أرادت مجلة (( المنهل )) الغراء أن تعقد بينى وبين قرائها صلة فكرية ، مظهرها ذلك الاحتكاك الفكرى ، او التجاوب العقلى بين الكاتب والقاريء ، واحاديث المقالة ، أو أدب المقالة - الشائع بين كتابنا - لا يعين بقوة على هذا التجاوب بين الكاتب والقارىء ذلك ان المعاني التى يتناولها أدب المقالة - فى اكثر الاحايين - وبخاصة ، الاجتماعية منها والعاطفية يكون القارىء فيها أداة سلبية يستشعر منها الفكرة الخاطفة ، واللذة الحينية ولكنه واجد فى أدب البحث احتكاكا قويا ، يبعث على توليد أفكاره ؛ واستغلال عقليته ، وفيه استجابة لنداء الغرائز الفطرية فى تكوينه ، ومباعدة نافعة بين القارىء ومرض الاغتمار الذهنى - الشائع بين المتعلمين من الشباب والناشئة - وأنا أعترف أن فقدان ادب البحث فى بلادنا منشأ مع الطالب من حداثة السن ويحسبنا دليلا خلوه من دراسة الادب العربى فى أدواره التاريخية . وليس هذا في أحاديث المقالة فحسب ، بل ان الاحاديث الشفهية بعد خليقة بالاسف المرير ، ان كانت الاحاديث توصف بالاسف - فللاحاديث نفسية تدل فى وضوح على مكانة الفرد أو الأمة ، وحظهما من الثقافة والتفكير با كثر مما يدل الشاعر أو الكاتب على ذلك لان فى الاحاديث ارسالا للنفس كما هى ، فى غير اعمال أو تصنع .
والجماعة الغالبة - من المتعلمين عندنا - لا تجيد التحدث ، وهى لا تكاد تطيق وضع الالفاظ المحدودة للمعاني النفسية التى تريد التعبير عنها ولسنا نستثنى
من هذا الا أفرادا قلائل تدهشك بقوة منطقها ، لان تفكير الامة وعقليتها يتمثلان فى الجماعة الغالبة - كالقصيدة تدل بوحدتها كاملة - لا البيت والبيتين - على قيمة الشاعر ومكانته الفنية بين الشعراء - والنبوغ الفردى لا يدل على غير حظ صاحبه من القدرة والتفوق .
وليس فقط فقدان قدرة التعبير ، بل أن مادة الحديث ليست سوى احاديث فراغ وشقشقة لسان ، او هى اذا كانت فى طبقة خاصة ( حوانيت ) صغيرة تمتلىء جوانبها ببضاعة الفكرة الخاطفة ، والمعلومات السريعة ؛ يعرضها الشباب أمام بعضهم فى مجالسهم الخاصة ، لينال احدهم الاعجاب المؤقت من اخوانه .
هذا هو تصوير الاحاديث سواء منها الكتابية أو الشفهية ، فما دلالة ذلك التصوير من نفسية الامة ؟ ثم ما هو طريق العلاج والارتفاع ؟ ! هذان سؤالان نضعهما لنجيب عليهما فى صراحة . وجوابنا على السؤال : ان السبب فى هذا الفقر الادبي فى البحث والمادى فى التحدث هو عدم استكناه معاني الحياة الزاهرة وعدم الوصول الى الثقافة العالية ، ونضوب مادة الحديث الذى يغذى العقل ، فالمعانى عند ما تقوى فى نفس صاحبها تبحث عن الالفاظ فنجدها سهلة مطواعة ، وهذه النتيجة الطبيعية تؤدي مفعولا عكسيا عندما تقف المعانى ، وتتضاءل ظلال الثقافة ، وقد كان ذلك التأثير العكسى واضحا جليا فيما قدمنا من الحديث ، من ضعف فى أدب البحث وخور فى أدب التحدث وهو فوق دلالته على ذلك يدل على عدم استكمال القوي التفكيرية فى الامة وهذه الدلالة تبدو واضحة لمن يندس فى المجالس وبين الطبقات المتعددة والمتباينة فى نوع حديثها وتفكيرها ، ليرى مواكب من العقليات تسير فى اتجاهات مختلفة ومتباينة ايضا ولسنا نحجم عن ابداء رأينا الخاص في علاج هذه الحالة النفسية فى جسم الامة وكيانها ، ورأينا ان تهتم الهيئات العامية فتتدارك هذا السيل الجارف من صغار الشباب الذين يستبقون الحياة ، وطريقها الى ذلك يستلزم تفكيرا جديا في
علاج ناجع نرجو أن توفق اليه ، وهى ان فعلت فلا شك انها تحتفظ بكيان الثقافة فى هذه البلاد المقدسة التى كاد يودى بها الجهل فى عصور خلت وشىء آخر ان فعلته ساعدت على تنمية ثقافة جيدة قوامها البحث والتنقيب،ذلك هو العناية ببحث الآداب العربية واستغلال دروس الانشاء وعقد مسابقات دراسية بين الطلبة والمدارس اننا ان قمنا بهذا أدينا واجبا قوميا لبلادنا ؛ ومشينا بها خطى واسعة نافعة ؛ اذن فالعلاج الناجع - في نظرنا - هو تنمية الثقافة وتقوية التفكير وتنمية الثقافة والتفكير هي الغرض الاول من التعليم ، فما أحرانا بالعمل الايجابى لأداء أسمى اغراض التعليم وأحقها بالعناية .
هذه كلمة اكتبها فى عجلة السفر نزولا عند رأى الاستاذ عبد القدوس ، وفى نفسى شعور بضرورة العودة الى الموضوع لايضاح بعض جوانب البحث فالى عدد قادم .

