الشمس لظى ، والأرض نار موقدة ، والناس مبثوثون على الرمال الناعمة يصلون أنفسهم . فلا ترى فى هذا المكان الآمن غير الاجساد المطروحة . والمظلات المدقوقة ، والنمارق المصفوفة .
اكتظ الشاطئ بالنساء والرجال والكبار والصغار ، تراهم فى أروع تصوير وأحسن تقويم . اشرأبت الاعناق وتلامست الاكتاف ، وتلاحمت الابدان المتمايلة كأغصان البان ، جو يوحى بالحسن والجمال وبالالهام والخيال .
ها هو السيد توفيق ، ذلك الرجل الغنى الانيق ، يحادث ابنته الوحيدة سعاد ، انها شابة فى مقتبل العمر ، يافعة جميلة مفاتنها مليحة ، وصورتها بديعة وشعرها أشقر طويل منساب على كتفين رقيقتين حمراوين مرمريتين ، عيناها زرقاوان ساحرتان ، ووجهها يأخذ بمجامع القلوب .
لم يكن يعرف السيد توفيق أن ابنته الصبية تشبه تماما أمها المرحومة لم يكن ليعرف ذلك لولا هذا اليوم . . انها نسخة من أمها فى قوامها واعتدالها وجمالها . كان السيد توفيق يديم النظر فيها بين الحين والحين ، فتعاوده الذكرى الطيبة ، ذكرى الزوجة الحبيبة التى فارقته دون سابق اعلام ، تاركة اياه وحيدا حزينا كئيبا ، فما أقسى الحياة وأمرها ! ؟ وما أفظع الموت حين يفاجئنا ! ؟ فلو لم تكن سعاد بجانبه لمات حسرة ، فهى اليوم حبيبته وأنيسته ومستقبله . ربما كانت تسبب له الآلام والاحزان ، ربما كانت تحد من تصرفاته . لكنها دائما فرحته ورجاؤه .
هاهى تظهر مفاتنها وتعبث بشعرها الذهبى ، وترفع رأسها فتقابل الشمس الساطعة ، وتلقى بظهرها على الكرسى الطويل ، فتمد رجليها ، أمام الأعناق تشرئب نحوها ، والنفوس تتوق اليها ، لكن سعاد غير عائبه بأحد .
تناول السيد توفيق ما لذ له وطاب ، فهواء البحر يحثه على الأكل ويحرضه على الشرب ، لقد شبع الآن ، هذه ابنته تأخذ حماما من الشمس ، لماذا هو الآخر لا يصطلى . استلقى على ظهره فوق الرمال عارضا وجهة ، وصدره وبطنه لخيوط الشمس البيضاء المحرقة التى بدأت تلفحه ، هبت على جسده العارى نسيمات البحر المنعشة اللذيذة فدغدغت أنفه وبشرته الرقيقة ولطفت من لوعة القيظ . سرت فى كيانه نشوة محببة ، نظر فى ابنته فبدت له ساحرة ، رجع اليه رشده ، دار على بطنه عرض ظهره الى عين الشمس ، بقى يسترق النظرات ، الى هذه وتلك ، ظهرت له غاية من السيقان المرمرية المصقولة ، بدت له الصدور والأرداف فى ألوان مختلفة ، كل الوان الدنيا هنا ، كل المحاسن والمفاتن على هذا الشاطئ الرملى الهادىء الجميل .
ابنته تدهن كتفيها وزنديها بزيت الشواطئ ، تطلى خصرها وبطنها وصدرها ، الشمس نار والطلاء زيت وذاك الجسد لحم طرى ، تريد سعاد ان تكون لحما مشويا أسمر اللون .
السيد توفيق ينقلب على ظهره ، يشوى لحمه فيحمر ، السيد توفيق رجل عصرى وكيف لا وهو صاحب الاموال الطائلة وسطه الجديد جعله سهلا لينا مطواعا . السيد توفيق تهدهده نسيمات لطيفة . لذيذة ومنعشة . انه يفكر ، هواجس تداعب خياله ، النعاس يغلق عينيه انها القيلولة ، الاحلام تراوده (( لماذا بنـى الاطفال قصورا من تراب ؟ هل يقلدون الكبار أم انهم يشبعون رغباتهم ويحققون أحلامهم هل يريدون طي المراحل سريعا ؟ ! ياكله الكبار يحلمون بالطفولة العذية ، والصغار يبغون الكهولة ! سعاد ابنتى تحرجنى دائما . انها قبلة الناظرين )) .
