لا يزال تطلع الناس الى معرفة العالم الجديد يتزايد منذ بضع سنين . فكثيرا ما تتكاثر الاسئلة على الذين كان لهم حظ الاقامة بالولايات المتحدة ويسعى الناس من ذلك الى معرفة مدى صحة بعض الآراء وبعض الافكار . وقد كان من حسن حظى ان قضيت صحبة ثلاثة من زملائى ثلاثة اشهر بالولايات المتحدة وكانت رحلتنا داخلة في نطاق التبادل الثقافي الامريكى التونسى . وليس فى نيتى ان استعرض فى هذا المقال جميع مظاهر الحياة الامريكية ، انما غاية ما اريده هو ان انقل اليكم ما شاهدته انا شخصيا فيما يتعلق بنقاط معينة : مثل الحياة فى الجامعات واهم خصائص الطبع الامريكى ومظهر المدن الامريكية.
الحياة في الجامعات الامريكية
ان الجامعات الامريكية منظمة نظاما مرموقا اذ جميع المبانى اللازمة للحياة الطالبية قد جمعت في مكان واحد : فمعاهد التعليم والمخابر والمكتبات وقاعات النوم والمطاعم وقاعات اللهو والمطابع والمكاتب كل ذلك يكون مجموعة واحدة وقد زرت ما يقارب الاثنتى عشرة جامعة تلقيت دروسا فى خمس منها .
وحظيت بالاقامة فى اثنتين منها أولاهما جامعة الشمال الغربي بشيكاقو والثانية جامعة "اوته" "بسلت ليك سيتى" والحياة فى هاته الجامعات ممتعة الى حد بعيد اذ كل شىء منسق حسبما يقتضيه الرفاه وبذلك يتسنى للمرء ان يتعاطي اصناف الرياضة المحببة اليه وان يشاهد تمثيليات يقيمها الطلبة وان يحضر اضرابا اخرى من الملاهى مثل التليفريون والسينما . ومكتبات الجامعات غنية الى حد مدهش
وفيها تجد لا الكتب فحسب بل مجلات العالم كله وجرائده ، ففى جامعة "بركلى" قرب سان فرنسيسكو يجد المطالع ملايين عديدة من المجلات الدورية وهى فى الواقع جملة المجلات الدورية الراقية الصادرة فى القارات الخمس بما فيها المجلات المطبوعة فى الاقطار الشيوعية.
والجامعات بعيدة عن المدن ولا تعدو ان تكون واحات حقيقية بما يسودها من سكون وما يوجد فيها من اسباب الراحة . ففيها الحدائق المخضرة والبساتين المزهرة . والجو الانساني الذي يكتنفها فريد فى نوعه اذ الاساتذة يعيشون غالبا فيها وهم باتصال دائم مع الطلبة وعلائقهم بهؤلاء ودية للغاية . وقد قوبلت فى كل الجامعات التى تلقيت فيها دروسا بحفاوة بالغة من قبل الاساتذة والطلبة وكانوا كلهم يسألونني عن تونس وكثيرا ما التقينا بطلبة واساتذة قدموا من جميع بلدان اوربا وآسيا وامريكا اللاطينية ، وجميع الجامعات الكبيرة تشتمل على "دار دولية" يجتمع فيها الطلبة للتحادث او للتسلية والجامعات فى اغلب الاحيان غنية بفضل هبات قدماء الطلاب الذين نجحوا فى الحياة وهذا مما يسمح بوضع بيوت فاخرة وقاعات للراحة كثيرة تحت تصرف الطلبة . وفى جامعة "بركلى" قرب سان فرانسيسكو توجد قاعة مخصصة للذين يرغبون فى الاطلاع على كتب الفن والمجلات المرفهة عن النفس ويجد الانسان فى مدخل هذه القاعة معلقة تحجر الدخول على "الذين يرغبون فى العمل" اذ الكراسي قد بلغت من اللين والنعومة حدا يجعل الانسان يتطرق اليه النوم في آخر الامر
ملاحظات حول الحياة الامريكية عامة
كثير من الناس ينظرون الى الامريكيين نظرة خاطئة فهم يظنون مثلا ان الامريكان يمشون فى الطريق وهم يهرولون وان طعامهم لا يستساغ وان الامريكيات لا يحسن اللباس . وفى الحقيقة فان من نظر الى الامريكان نظرة مجردة تفطن الى انهم لا يختلفون تمام الاختلاف عن بقية البشر وبصفة ادق تفطن الى ان الفرق بين الاميركان فرق فى الدرجة لا فى الطبيعة والكنه . فالراجل هناك يتنقل بخطى معتدلة السرعة . وهم من دون شك اقل بطء من سكان حوض البحر الابيض المتوسط واكثر سرعة من السكندنافيين والالمان . اما الجمهور الامريكي فهو اكثر اناقة من الجماهير باوروبا واحرص على النظافة واسرع الى حلق اللحى . والوجوه اقل عبوسة وأقل تشنجا فى واشنطن منها في باريس او لندن .
وسائق السيارات يحترمون القانون مثل الراجلين ما عدا سكان بعض مدن الجنوب مثل "اورليان الجديدة" وفى الحقيقة ان اقل هفوة ينجر عنها عواقب مؤلمة : فيتضح ذلك اذا تذكرت ان معدل السيارات يبلغ هذه النسبة : سيارة لكل ساكنين بينما نجد فى فرنسا سيارة لكل اثنى عشر ساكنا
ويزعم الاوروبيون ان الامريكيين لا يأكلون جيد الطعام وهذا محض غلط اذ الطبخ الامريكى كثير التنوع ويمكن للانسان ان لا يقبل على بعض انواع الطعام لكن الامريكان يأكلون جيد الطعام في الجملة ويمكن للمرء ان يأكل إما في المطاعم او "الكافيتيريا" او فى ما يسمى بـ"دروق ستور" . ولا تختلف المطاعم الامريكية عن المطاعم الاوروبية لكن "الكافيتريا" و "الدروق ستور" مؤسستان امريكيتان تعدان خاصية من خصائص تلك البلاد فيها تتناول الطبقة المتوسطة خاصة طعام الفطور وذلك بسبب ارتفاع الاسعار بالمطاعم الاخرى .
و"الكافيتريا" هذه هى مطاعم يأخذ فيها المرء الطعام بنفسه واول ما يبدأ به هو ان يأخذ طبقا وسكينا وما اليه ثم يمر امام منضدة وضعت عليها المشروبات غير المسكرة والمفتحات والوان السمك واللحوم والغلال والمعجون ثم يضع على الطبق الذي اختاره الصحون والكؤوس وفى آخر الامر يدفع ما عليه ويختار مائدة ويأكل طعامه في راحة تامة ، اما "الدروق ستور" فهي دكاكين توجد فيها الادوية والحلوى والسكاير واشياء آخرى متنوعة : ويمكن للانسان ان يتناول فيها المشروبات غير المسكرة والمبردات والوان اخرى من الطعام . وبعض هاته الدكاكين تبقى مفتوحة ليل نهار . ففي نيورك نجد "كافيتريا " مسماة "اوتومات" وقد وضعت الوان الطعام فى خزانات صغيرة مغلقة ابوابها من بلور فيكفي ان تضع في فرجة عددا من الدنانير مناسبا للثمن المرقوم ليفتح الباب البلوري وتوجد في المدن الكبيرة آلات اوتوماتكية توزع القهوة السخنة سواء كانت حلوة او مرة مشوبة باللبن او خالصة وكذلك المشروبات المثلجة . وهناك خطأ شائع حول امريكا اذ يعتقد الناس ان الامريكان لا يتأنقون فى اللباس . والحقيقة هي عكس ذلك . اذ كبار الخياطين بباريس لهم ممثلون فى الولايات المتحدة الامريكية وضروب فصالتهم معروفة مشهورة هناك ، بحيث تباع الازياء باسعار فى متناول الجميع ، ثم ان في الولايات المتحدة مركزا يبتكر فى فن الفصالة وهو مستقل عن باريس مسيطر على اسواق امريكا اللاتينية وهذا المركز هو "دلاس" فى تكساس.
وهاك الآن بعض الملاحظات فيما يخص سلوك الامريكان : الحياة الامريكية همها الاول هو الانتاج والمهم هو ان يكون هذا الانتاج اقصى ما يمكن في اقصر ما يمكن من الاجل . ولا اتحدث عن تطبيق هذا المبدأ فى الميدان الاقتصادى بل فى ميدان السلوك البشرى . يميل الامريكان الى الايجاز في التعبير وتبسيط القواعد اللغوية ولهذا فهم يحاولون اكثر فأكثر كتابة بعض الكلمات حسب نطقها مثل :
"u" عوض "you" و "tonite" عوض "to night" ولنفس الاعتبار فهم يعوضون العبارة الطويلة "how are you" بكلمة بسيطة "hi" وهناك ظاهرة اخرى بارزة فى طبع الامريكان وهي حسن المعاشرة فالامريكان اسرع الى المبادرة بالحديث من الاوربيين فى عربات النقل وفى المطاعم وفى الابهاء وفي الفنادق الفخمة وكذلك الابتسام فهو لا يفارقهم وحسن المعاشرة لا تخلو من الود والمؤانسة فسريعا ما يقع بينك وبين الامريكي تعاطف اذ هو يخاطبك بلهجة الصديق القديم ويحاول ازالة الجفاء بينه وبينك . واذا قلت لاحدهم "احسنت" اجابك "you are welcome" بمعنى "مرحبا بك ويدعوك بسهولة الى تناول قهوة (a cup of coffee).
