الذى لا يحتمل ، والتناقض المؤلم بين الخيال والواقع  (74)

وهذه الحالة العصبية قد توفرت لدى الشابى . فقد كان الصراع ، فيه ، بين الخيال والواقع حادا ، للشعور بعدائية العالم له ، والسخط على ذلك العالم ، اللذين تولد عنهما التصادم العنيف . وقد كان الصراع فيه بين الخيال والواقع صراعا بين العالم المثالى الذى يصبو اليه بخياله ، والعالم المادى الذى بحده ، وتخيله لذلك العالم المثالى اثناء كتابته ، انما يعبر عن سخطه على ذلك الواقع ، الذي ينفر منه . والتعبير عن ذلك السخط مثل التعبير عن التوق الى ذلك العالم المثالى ، فكلاهما ارضاء لغريزة الكره ، فكلاهما اذن وسيلة

تنفس . وما أن يتم التنفس حتى يتم ارضاء الذات . وعندئذ تظهر النرجسية واضحة . فتكون عملية الخلق اذن هروبا من الواقع ، لحدة الاحساس به . ويكون الدافع الى الابداع الفنى هو ذلك الهروب من الواقع الى عالم آخر مثالى ، ويكون مورد الفن ، ليس ذلك الواقع الذي ينفر الشاعر منه ، بل ذلك العالم المثالى . ولذلك كله ، وجد لدى الشابى هذا التمرد الرافض للواقع . فقد كان تمردا رافضا لهذه (( الدنيا الميتة )) التى يعيش فيها مكرها :

إنى أرى فأرى جموعا جمة لكنها تحيا بلا الباب ،

يدوى حواليها الزمان كانما يدوى حوالى جندل وتراب

وإذا استجابوا للزمان تناكروا وتراشقوا بالشوك والأحصاب

٠٠٠ الويل للحساس فى دنياهم ، ماذا يلاقى من اسى وعذاب (75)

لكن تمرده الرافض هذا لم يكن سلبيا ، ذلك انه تولد عنه تمرد آخر هو (( التمرد الثورى )) ، فى شعره وحياته . وذلك يعود الى انه لم يكن يرفض (( الشعب )) كجوهر ، كمعنى ، وقد رفضه كمادة ، كواقع . فهو يعلم ان فى هذا الشعب (( ثروة روحية )) زاخرة ، تصلح لان تكون مادة الفن لمن له بصيرة . وتلك الثروة الروحية هى التى تبعث فى الشابى الامل فى مجئ يوم ينهض فيه هذا الشعب ويستيقظ واعيا . وذلك الامل هو الذي جعل لهجته حادة وهو يعبر عن هذا (( التمرد الثورى)) ، مخاطبا (( الشعب )) :

انت يا كاهن الظلام حياة تعبد الموت ! أنت روح شقى

كافر بالحياة ، بالنور ، لا يصغى الى الكون قلبه الحجرى ،

انت قلب ، لا شوق فيه ولا عزم ، وهذا داء الحياة الدوى .

انت دنيا يظللها أفق الماضى وليل الكآبة الأبدى ،

مات فيها الزمان والكون الا أمسها الغابر القديم القصى ،

والشقي الشقي في الارض قلب يومه ميت وماضيه حى

انت لا شئ فى الوجود فغادره الى الموت فهو عنك غنى (76)

لكن هذا التمرد الثورى لم يكن على الشعب فقط . . فقد كان معبرا عن  نشدان الشاعر وتوقه للحرية ، سواء كانت حرية ميتافيزيقية للتخلص من قيد الزمان والمكان ، او الحرية (( السياسية )) او (( الاجتماعية )) ، ضد قيود الظلم والطغيان . ولذلك فقد اقترن تهديد الشابى للشعب وتنديده بجموده ، لتهديده لقوى الظلم والطغيان ، وتنديده بخنقها لرقاب الناس . وهذا التمرد الثورى هو الذى يتيح لنا تفسير ناحية من حياة الشابى تناقض الصورة التى حملناها عنه الى حد الآن ، وهى الصورة السلبية . فقد عرف فى حياة الشابى جانب ايجابى . وهو سعيه الى (( الفعل )) . ونحن كنا قد وضعنا فى بداية هذا الفصل سؤالا عن سبب اتخاذ الشابى للفعل وسيلة للتغلب على الشعور

بالزمن . وقد أتييح لنا الجواب . فسعى الشابى الى النوادى الادبية ومشاركته الفعاله فى النشاطات الثقافية ومحاولته المشاركة فى خلق " وعى تونسى " بما كتب عن التراث مقيما مغربلا له فى (( الخيال الشعرى )) ومناقشته للدين كما يفهمه البسطاء فى (( الهجرة النبوية )) ( محاضرة ) وغيرها من المحاولات الايجابية ، التى نجد ذكرها فى مذكراته وفى رسائله ، كلها توضح لنا ان لشابى كان يريد أن (( يفعل )) شيئا صالحا لهذا الشعب الذى يؤمن به كروح زاخرة وكجوهر صالح . ولكن قد يتبادر الى الذهن وجود تناقض بين حياة الشابى فى جانبها الفعلى الايجابى ، وبين أفكاره المثالية والرافضة . وهو فى الواقع توهم خاطئ . فلا تناقض ، ما دام ذلك الفعل الذى يقوم به الشابى ارضاء للرغبة التمردية الثورية فيه . فثورته على الجماد وعلى الظلم والطغيان اللذين يقيدان حرية الآخرين ، وثورته على واقع الشعب المرير الذى لا يريد ان يشعر بقساوته عليه وحدته على احساسه ، كلها قد جعلته يتمرد على تلك المظاهر ويتوق الى الامثل ، الذي يدخل ضمن نظرته المثالية أيضا . ولذلك كان يسعى ...

الى هنا ينتهى بنا البحث فى هذه المحاولة لتحليل عناصر شخصية الشابى الشعرية ، التى حاول الدارسون من قبل ان يضعوا لها صورة ، ولكنها لم تكن ابدا متكاملة . وبعد هذا البحث المتواضع نتبين ان الشابى كان فنانا مريضا ، مصابا بقلق وجودى ، ينشد الحرية للتخلص من قيد الزمان والمكان ، وللتخلص من واقع مؤلم يعيشه ، ويحيط به . فكان متمردا ، رافضا ، متحديا لشتى القوى ، غيبيها وظاهريها . وهذه الملامح لشخصيته تبرزه أمامنا فى أتم صورة (( للبطل )) الذى ساد الادب منذ اواخر القرن التاسع عشر ، وهذا البطل هو (( اللامنتمى )) ( Le détaché ) فالشاب وان كان ينتمى بجسده الى هذه الارض التى انجبته ، فانه ، بفكره ، لا ينتمى الى أرض معينة ، ولا يريد ان ينتمى الى أرض معينة . بل يريد ان يخلق عالما مثاليا يعيش فيه ، هو عالم م الحلم والخيال والشعر كله جمال فى جمال . والناظر بامعان الى هذا العالم الذى يريد خلقه ، يرى جليا انه عالم أطفال ، عالم ساذج ، بسيط ، يغفو تحت كتل من الانوار القدسية ، والاحلام المرفرفة ! هو عالم من الطهر والجمال لا رجس فيه ولا دنس . لا أثر لألم فيه ، أو حزن أو تعب . هو عالم كله حرية ، لا قيد فيه ولا عبودية ولا شعور بفداحة المكان والزمان اللذين يسيطران على الشعور فى هذا العالم السفلى ، عالم البالغين ، الذى يعيش ضمنه هذا الطفل الوديع ، الذى لم يجد طمأنينته ، بل عاش معذبا ، قلقا ، يشعر بانه ليس فى الموضع الذى يجب ان يكون فيه . هو (( محيط كريه جدا . والناس الذين يحيطون به ، مقيتون جدا ، ضد الحياة . لانهم مجردون من الدوافع ، ويظنون انه ليس هنالك

من سبب معقول لفعل شئ اخر )) (77) وهذا العالم هو عالم البالغين . هو عالم هذا القرن العشرين المعقد . اما عالم ذلك الطفل فهو عالم (( اللامنتمى الرومانسى )) . هو عالم القرن التاسع عشر ، الذى ازدهرت فيه الرومنتيكية . ولكن الشابى لم يكن لا منتميا رومنسيا مثل اللامنتمين الرومنسين الغربيين . وذلك لانه وجد فى محيط آخر ، شرقى . ثم لانه وجد فى القرن العشرين . فى حين ان الآخرين وجدوا فى مجتمع غربى ، وفى القرن التاسع عشر . ولهذين العاملين ، أثر كبير فى تكوين نظرة الشابى كلامنتم رومنسى الى ذلك العالم المثالى الذى تختلف ملامحه اختلافا جوهريا عن العالم الرومنسى الذى كانوا يحلمون به . وهذا الاستنتاج - بان الشابى لا منتم رومنسى - يتيح لنا ان نقرر حقيقتين فى نهاية هذه الدراسة :

1) إن الشابى - تاريخيا - متأخر عن أوانه ، عن عصره ، كشاعر رومنتيكى ،  فعالم اللامنتمى الرومنسى - الطفل - قد وجد فى القرن التاسع عشر . ولكن الشابى قد أتى فى وقته لانه لم يفتعل هذا المذهب ، لانه كان نابعا من ظروفه الخاصة ، فكان يعيش الحالة الرومنتيكية ، فلا يمكن ، لذلك ، ان نقول ان نهاية المذهب الرومانتيكى ، هى نهاية القرن التاسع عشر . اذ يلاحظ ان المذهب الرومنتيكى قد انتهى بالشاب فى الثلث الاول من هذا القرن .

2) إن ثورة الشابى كلها وتمرده كله فى شتى مستوياتهما ، موضوعان تحك الشك ، فى قيمتهما . لانهما كانا ثورة وتمرد انسان مثال ، رد فعل ضد ما يلاقيه من الخيبات المتتالية عليه . لذلك كانت ثورته وكان تمرده تذبذبا بين المقاومة والاستسلام ، شأنه فى ذلك شأن الطفل الذى يشعر بالخطر فيقاوم ، واذ تعييه المقاومة ، يستسلم الى الامر المقضى . والى ذلك الاستسلام والخضوع التامين ، قد انتهى امر الشابي . فبعد ان رأيناه مقاوما ثائرا متمردا ، نراه يتردى من جديد فى تشاؤه وفى عالمه الرازح تحت الالم والقيود ؛ اذ يعلن فى اخريات حياته ، موجها هذه (( الشكوى الضائعة )) الى اللاشئ  ( 5 أوت 1934 ) :

يا ليل ! ما تصنع النفس التى سكنت

                 هذا الوجود ، ومن اعدائها القدر ؟ ... (78)

اشترك في نشرتنا البريدية