السيد توفيق جاءته سنة من نوم فغفا فسمع ورأى
(( هناك فى السماء وزرقتها شبح أبيض شفاف ، يتحرك ، يدعو من الأرض يقترب من البحر ، انه يكبر يتضخم . انتبه اليه القوم الحفاة
العراة فتطاولت نحوه الاعناق ، فالوجوه فى دهشة ، والقلوب فى اخفاق ، وتعثرت الساق بالساق ، وفغرت الافواه وقد أصابها وجوم غريب ، وساد الشاطئ سكون ثقيل رتيب . وغمر الجو خوف رهيب ، الجسد الغريب يدنو من الارض رويدا رويدا ويقترب ، والقلوب الواجفة تضطرب ، تكاد من أمكنتها تنسل لتنهار الاجسام الخاوية وتضمحل ! تساءل القوم وتهامسوا : قد يكون صاروخا ؟ ! قد يكون طبقا طائرا مدمرا ؟ ! انه الجان ، لكن الجان لا يرى ! انه الملاك . لكن الملاك لا يظهر للعيان ! ؟ لا . . لا . . ليس من الانس ولا من الجان انه العفريت يا الاهى يا رب . يا لطيف .
ارتاع القوم من هول ما رأوا فهرعوا ، وفى الفرار فكروا لكن أين المفر وأين المخبأ والمقر ؟ ! فالبحر من أمامهم والخلاء من ورائهم . دنا النور الهائل من الارض ، بقى معلقا فى الفضاء ، انه فى صورة طبق طائر لكنه كثير الاجنحة ، نوره أبيض صاف يبهر الابصار يشع ضياء يعشى الانظار لماذا لا يكون جبرائيل ؟ ! وما ادرانا بجبرائيل وما شأنه بنا ! قالوا انه اسرافيل فهل ستنتهى الدنيا يا لمصيبتنا ! قد يكون عزرائيل يا الاهنا ستزهق ارواحنا ! قالوا قد يكون ميكائيل ، يا هولنا ويا دمارنا وبا هلاكنا !
وهم الحفاة العراة بالفرار ، ودارت وجوههم الى الوراء يبغون الاختفاء ولاذوا بالطريق .
اختلط الحابل بالنابل ، وتفرقوا كالقطيع الجافل لكنهم سمعوا أصواتا عالية من آذانهم دانية وفجأة توقفوا ، وفي الارض تسمروا ، واستمروا لرؤوسهم رافعين ، والى الجرم الهائل متطلعين ، والى صوته العالى صائخين ، فى خشوع وابتهال وخوف واذلال ، لان المنظر لوحة راقصة على خشبة المسرح معبرة عن الهلع والرعب والفزع .
