الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

مطالعات :, الشاعران المتشابهان

Share

هذا هو عنوان الكتاب الذى ألفه الاستاذ (( أبو القاسم محمد بدرى )) أو هو نصف العنوان لان تكملته هى ((الشاب والتيجانى)) وهما الشاعران اللذان قال المؤلف عنهما انهما متشابهان ، وألف كتابه هذا لدراسة شعرهما .

وهذا الكتاب يقع فى ست وتسعين صفحة من الحجم المتوسط طبع دار معارف مصر ، على النحو الذى اعتادت دار المعارف المصرية أن تصدر ما يطبع فيها ، ورق أبيض نظيف ودقة فى الطبع ، وغلاف يحمل طابعا واحدا لا يتغير .

واذا تركنا الاهداء الذى هو عبارة عن بضع كلمات حيث قدم المؤلف كتابه أو اهداه الى والده الذى علمه فأحسن تعليمه كما يقول ، وفى الصفحة التى تلى صفحة الاهداء نجد ثلاثة أسطر قصيرة تنبئنا بأن هذا لكتاب يشتمل على دراسه أدبية (( تحليلية )) نقدية تبين أين يتلاقى أدب قطرين ينهلان من رحيق واحد هو يقظة الحس القومى والشعور الانسانى .

والذى نعرفه أن اليقظة والحس والشعور، كل هذه أحاسيس، وليس أشياء مائعة يمكن نهلها ، ولعل باب الاستعارة المجازية نفسه لا يقبل الى

هذا الحد هذا القياس لكى يؤدى المعنى الذى أراده المؤلف ، ولم يستطع أن يعبر عنه التعبير الذى يؤديه ، واذا تركنا هذا الشرح أو هذا التحليل الذى أراده صاحبنا ، وجدنا فى ورقة أخرى صورة مشوهة رمز اليها بانها تمثل الشاعر التونسى أبا القاسم الشابى وهى صورة يدوية (( كريكاتورى )) كما يسميها الايطاليون ، ولو استغنى عنها لكان أحرى بالمؤلف إذا لم يجد للشاعر صورة فوتوغرافية ، وتحت هذه الصورة التى هى عبارة عن شبح لا صورة آدمى نجد قصيدة بعنوان (( شعرى )) - للشابى - مطلعها .

شعرى نفاثة قلبى

      ان جش فيه شعورى

ومما جاء فى هذه القصيدة ، هذا

البيت :

حسبى اذا قلت شعرا

       ان يرتضيه ضميرى

وعجز هذا البيت مكسور لأن فتحة اداة النصب (( ان )) ينبغى أن تظهر على - الياء - التى فى آخر الفعل : ( يرتضى ) ولم نجد للمؤلف تعليقا على هذه القصيدة أو على هذا الكسر على الأقل ، واذا تركنا قصيدة الشابى التى يصور فيها شعره وعلاقته به وكونه يعبر عن نفسه ،

وانه لا يقول من الشعر الا ما يرتضه ضميره الى آخر هذا الايمان والتحديد واحتفائه بالشعر الصادق ، فهو به يحزن وبه يطرب كذلك ، ولذا يقول:

به ترانى حزينا

   أبكى بدمع غزير

به ترانى طروبا

   أجر ذيل حبورى

وهو أيضا لا ينظم الشعر من أجل رجاء رضى أحد ، ولا لينال من ورائه العطاء ، وعنده أن الشعر طيف يتيه أو يمضى فى وادى ضلال اذا لم يكن ذا جلال فى جماله ، ولنستمع اليه يقول :

لا أنظم الشعر أرجو

      به    رضاء    أمير

  الى أن يقول :

لا أقرض الشعر أبغى

       به    اقتناص    نوال

الشعر ان لم يكن فى

      جماله   ذا   جلال

فانما   هو   طيف

     يسعى   بوادى   ضلال

يقضى  الحياة  طريدا

      فى    ذلة    واعتزال

الى آخر هذه القصيدة الجميلة التى يتحدث فيها الشاعر عن شعره ، فى صدق واخلاص ، وكان الأحرى بالمؤلف أن يدرس لنا هذه القصيدة ويعلق عليها بما تستحق .

