الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات، تجليات الذات المتفجعة فى، ((أمتاز عليك بأحزاني ))، اضاف غليك باهزا في

Share

الرحيل الى منفي الكلمة ، عبر التجربة والمعاناة ، ريما كان المفاتيح لضرورية من أجل الدخول الى مرحلة التجاوز فالتضاد ، والتصادم ، والتجادل ، وما الى لك من مفاهيم فرضتها طبيعة بروز مرحلة جديدة ، يبشرنا بها الشعراء الشبان فى تونس . وهو الجيل الذى يبتعد - ضروريا - عن التعقيدات النفسية والثقافية . التى حملتها الاجيال السابقة . باعتبار انه يشكل طموحات شعرية شابة ، واعدة ، تحاول التأكيد على حضورها بعيدا  (( ..عن الانحرافات الشكلية .. والاستغراقات الصوفية القاتمة . . )) مما يشكل رؤية جديدة .. وبالتالي يكون الصوت الشعرى اليوم استلهاما للمحيط الذي نعيش فيه ، بكل طاقته الحسية بغية تفجيرها ، لنشكل منها وعبرها قنطرة للعبور ، وقد (( كانت القنطرة وما تزال هي الحياة)) ..

ومن نفس هذا الاتجاه التقى مع الشاعر الشاب يوسف رزوفه ، ومجموعته الشعرية الاولى ، (( امتاز عليك باحزاني )) ( * ) والتي تضم ثمانى عشرة قصيدة ، كلها تتمحور فى دعوة صادقة من شاعر يحترق .. الى الحزن ، كتبها فى حالة

حزن ، والحزن عنده هو المعادل الموضوعي للولادة الحقيقية على جسر الحريق ، الذى (( يمتد بين الانسان - وهو فى حد ذاته ( مشكل ) - والرغبة الملحة فى التكوين والنهوض بالذات من خلال عملية تناسلية ، بالرغم من انها (( تعاني المخاض العسير)) :

امتاز عليك باحزاني وأحيطك علما : ان غدى يتطير من وجه ثان ... ( ص 13 )

التقى مع الشاعر ، لا لتقييم شعره ، بل للبحث والاستقصاء ، على أساس انه طاقة تتغير ، لتكون اداة انبوبية توصل الينا حرارة مشاعره الانسانية ، فيكون خارج الدورة الزمنية وفي الآن نفسه داخلها ، من خلال معادلات فنية متعددة ومتشابكة ، لا تتعامل مع اللغة على أساس انها احدى ادوات التعبير فحسب ، بل تقاسمه رؤياته وتشاركه فى اعطاء البعد الحقيقى لرؤية الشاعر ، ومن ثمة لا تكون مجرد تتميق وتزويق ، بل طاقة لغوية كاملة .. ومن زمان قال ليفى ستروس : (( .. ان اللغة انعكاس للثقافة ، اذ المادة التى تبنى منها اللغة هي من نفس طراز المادة التى تبنى الثقافة ككل . . )) ومتى حددنا مفهومنا للثقافة نكون واعين لمدى اهمية هذا الموضوع . وليس المجال هنا لتبيان ذلك ، بل اردنا فقط الاشارة ، ان يوسف رزوقه قد ركز تركيزا كليا ، فمنح لغته عناية فائقة ، فكانت الكلمة حيزا معبرا عما يعتمل داخله  .. ودعنا ننطلق مع الشاعر لنبدأ رحلة التنافس فى الامتياز بهذا الحزن ، الذي قال عنه الاستاذ محمد المختار جنات ، فنعته بالقتامة والتشاؤم  .. ولعلى به يريد ان يقول بأن الشاعر قد قذف بنفسه فى طريق مسدود لا مخرج له منها .. بل ربما أكثر من ذلك ، ولو اجتهدنا فى محاولة فهم ما اراد ان يقوله جنات ، لقلنا انه حاول التعبير عن انطلاق الشاعر من خصوصية تعبر عن معاناة ذاتية ...

لكنها مع ذلك ليست مفصولة عن ( الهم الاكبر والاشمل ) ومن البديهى ان نقول ، ما من قضية تبناها شاعر أو أى كاتب ، الا وتكون تعبر بصورة أو بأخرى عن تلك الخصوصية التى يقع توظيفها فى اطار اكبر واشمل .. وبالتالى وما دمنا بصدد التعامل مع مجموعة (( امتاز عليك بأحزاني )) ، فيجدر بنا بيان ذلك من خلال المجموعة ، حيث يركب الشاعر صهوة احزانه ، وينطلق في  مواجهة صريحة مع الاشياء والمخلوقات .. مما يعنى انه يتخلص من خصوصيته محاولا التعبير عن قضيته مكرسا نفسه لها .. ومع انطلاقه فى خضم معادلاته

يحاول توظيف هاته الخصوصية فى اطار اهم  .. ضمن القدر الذى رسمه لنفسه ، وارتاى التعامل معه :