شرع النور الساطع فى الكلام ، فكان صوته يصك الأذان : (( يا أيها الناس اسمعوا وعوا والى انتبهوا ، جئت اليكم أنفخ فى البوق لاعلمكم ، فأين تذهبون ؟ وأماكنكم لا تغادرون . تحسبون ان لن يقدر عليكم أحد . فبامكاننا قيدكم الى الابد ، فكيف تفرون وقد كنتم لانفسكم تحسبون ، ان لم يخلق مثلها فى البلاد ولا حتى بين العباد . وجوهكم راضية ناعمة ، مستبشرة ضاحكة ، كانت أجسادكم ممدودة مطروحة والافخاذ مرفوعة ، والنهود منفوخة ، والأرداف مهزوزة والاعناق ممدودة ، والعيون ساحرة
مسحورة ، والشعور مسدولة ، مناضدكم منصوبة ، وأكوابكم موضوعة ، بعضكم مستلقون على القنا يصطلون ، يحلمون ، وبعضكم يمشون ويجيئون ، يتنزهون ، بثرثرون واذا مروا بالنساء الكواعب ينظرون ، ويبتسمون والى بعضهن يتغامزون ، أو يتوقفون فيتحدثون وبعضكم يدخلون الماء ، يتبردون ويسبحون ، ثم ينقلبون الى مظلاتهم وهم يتفكهون ، فيرتمون على الارائك يستريحون . ويطوف عليهم غلمان بيض ، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا يحملون أوانى من فضة عليها طعام شهى ، وأكواب وقوارير ، فيأكلون هنيئا ويشربون مريئا ، وفي ذلك يتنافس المتنافسون ويتظاهر المراؤون ، ويندفع البخلاء يريدون ان ينعموا يوما ، فيصرفون المال ويبذرون ، وهم لا يحزنون وكيف يحزنون ، وهم بأنظارهم يجولون بين الحسان ذات الجمال والدلال . فلا تفكرون أنتم فى الفقير ، ولا تسألون عن اليتيم ولا تنظرون الى المسكين . تأكون المال أكلا لما وتختارون الاشياء كيفا وكما ، تتباهون وتفتخرون وتتنافسون منعتم عنكم الصلاة والرحمة والصدقة والزكاة ، وتناسيتم المصير والدنيا بكم تسير . تتعرون كما لو كنتم فى العصور البدائية ، غير مبالين بالقيم الاخلاقية ولا المبادئ الدينية .
التفت السيد توفيق الى غادة حسناء كانت بجواره قال : هل يكون هذا اليوم الموعود ؟ ! هل يكون هذا طارقا من السماء ؟ ! أجابته مرتعدة ، ماذا قدمنا لانفسنا ؟ ! .
ويواصل الجرم الساطع كلامه : لهذا ومثله جئت اليكم أخبركم ، فما حساب بعد اليوم ، فلا تنتظرون العقاب ولا ترتجون الثواب . لقد حصل ما فى الصدور . وتم غلق الكتاب . فافعلوا ما شئم ، وطاب لكم ما تحدثكم به نفوسكم وما تمليه عليكم ضمائركم وعواطفكم ، ومشاعركم . انه القول الفصل وما هو بالهزل . وسرى الجرم الغريب الى الاثير ، أخذ يصعد ويصعد ، حتى أصبح صغيرا . فتلاشى مع ضوء النهار وتوارى عن الانظار . تاركا القلوب واجفة والابصار خاشعة ترنو اليه فى صمت ورهبة والاجساد مرتعدة والوجوه شاحبة كالحة والافواه فاغرة .
تفرق القوم بين مهلل ومكبر ، وبين محبذ ومنكر وبين مستفسر ومفسر ، حتى أصابتهم الصاعقة ، صوت مزعج لفت انتباههم ، وهز كيانهم ، توجهوا نحو الهاتف فاذا بسيارة شرطة كبيرة تنادى فى الابواق :
(( أيها الناس ، أيها الناس ، هل أتاكم حديث الطارق من السماء ؟ فبعده جاء اليسر بعد العسر ، وبعده صدر هذا الامر عن الدولة العلية ، جئنا نمليه عليكم بناء على سيرة هذه البلاد الطيبة ، وبناء على الطاعة والولاء والتسامح والاخاء ، قررت الحكومة أن لا عقاب بعد اليوم ، فلا قانون يردعكم ولا محاسب يحاسبكم ، فاصنعوا ما شئتم ، وارضوا ضمائركم ، فلا تكبتوا غرائزكم ، فأنتم اليوم طلقاء أحرار ، اذ لا عقاب ولا حساب بعد اليوم . والسلام عليكم من الآن فصاعدا )) .
وما ان بارحت السيارة الشاطئ حتى ارتفعت صيحة عالية في السماء واذا بالسيد توفيق برفع يديه ويهلل . واذا بالمرأة بجواره ترتمى فى عنقه ، واذا به يحتضنها ، واذا به ينتبه ، فيتذكر ابنته ، واذا بالشمس تلدغه وتلسعه فى وجهه وصدره . . . واذا به يصحو من غفوته ويردد : لا . . . لا ، سعاد ؟ ! سعاد ؟ ! أين أنت يا ابنتى ؟ !
