الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

نفس سامية، " قصة "

Share

حدثنى بطل القصة قال :

عرفتها فى طفولتها تستحق شيئا من الرثاء وهى ابنة ثلاثة احوال وقد كنت انا يومها طالبا بالمدرسة واكبرها بعشرة اعوام ، وانا دائما اكبرها بمثل هذه السنوات وان كانت هى اليوم تفرعنى طولا وتزهو على بجسمها الريان جمالا ورواء ، وانا الآن فى الثلاثين من عمرى وقد تخرجت من الجامعة احمل شهادتى الفنية فى التليفونات ( وظبية ) تلك التى عرفتها طفلة غريرة هى اليوم فتنة زاهية فى ريعان الصبى ومن اولئك الفتيات الساحرات اللواتى لا يخطرن الا على ارض من القلوب .. قد ازدهر حسنها واكتمل جسمها الوردى وتلألأ فى عينيها السوداوين بريق جذاب مع تورد فى خديها وحمرة قانية تضرج شفتيها الدقيقتين .. وعلى صدرها البلوى يبرز النهدان العاجيان .. يضجان بالحلاوة واللذة كأنما هما الفاكهة المشتهاة ، الا ان هنالك شيئا خفيا فى نفسها يعذبها هو شعورها بالنقص الذاتى الذى ولد معها واعان على تقييد لسانها فاذا المسكينة صماء بكماء قد حرمت متعتى السمع والكلام وكيفية اداء الخواطر صريحة مهذبة ، وانه لبظهر جليا للمتأمل ذلك الشعور الحزين على سماء وجهها النضر الامر

الذى يبعث على العطف والرثاء ويدل على ان هذه المسكينة تعانى بهذه العلة ضيقا وكربا عميقين خاصة إذا ما كانت بين طائفة من الناس وهم يصخبون ويتضاحكون ولا تستطيع هى مجاراتهم الا بانسياقها معهم او بدافع فهم يسير تنقذها به ذاكرتها الناضجة وحبها لادراك الحقائق التى هى جميعها او اكثرها اشياء غريبة عليها سابحة بعيدا عنها لا تلمح منها الا ظلالها السود ترجحن مع الهواء او تشخص كالاشباح فى تيه مجهول

وعدت انا الآن اعرف ( ظبية ) للمرة الثانية - ولكن اعرفها بشكل آخر - امرأة مكتملة الانوثة ناعسة الطرف جذابة الملامح والتقاطيع ... وسرعان ما يتخذ من فتنتها ( كيوبيد ) سهامه الصائبة حين تقع عليها الاعين وكنت اول من سلب بها بل لعلى الاول والاخير على حسب تعبيرها بالاشارة ومحاولتها اساليب التودد والاخلاص الا انى لا اعتقد انى انا وحدى من افتتن بها واستتأثر بحبها وبقلبها لاول وهلة ففى تصرفاتها على ما سمعت ، ولاحظت اشياء غامضة تثير الشك ، وليس فى المستطاع الوصول الى حلها بسهولة فان التعمق فى مثل تلك النفس المغلقة التى تعيش فيها ( ظبية ) ضرب من الجنون .. لقد كنت اراها

فى لحظات عابرة وانا معجب بقيافتها وحسنها الطبيعى الرائق ، ولكن يوم جئت اراقب وضع خطوط التليفونات الحديثة فى الناحية التى تسكنها .. ورأيتها .. بل هى التى تعرضت لى فى دهليز احد المنازل التى كان لى فيها نصيب الجلوس بعض الوقت باسم المهنة اولا وللراحة ثانيا ... منذ ذلك اليوم اصبح لها شأن معى وجئت فى اليوم الثانى لاجدها تنتظرنى فى فستانها السماوى اللون والمنقوش بنقط حمراء .. رقيقة باسمة بل قل رائعة ساحرة .. لولا مسحة الحزن التى تظلل وجهها الفاتن فتزيد من روعته من حيث لا تدرى بفتور اجفانها وسهوم نظراتها وان كان هنالك طائف من الكآبة يتغلغل فى نفسها ولا تكاد تتخلص منه فى لحظات حتى يعود ثانية يقلقها مثيرا فى رأسها شتى الخواطر السود المكبوتة .. ولكن جمالها الصارخ الذي يتجاهله الناس - بسبب علتها سيعوضها وينقذها .. ينقذها فعلا على يدى انا - ومن لا يعشق مثل هذه الفتنة .. هذه الصورة المثالية التى كان نابغة بنى ذبيان يعنيها بقوله :