زمن الرعب يحملني بين حين وحين على الاختبال زمن القحط بنساب في العمق ، والنهر امسى جريمة ...  كان يهذى من الصمت والوجه كان جبلا غامض الحزن ، يشخص قبل الاوان الى مولد مستحيل ، ، ( ص 10 )

وكلما تغلغلنا في القصيد ، وتأكدنا من ان تعاملنا معه قوامه الرصد والبيان ، كلما ازدادت انتمائية ذلك التوظيف وضوحا :

وطن الحزن العميق يضحك الآن من الورد المراهق انه بالحزن شاهق ( ص 12 )

ليختم القول :

الآن اخرج من مدار الارتباك واشتهى ان اقتل الموت المشاع وانتهى ( ص 13 )

وبذلك يتخلص الشاعر من تلك المفاهيم البالية ( الاحادية الفهم ) و - التى اتى عليها النقد الادبي الحديث ، فاثبت رعوانيتها وتجاوزها - والتى تعتبر الحزن مجرد بكائيات أو تغريبات تفصح عن التشاؤم ولتبرم بالحياة .. بل الحزن لديه بناء تصاعدى تتناسل عبره الرؤى لتكون قنطرة ، تأخذه ، ليضم صوته الى بقية الاصوات فيكشف لنا (( الوجه الآخر للحزن العادي ..))

وربما لا نستطيع من خلال قراءة أولى ان نصل الى ذات _ الشئ الذي يريد الشاعر ان يقوله ، اذ هو صمم من البداية الخروج عن المألوف ، أو كما قال احد الصحافين : فقد صيمم على ازعاج القارىء ( ؟ ) . . ألم تقل الحكاية: (( . . ان صح ان الانسان الاول قد اخرج من جنته بسبب تناوله من شجرة المعرفة الممنوعة ، فان الشاعر يكون انسانا اخرج من الجنة مرتين للسبب

نفسه ..)) ولعلها فرصة متاحة حتى نأتى على أقوال بعضهم من الذين لن يستسيغوا بعض الطرق والتعابير لدى بعض الشعراء الشبان ، ومن بينهم شاعرنا رزوفه فنورد قولة شاعر آخر ، وهو شكسبير : (( ليس المهم الاشياء ، المهم وجهة نظرنا حول الاشياء ، وبذلك اكون قد اعطيت المتخاصمين اشكالا متعددة ..وتلك هي طريقة الشاعر ، اذ لا يعنى ذلك ابتعاده عن الواقع فهو بتخيل كيما يكون دقيقا فى تصوير الواقع كما يدركه . . وطريق التخيل ليس هو طريق البرهان فهو اذن مختلف فى كيفية الرؤية ووسائلها ، حتى التعبير عنها .. )) وبمعنى آخر فان وسائل الشاعر ليست منفكه عن التعبير عن علاقته الرؤيوية لما حوله.. حسبما يمليه لميه وجدانى وما يغنمه من ابداعه  ما تفيض به عوالمه .. رافضا للمعرفة القائمة ، وبالتالى تجاوزها حسب المنطق الانفراقي الذي تبلور من قرون . . لذلك ، وعند الوقوف امام كل قصيدة ، نفهم أن رزوفه شريحة من اناس عذبهم عري الزمان ، هذا الزمن المتمومس ، فلا يرفضه على غرار ما فعل بعض الشعراء ، لكنه يفضحه ، وبالتالى يرفع اصبع الاتهام ، وان كان بصورة ضمنية :

زمن أرهقته المساحيق والنزوات القديمه زمن يفتح النار عند ارتفاع الضجيج على البرتقال ( ص 10 )

اي انه استطاع ان يزج بنا داخل عالمه الذى تعيش فيه الكآبة الى جانب الفرح ، والحلم حيث تصرعك اليقظة ، والوقوف فى زمن يطالبك بمواصلة المسير ، مما يعنى هنا ان الشاعر يحمل لنا عند كل قصيدة قضية اخرى ، أو وجهة اخرى من احزانه تحمل قدرا من التنوع والتعدد والتناسل ، تجعلها تمنح نفسها للقارئ ، بدفء وحرارة . . وما يجعلها تكون كذلك ، خروج القصيدة ودائما فى مقطعها الاخير عن تلك الخصوصية لتنفتح كليا وتضم العالم الخارج اليها وعرضا بسيطا يكفى ليدل على ذلك : ( ان غدي يتطير من .../ وجه ثان / حتى يتفحر من قلب الحجر الماء / تعانى المخاض العسير ستفتح قرطاج أبوابها للغناء الجديد ... / عاشقا وانتهى باليقين / )  لكن هذا لا يعنى ان ما نقوله جزم بان الشاعر قد وفق فى عمليه التوظيف هذه ، بل لقد اخفق فى بعض الاحيان وسنبين ذلك ، ولا يمنعنا هذا كذلك ، من القول ، وعل امتداد جل القصائد تقريبا ، وبالرغم من ثراء الرؤية ووضوحها في اغلب الاحيان ، فان الشاعر لا يكلف نفسه ( عناء ) تطعيم قصائده ببعض الدلالات الرمزية ، - لا المعقدة - التى حتما تخرج القصيد من المباشرة القاحلة أحيانا ، الى الصورة الرمزية الموحية والتى تعطى القصيد