وصورة الشاعر السودانى - التيجانى يوسف بشير مشوهة كأختها ، ولعل صورة التيجانى لا تمتاز كثيرا عن صورة الشابى ، وان كانت صورة التيجانى أوضح شكلا ونقشا وظهور الملامح

فيها بارزة إلى حد ما ، وتحتها (( قطرات )) وهو عنوان قصيدة للتيجانى ، ومطلعها :

قطرات من الندى رقراقه

     يصفق البشر دونها والطلاقه

وقد جاء فيها :

فى مساب الندى وبين ذراعى

      زهرات الربى من الشعر طاقة

من دمى يستدرها حر أنفـــ

       ـاسى لهيبا اسميته ((اشراقه))

وقد عرفت من الهامش الذى سجله

المؤلف أن كلمة - اشراقه - هى عبارة عن اسم ديوان شعر للشاعر التيجانى ، وطبع هذا الديوان لأول مرة فى عام ١٣٦١، وبعد ثلاثة أبيات نجد كلمة (( اشراقه )) وبعد بيت واحد ، أى بعد أربعة أبيات من البيت الاول الذى اثبته هنا نجد ان القافية نفسها تكررت للمرة الثالثة ، ومعنى هذا انها تكررت ثلاث مرات فى سبعة أبيات ، وهى فى المرات الثلاث لا تدل عل شئ الا على اسم ديوان التيجانى، وقد سمى النقاد القافية المكررة التى لا يفصل بينها وبين سابقتها ستة أبيات بال (( ايطاء )) ، وكذلك فلم نجد لمحه من المؤلف عن هذا العيب أو هذا العبث ، ولم يتحدث عن هذه القصيدة بكثير أو قليل كما فعل مع سابقتها ، وكأنه طلب اليه أن يرسم او يكلف من يرسم له صورتين رمزية ومشوهة ويسجل تحت كل منهما اسم كل من الشاعرين ثم يأتى بقصيدة لكل منهما يختارها من شعرهما ويثبتها تحت الصورة لا أكثر ولا أقل ، ولعله نسى انه يقارن أو يدرس

شاعرين متشابهين ، ولعل المجال لا يسمح بالتعليق على هذه القصيدة خشية أن يضيق نطاق هذه الصحيفة    ويتحدث المؤلف عن الشاعرين المتشابهين وكونهما متعاصرين ومتشابهين يفترقان فى بعض الميزات ويلتقيان فى كثير من المواهب والصفات كما يقول المؤلف ، ويخلص الى الحديث عن بيئة الشابى ، وقد وصفه بانه ينحدر من أسرة عريقة ذات مجد ودين ، وانه درس طرفا من علوم الشريعة الاسلامية وشيئا من الثقافة العربية كالنحو والصرف والبيان والأدب على الاساليب العتيقة كما سماها المؤلف ، ولعل الاساليب التى وصفها بالعتاقة اجدى نفعا من القشور الموجزة التى تدرس اليوم . . وحديث المؤلف عن التيجانى ، وعن بيئته وتعليمه لا يتجاوز حديثه عن الشابى ، وهو لم يقل لنا أكثر من أن الشابى انحدر من أسرة عريقة وتعلم شيئا من الدين والعلوم العربية ، وكذلك الحال بالنسبة للتيجانى ، وهذا تعريف قاصر ، ودراسة ناقصة بالنسبة لكاتب يقارن بين شاعرين عاصر كل منهما الآخر ، ويدرس لنا شعرهما ، ويقارن بينهما من جميع أوجه الشبه ، والمزايا التى اتفقا فيها والصور التى اختلفا فيها ، وأهدافهما فى الحياة وفى الكفاح لان لكل انسان أهدافا لا سيما الاديب أو الشاعر المرهف الحس الذى يقيس الاشياء بمقاييسها ، وصاحبنا قد سمى