والاميركان يشربون فى اليوم الواحد من خمسة الى عشر فناجين قهوة وهو يدعوك بدون كلفة الى زيارته فى منزله . وحسن الضيافة هذه تقوي من معنويات الغريب . وكل الذين زاروا الولايات المتحدة اعجبوا بكرم الامريكان وحسن وفادتهم لكنه يوجد فى كثير من بقاع العالم من له آراء خاطئة أو مجملة في احوال الولايات المتحدة . وليس فى نيتى ان استعرض جميع الاتهامات التى توجه الى الامريك كان وانما سأنظر فى مسألتين بدون ان احد حرجا في ذلك وهما :
اولا : هل الامير كان عنصريون ؟ وبعبارة ادق هل يقولون بالتمييز بين العنصر الابيض والاسود .
ثانيا : هل الامريكان ماديون ؟ فيما يخص المسألة الاولى يجب ان نقول ان التمييز العنصري موجود في بعض ولايات الجنوب فقط مثل الاباما ، لويزيان ، ميسيسيبى الخ .. وفي باقي البلاد الامريكية لا وجود للتمييز العنصرى فالسود يعاملون حيث كانوا على قدم المساواة مع البيض ويسمح لهم بدخول نفس المدارس ونفس اماكن السباحة ونفس قاعات السينما ونفس الفنادق والمطاعم التى يدخلها البيض . وفي الجنوب (ديب ساوث)
فان التمييز العنصري موجود الا ان وضعية السود فى الجنوب ليست خطيرة كما يقال : فليس هناك اي وجه للشبه بين مصير السود فى امريكا ومصيرهم فى افريقيا الجنوبية .
فاول ما يلاحظ هو ان الدخل السنوى المتوسط للفرد الواحد من السود الامريكان مرتفع جدا . فهو وان ساوى نصف دخل الاميريكي الابيض فانه يفوق دخل الفرنسى المتوسط الحال (٣٥٠٠٠٠ فرنك مقابل ٢٩٣٠٠٠ فرنك لسنة ١٩٥٥ ) ثم ان التمييز العنصرى فى الولايات المتحدة لا يتبعه استغلال اقتصادي فاحش كما هو الشأن فى إفريقيا الجنوبية ، ففي هذه البلاد يدفع الابيض اربع مرات قدر ما يدفع للاسود لنفس العمل بينما فى الولايات المتحدة تتساوى الاجور بين السود والبيض ، واخيرا فهناك فرق آخر يجب التنبيه اليه وهو ان اتحاد جنوب إفريقيا يجعل التمييز العنصرى امرا رسميا شرعيا بينما في الولايات المتحدة تكافح السلطات العنصرية وبهذا حكمت المحكمة العليا على التمييز العنصري في المدارس . وغالب صحف الشمال تساند السود وتعتنق قضيتهم .
لنتناول الان مسالة المادية الامريكية ، وكثرا ما يعيب الناس على الامريكان خلطهم بين قيمة الشئ وثمنه وشغفهم بالمال . اما انا فاعتقد ان هذا ليس من المادية فى شىء اذ طبيعى ان يعلق مجتمع بلغ مستوى الصناعة فيه حدا بعيدا اهمية كبيرة على المال ومن عاش فى السويد وسويسرة عرف ان سكان هاتين البلادين لا يختلفون كثيرا عن الامريكان فى هذا الباب . فادا قال لك امريكي بعجب ظاهر : "هذه البناية قدرت مصاريفها بكذا دولارات" فهو إنما يريد ان يعبر بالارقام عن مقدار الجهد الذى بذل من قبل مدينته لابراز هذا الاثر الفني فاذا احجم الناس في اوروبا عن ذكر مقدار ما صرف فى بناية ما فانما ذلك ناتج عن جهلهم لذلك ثم ان اغلب البنايات الاوروبية قد بنيت فى عصور لم يكن ضبط المصاريف فيها فنا قائم الذات.
المدن الامريكية
لقد اسعدنا الحظ ، فجبنا الولايات المتحدة من نيورك الى سان فرانسيسكو ومن شيكاقو الى اورليان الجديدة وكان تنوع المناطق مدهشا جدا ، ففيها ما يذكرك
ببلدان اوربا وفيها ما لا يختلف كثيرا عن حوض البحر الابيض المتوسط .