لو انها عرضت لاشمط راهب

                  عبد الاله ضرورة متعبد

لرنا لرؤيتها وحسن قوامها

                 وخاله رشدا وان لم يرشد

.. طافت بنفسى نشوة غامرة وانا اقف امام الهيكل البديع الصامت بماديته المتكلم بمعانيه الوادعة الرائعة وما كدت امد لها يدى مصافحا حتى ضغطت هى على يدى وعيناها كأنما

تبتهلان فى حب خفى وتوسل حزين فهمتهما انا حين كانت يداها تتكلمان بأسلوبهما وفهمت معهما انها تعانى شيئا من الحرمان بل كثيرا منه لانى عرفت انها لم توفق لشريك حياتها الذى يأخذها بالاحضان ويتجاذبان معا كأس السعادة وتعيش هى فى ظلاله آمنة مطمئنة ، ولم يكن لها سوى امها وخالها وشقيق طفل .. ولد فى اليوم الذى سقط ابوها ميتا بالسكتة القلبية ، ومن اشاراتها فهمت ايضا انها تتألم ليأسها من وجود انسان يقبلها على علتها ويتمها وفقرها كأن النبل فى الناس قد مات ، وما كدت افهمها واشير لها بانى انا الشريك المرتقب وانى سأقدم لخطبتها بعد يومين حتى اقتربت منى وحدقت فى عينى بنظرات مليئة بالحنان وفى لهفة مزيجة بالابتهال .. وما شعرت وذراعاى تطوقانها وتشدني هى الى صدرها الناهد بقوة كأنها تخشى ان اطير من بين احضانها المسكرة ... وتبادلنا قبلات مشتعلة لم اعهد مثل لذتها البريئة ودفئها الحنون ، وازداد محياها حمرة وكدنا نعاود مرة اخرى لولا صوت من الخارج كان يدعونى ، فاشرت لها ان تطمئن وتثق بوعدى وضغطت على يدى بشدة وانا اودعها وظلت تلاحقني حتى تواريت ... وحين خلوت الى نفسى تفكرت طويلا فلو اخبرت والدى بمطلبى فى هذه التى عقدت العزم على الزواج بها لاستهجنا فكرتى ولم اسلم من تقريع وملاحقة اقربائي لى بالهزء والسخرية لكنى اوحيت اخيرا لنفسى بالثقة فيما اريده وضربت صفحا من كل تفكير

فى مثل ارائهم السخيفة او الاهتمام بهم فى شىء فانا وحدى المسئول عن سعادة نفسى ولاشئ يقوى على انتزاعى عن مرادى او انتزاع رغبتى عنى ولن يستطيع احد ان يحل محل ( ظبية ) ولا يمكن ان احب سوى التى تفتح على حسنها قلبى ، ولفرط ما كنت اشعر به من التوفيق والفرحة سهرت ليلتى وانا افكر فى الوسيلة المجدية التى يجمل بى انتهاجها كخطوة اولى تمهد الطريق امامى بصورة مقبولة ومرضية للجميع ... ونمت على ما بيت العزم عليه فيما انتهيت اليه من خطة بدأت فى تنفيذها منذ الصباح فسارت امى التى تلح على بالزواج فى كل مناسبة بأنى وجدت الانسانة التى ابحث عنها مثلها .. اجمل انسانة في الوجود واخفها دما على روحى ولا يمكن ان استبدل بها غيرها واكتفيت بان اخبرتها باسمها طالبا موافقتها اولا .. واطمأنت هى بعض الشئ ، ولكنها جعلت تفكر علها تتذكر من تكون هذه المحظية التى احلم واريدها ، ومن فضل الله انها لم تخطر لها على بال منذ أول يوم ، وبمثل هذا التمهيد تحدثت مع شقيقتى التى تكبرنى بسنتين ووعدتها بهدية ثمينة ان قضت لى حاجتى بالتوسط لدى امنا واقناعها ، وابدت استعدادا كبيرا وهى تقول : ومن لى غيرك اخدمه واحفظ سره لابد من ان تنفذ رغبتك مهما عارضوا .. وتباشرت وازداد اطمئنانى وقصدت فى الضحى ( معمل الطحين ) الذى يشتغل فيه خال ( ظبية ) ويقوم فيه بالوكالة عن صاحبه اثناء غيابه ..