بعدا آخر نبقى نستشفه .. وبالتالي نقول وفى مرحلة اولى اننا وفى التقائنا مع رزوفه فقدنا الانتماء ، والا اين الارض ؟ واين الشجرة ؟ واين الوطن بكل معالمه ؟.. بل ان تلك الصور السرمدية تبقى باهتة ، كالحة بالرغم من حلاوتها ، نقول هذا باعتبار ان تلك الاضافات الآنفة الذكر ليست مجردة ، بل هى تبقى دائما حالات صيرورة ، وبقاء وانتماء ، وتحول ، وثبوت واثبات ، وسط زمن نفاقمت فيه التحديات والاتهامات .. وبمعنى اكثر وضوحا فان المجموعة خالية من بعض الدلالات الرمزية ، ضمن البناء الشعرى ، ولعل الشاعر نفسه يعلم جيدا مدى اهمية مثل هاته الادوات حتى نضمن للقصيدة الترابط التاريخي والحضارى الضارب في أعماق أعماق هذا الانسان الذي تقتله الغيبوبة فلا يحاول الافلات من دوامة اليأس والذل والقهر ..والسلب ..

وليسمح لى القراء بالوقوف قليلا عند قصيدة (( زغاريد العيد المنسي )) حيث يقول :

ويدخل اعماقك المدلهمة يوم عبوس

ترى فيه وجهك خلف الحواجز فى القيد

أو قلبك الغض تحت المطارق يرغي ويحتد

أو بحرك الكائن في حالة المد

يشتد حين الاحاسيس تغلي ، ويرتد

يا كيف ينكسر القيد ؟ !

ثم يضيف :

كنت تعريت قبل الاوان

فاعدمني الليل قبل الاوان

وكنت تساءلت : كيف يجمد صوتى الصقيع

ولما ازل شامخ العشق في عنفوان الربيع.. ؟

وارحل فى هالة الحزن رفقة كل الحيارى

وأرقص فى ساحة الانتماء مع الغرباء ( ص 23 )

ولا ادعي هنا ان القصيد يحمل سقوطا بين جزئيه ، او ان الشاعر في تنقله بين المخاطب والمتكلم ، وهو يحمل قدرا من المباشرتية والاحساس

بالفردانية ، يكون منغلقا إذا ما امتدت طويلا ، اصبحت سمجة ، ونوعا من البكاء .. بل أقول ان مثل هذه الصيغة تبقى القصيد غير متماسك ، تمارس فعلها فى تشتيت رؤية القارىء الذي يريد الخروج بشئ معين ، وبالتالى يكون الشاعر قد لجأ إلى التعبير عن ظواهر الاشياء دون مغامرة الغوص ..ولعل هذا ما جعل بعض قصائده تتكرر وبصور مختلفة ، ، لكن عندما نقرأ :

وأرحل فى هالة الحزن رفقة كل الحيارى

وارقص فى ساحة الانتماء مع الغرباء

نندهش لهذا ، فالحالة حالة كآبة ، وحزن وحيرة ، فما معنى الرقص فى ساحة الانتماء ؟ ! كيف كان هذا ؟ .. لعلنا نندهش أكثر عند معانقته للغرباء فى نفس الساحة ،، ساحة الانتماء .. فالعلاقة بين الغربة والانتماء علاقة تقابلية تعيش تناقضا صارخا ومفارقة لا يمكن ان تتفق ، وربما تكون احدى المعادلات لو كان الساق منطقيا ، لكن هل المنطق يخضع لصولة الشعراء!!

لكن مع كل هذا فاننا نجد المجموعة تضم حملة من القصائد التى تستحق الوقوف عندها ، لما تحمله من طاقة فنية ورؤية شاعرية دقت أبواب الابداع .. ) اقرأ باسم القصيد / امتاز عليك باحزاني / وطني نافورة ماء / قصيدة مفتوحة الى ( شارلي شابلن ) / وطن يأتي مع الشمس ... وغيرها...

كان (( الشعر وما يزال حتى وهو يتبرم ، حتى وهو يلعب لعبة الاختفاء ازاء ثقل الاحداث وحرارتها ، وحتى وهو يقطع الجسور بينه وبين الناس يمتلك وحدانا بمشكلة اكبر منه ، وكانت هذه المشكلة لا تنى تصنع خللا في معرفته وعاداته  ..وانتماءاته .. كانت توجعه وتضعه ازاء نفسه وتحمله مسؤوليات مضاعفة ..)) أى ان شعراء اليوم مطالبون بأن يكونوا اكثر خلق الله التصاقا بقضايا أممهم فيشعرون بمدى حجم مسؤولياتهم التاريخية ..  ((فيقفون بشعرهم ازاء الحدود الفاصلة للموت والحياة..))

اشترك في نشرتنا البريدية