وفيها ايضا المناطق الحارة والمناطق الصحراوية وكذلك الجبال . اما تنوع المدن فهو اقل من تنوع الارياف فاغلب المدن تتشابه ولكن هناك ثلاث مدن لها شخصيتها الخاصة بها تعد من اجمل مدن العالم وهى سان فرنسسكو وواشنطن ونيورك أما موقع سان فرانسسكو فهو جميل جمالا خارقا للعادة فهو خليج واسع يعلو جسران : "قلدن قيد بريدج" وهو اعجوبة من اعاجيب الدنيا و"بى بريدج" وهو اطول جسر فى العالم طوله ١٤ كيلومترا . ومدينة سان فرانسيسكو قائمة فى موضع كثرت فيه الهضبات وحيثما كنت داخلها ابصرت المحيط الهادي ودورها زاهية الالوان فخمة غالبا . والحى الصينى (شينتاون) جميل جدا : فقد اتيح إلى مشاهدة منظر طريف حقا : شاهدت جنازة متبوعة بجوقة تعزف الحانا مرحة فعلمت ان الصينيين يشيعون موتاهم على هذا النحو ، ومنظر المدينة عندما يراه الانسان من اعلى فندق "مارك هوبكنز" جميل الى حد العظمة خاصة في الليل اما واشنطن فهى اجمل مدينة توجد في العالم فلا وجود فيها للاكواخ والاحياء الفقيرة ولا يوجد فيها ولو معمل صناعى واحد وشوارعها واسعة نظيفة وكثرت فيها الخضرة وهي تعد مباني عديدة كالكابيتول وآثار عظيمة وساحاتها جميلة جدا لا يوجد فيها ناطحات سحاب واطول بناية فيها تعد ١٣ طابقا فقط ومساكن واشنطن تجمع بين البساطة والفخامة واكثرها عصرية للغاية .
وأخيرا نيويورك فهى فريدة فى نوعها . فقلبها (مانهتان) زاخر بشتى ناطحات السحاب وأعظمها هى "لمبير ستيت بوبلدنغ " التى تعد ١٠٢ طابق وطولها يفوق الاربعمائة مترا ، ومشاهدة نيورك من اعلى ناطحة سحاب سواء في الليل او النهار يضفى على الانسان فرحا يصل به الى حد النشوة فليس ثمة منظر اجل منه ؛ فقد كان يقال : "رؤية نابولى ثم الموت" ولكنى اعتقد ان هذا القول ينطبق على نيورك ايضا . فمانهاتان لابد من رؤيتها قبل انتهاء العمر . وهى جزيرة واقعة بين "ليست ريفر" وهودسن ريفر "وهارليم ريفر"
والشوارع والانهج تحمل ارقاما ، فشارع برودوي طوله نحو الثلاثين كيلومتر وهو حي الملاهى وافخم شارع هو بدون شك الشارع رقم ٥ ومركز ما نهنتان تحتله حديقة . ووراء الحديقة تمتد هارلام المدينة السوداء وتعد اكثر من اربعمائة الف ساكن . وخصائص نيويورك الداعية الى الاستطلاع هى المجموعات
العمرانية (لفنانسيال دستريك) و (ركفلر سنتر) وبناية الامم المتحدة ومحطة القطار المركزية واخيرا تمثال الحرية الواقع فى جزيرة صغيرة ، ونيويورك هى بحق مدينة عجيبة إذ تعد وحدها اكثر من ثمانية ملايين ساكن اى مضعف سكان البلاد التونسية قاطبة فاذا اضفنا الى نيويورك الضواحي كان مجموع السكان خمسة عشر مليون ساكنا . اما سكانها فهم خليط فيوجد مليونان ونصف من اليهود واكثر من مليون ومائة الف من الايطاليين . واكثر من نصف مليون ارلندي واكثر من نصف مليون ألمانى واكثر من ثمانمائة الف اسود الخ . . .
ويجدر ان نذكر مدنا امريكية اخرى مثل لوس انجلس وشيكاقو ودالاس ولكنها لا تملك ما لسانفرانسسكو من جمال اخاذ ومالواشنطن من روعة ولا ما لنيويورك من عظمة جذابة واخيرا اقول ان الذى يلفت نظر من ينزل بالولايات المتحدة هو النعمة الشاملة : فمستوى العيش مرتفع فى الجامعات وفى المنازل وفى الاماكن العامة والدكاكين تكتظ بالخلائق وكذلك دور اللهو . وليس من الغريب بعد ذلك ان يظهر الامريكان التفاؤل وان يكثروا من استعمال هاته العبارة "take it easy" بمعنى : خذ الحياة من جانبها الباسم.