وكانت لى به معرفة قديمة وهو انسان نبيل وبالرغم من قلة مورد رزقه فهو يقوم بكل شئون اخته وابنيها منذ وفاة زوجها .. ولا يبتغى جزاء ولا شكورا انما هو توفيق الله الذى يضاعف القرض الحسن ولا ينفع عنده الا العمل الصالح .. واستقبلنى خالها بترحاب وتقدير دفعانى لان اطرق معه الموضوع بصراحة واقتربت منه هامسا : لى معك حديث خاص ، ولم يتركنى ازيد على هذا بل مشى امامى الى زاوية فيها اكياس الدخن والحنطة واستفسرت عيناه عما اريد التحدث فيه .. واخرجت منديلى امسح به جبينى الذى نضده العرق ، ثم قلت بجرأة فيها بعض الحياء الفطرى : لقد احببنا القرب منكم وان حبى للصراحة جعلنى اتقدم دونما واسطة وانت تعرف مشاغل ابى وضيق اوقاته وقد اتفقنا على طلب يد ابنة اختك لى انا فما هو رأيكم ؟ .. وكانت مخارج الكلمات الاخيرة تضطرب فى حلقى وعيناى ساهمتان فى صفحة الارض البيضاء التى تكاثفت عليها طبقات غبار الدقيق .. وتلطف الرجل بان قال لى : مصاهرة امثالك شرف لنا الا اننى كنت اعتزم ان ازوجها من ابنى الذى يساويها فى السن واظنك تعرفه .. ولم اصطدم بقوله هذا لانى كنت الحظ على وجهه تعاببير غير ما اوضح وعاجلته بقولى : إذا كانت لابنك فهو احق ولعل له رأيه فيما انت تريده له وكل ما ارجوه ان تفهم دوافعه من الآن فان رغب فيها كان بها والله يوفق بينهما والا فانى اكرر طلبى واؤكده وانت موضع الثقة

والامانة .. ومددت له يدى بثبات وودعني بنظرات الاكبار .. وخرجت وقلب يلج فى خفقانه وكأنى احس به يكاد يهبط من بين جبنى ، وكنت اجامل مع نفسى واهون عليها الامر وهبت الافكار تنشب مخالبها فى رأسى وسارعت اخلو بشقيقتى بعد الغداء اخبرها بما قيل لى وارجوها ان تتحسس صحة الاخبار ، فطمأنتنى إلى انها ستمهد كل شئ لصالحى وشاركتنى فى اعجابى بالعروس .. واطنبت فى وصف محاسنها دون ان تتعرض للكلام عن علتها لئلا تؤلمنى وباسلوبها الودى مع ابينا - وهى الاثيرة عنده - قامت بوساطتها تمتدح اخلاق ( ظبية ! وآدابها ونفسيتها الطيبة وترشحها لى شريكة العمر التى يبحثون لى عن مثلها فى هدوئها وتقواها ، ولم تفاجئه بعلتها البغيضة عندهم الا بعد ان اخذت موافقته ولا يرى من غضاضة فى زواجى من الانسانة التى عرفت بها معانى الوجود وجمال البقاء ، فان حبها المتمشى فى دمائى والذى يلهب صدرى لا تصلح معه حياتى الا بالقرب منها والتظلل بمحاسنها الجسمية والخلقية الكاملة ، وهكذا سارت كل الامور على ما يرام وكما ابتغي من ناحية ابوى ، وتطوعت أممي بالذهاب الى ام ( ظبية ) لتعرف حقيقة الخبر الذى ادعاه خالها ... وجاءت تزف الى البشرى وتخبرنى بما كنت انا قد تخيلته من ان خالها لم

يقل لى ما قال الا ليوضح لى بان ظبية عزيزة عليه كأبنائه واثيرة عنده لما تعانيه من شعور النقص بعلتها وانه يوجد من سيتزوجها سواء عن حب عارض كحال ابنه وهو فى سن المراهقة او تمشيا مع التقاليد التى كان نظامها القسرى على ابنه ولكن الله سلم ولما اجتمعت به ليلة العقد صرح لى بما يكنه فى نفسه اذ قال : كنت اجاهد مع ابنى جهاد المستميت لارضيه بالزواج من ابنة عمه الجميلة وهو يرفضها دون حياء وكنا يائسين من الذي سيقبلها على علتها ويكتسب اجرها عند الله ، وقد سائت صحة امها من الهم والتفكير فى امرها .. ومستقبلها وهى نفسها كانت تظهر عليها دلائل الحزن والالم النفسى .. وحين جئتنى بشأنها رأيتك كانك نزلت الينا من السماء ، ولكنى كنت اظن انك نسيت علتها وخشيت ان تصدمك الحقيقة ولا تحتمل نتائجها ألا وانك لانسان كريم نبيل بحق .. فاعظم بمثلك صهرا ورفيقا .. اننى من كل قلبى ادعو لكما بالسعادة والتوفيق الدائم والخلف الصالح .. واجبته وانا انحنى على يده لاقبلها : شكرا لله الذى هدانى وبصرنى لاسعاد نفس كانت تظن انها بمعزل عن وادى الحياة الجميلة الباسمة .. ان الحقيقة التى نجاهد من اجلها هى هنا بين الضلوع في البصيرة وفى نور القلب بل فى طيبة النفس وسموها ونبل غاياتها ..

اشترك في نشرتنا البريدية