كتابه - الشاعران المتشابهان - . فكان ينبغى له ان يتقصى الامور التى كانت تحيط بهذين الشاعرين والعوامل التى تأثر بها كل منهما ، وأن يدرس لنا البيئة التى عاشا فيها، دراسة استقصاء للاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى الفترة التى كان يعيش فيها الشاعران ، لأن دراسة الشعر ونفوس الشعراء وما يحيط بها تحتاج الى كثير من التعمق لمعرفة الجو الذى يعيش فيه الشاعر ، وما ينتاب الحياة العامة فى بلده وفى عصره ، والا كانت الدراسة عبثا من العبث وضربا من اللهو ، وقد يكون فى بعض اللهو البرئ شئ يخفف عن النفس أثقالها من أعباء الحياة الثقال ، ولا أحب أن يفهم أحد انى ادعو إلى أن دراسة الأدب والأدباء يجب أن تكون تسلية وتزجية للوقت لا أكثر ولا أقل، وانما الدراسة الممتعة هى التى ترتاح اليها النفس وتقبل عليها فى غير تردد ، ودون احجام ، بل ماضية فى دراسة الاثر الخالد فى اندفاع وتلهف ، والجهد الضائع هو الذى ينفق فى قراءة كتاب لا يخرج قارؤه بنتيجة تعوضه عن الوقت والجهد والمال التى

أنفقها فى سبيل هذا الكتاب . . وحينما تناولت هذا الكتاب الذى أدرسه الآن وعرفت انه يشتمل على دراسة لشاعرين نشآ فى القارة السوداء كما يسميها الجغرافيون والسياسيون ، أحدهما فى شمالها والثانى فى شرقها ، قدرت انى سأجد دراسة ماتعة ، وان كانت موجزة لأن صفحات الكتاب عرفت عددها منذ أن تناولته انها لا تبلغ المائة وهذا قليل بالنسبة لأساليب التحليل والمقارنة الشعرية ، ودراسة شاعرين متشابهين .

ويحدثنا المؤلف بان الشابى بعد أن نال اجازة الحقوق من مدرسة الحقوق التونسية أصيب بداء الصدر الذى أقعده عن اتمام دراسته وانقطع عن العلم واتجه لمعالجة دائه الذى مات به ، اما التيجان فقد قال عنه انه (( تلقى تعليمه فى المعهد العلمى بام درمان )) الى أن يقول واعانه ذوق مرهف ، وذكاء وقاد على فهم الحقائق العلمية وتمييز الدقائق البيانية إلى أن قال - فأصيب أيضا بداء الصدر العضال الذى غالبه حقبة من الزمن ثم صرعه المرض ، وهو فى سن مبكرة نضج فيها انتاجه ، وبلغ ذروة

الاتقان وموضع الافتنان ، وافاه أجله المحتوم وهو ناضر الصبا الخ . . ويتحدث المؤلف عن الشبه فى فلسفة الشاعرين فيقول : (( رغب كلاهما عن حياة العبث والمجون ، التى انجرف فى تيارها أكثر الشبان من كل لون وجنس ، ونزع كل منهما نزعة التصوف والزهد عن الملذات الجسدية )) ، وما ندرى هل المؤلف عاش فى بلد الشاعرين وخالطهما ؟ أم انه قرأ من مصادر صحيحة ما أورد من حكم ؟ ونحن نعرف أن لكلا الشاعرين شعرا غزلا ، وان كان شعر الشابى أكثر ، ونحن لا نملك أن نحكم حكما كحكم صاحبنا الا اذا كان لدينا مصادر وحقائق نثق فيها الثقة كلها ، وانا لا اتهم الشاعرين بسوء ، لانهما فى دار الحق ونحن فى دار الباطل كما يقال ، ويحسن أن نذكر محاسنهما كما فى الحديث النبوى ، فاللهم ارحمهما برحمتك التى وسعت كل شئ ، وما أكثر مشاكل النقد والدراسة وهما لا يعفيان حتى الرفات التى تساوت مع الرموس حيث رجعت الى أصلها الذى خلقت منه )) . ( له بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية